Asharq Al-Awsat Saudi Edition

استعادة الموصل وعودة العراق

- غسان شربل

لـــم يــكــن مـتـوقـعـاً لـدويـلـة »داعـــش« أن تعمر طــويــلاً. لا الـــعـــر­اق يـسـتـطـيـ­ع الـتـعـايـ­ش مــــع ورم ســـرطـــا­نـــي مــــن هــذا الـــنـــو­ع. ولا إقـلـيـم كـردسـتـان يستطيع القبول بجار بهذه الــــخـــ­ـطــــورة. دول المــنــطـ­ـقــة لا يمكنها التساهل. والعالم لا يمكنه التسامح. أثارت دويلة البغدادي قلق الجميع. وكان لا بد من قـرار باستئصالها. وهذا ما حصل.

ومنذ البداية قال الخبراء إن هــــــذه الــــدويـ­ـــلــــة مـــوعـــو­دة بــــالـــ­ـســــقـــ­ـوط. وإن الإرهـــــ­ــــاب يــــرتـــ­ـكــــب خــــطــــ­أ قــــــاتـ­ـــــلاً حــين يــصــبــح لــــه عــــنــــ­وان مــعــروف يـــمـــكـ­ــن الانــــقـ­ـــضــــاض عــلــيــه. وإن قــــوة الإرهـــــ­ــاب أصـــــلاً أن يـكـون متخفياً ومـفـاجـئـ­اً ولا يـمـلـك عــنــوانـ­ـاً لـتـدفـيـع­ـه ثمن ارتكاباته.

ومن حق السلطة العراقية أن تــحــتــف­ــل بـــالـــن­ـــصـــر. كـــان تحصن »داعــش« في الموصل تـهـديـداً خـطـيـراً لاسـتـقـرا­رهـا ووجـــــــ­ـودهــــــ­ــا. كـــــــان مـــشـــرو­ع مــــذبـــ­ـحــــة مـــفـــتـ­ــوحـــة وفـــتـــن­ـــة دائـمـة. ولا مبالغة فـي القول إن الانـــتــ­ـصـــار الـــــــذ­ي تـحـقـق محا صورة مؤلمة ظهرت قبل ثلاث سنوات يوم استسلمت قــطــعــا­ت كــامــلــ­ة مـــن الـجـيـش العراقي أمام »داعش« ومكنته مــن الاســتــي­ــلاء عـلـى تـرسـانـة كاملة من أسلحتها الأميركية الـــــحــ­ـــديـــــ­ثـــــة. قـــــــــ­ـدم الـــجـــي­ـــش الـــعـــر­اقـــي تــضــحــي­ــات كـبـيـرة لمــحــو تــلــك الــــصـــ­ـورة وإنـــقـــ­اذ المدينة والبلاد. وكانت قوات الـبـيـشـم­ـركـة قــدمــت بــدورهــا تضحيات كبيرة لإحباط حلم »داعش« التحصن في الإقليم والـتـمـرك­ـز عــبــره عـلـى حــدود إيران وتركيا وسوريا.

ومــن حـق حـيـدر العبادي أن يرفع يده تحية للقوات التي تحتفل بـالـنـصـر. إنــه رئيس الـوزراء والقائد العام للقوات المـسـلـحـ­ة. والأكــيــ­د أن مصير مـوقـعـه وتـجـربـتـ­ه كــان معلقاً عـلـى نـتـائـج مـعـركـة المـوصـل. والـــيـــ­وم بـاسـتـطـا­عـتـه الــقــول إن الــجــيــ­ش انــدحـــر فــي عهد سلفه لكنه انتصر في عهده. وإن الموصل سقطت في عهد المـالـكـي واسـتـعـيـ­دت فـي عهد العبادي. وإن انتصار الموصل يضاعف شرعيته داخل حزبه والمــــكـ­ـــون الـــــذي يـنـتـمـي إلـيـه وكذلك على الصعيد الوطني. وهـــــذا لــيــس قــلــيــل­اً بـالـنـسـب­ـة إلــى مـن يـعـرف قـصـة العلاقة الـشـائـكـ­ة بــين رئـيـس الــــوزرا­ء الحالي وسلفه الذي بقي ظله مهيمناً على الحياة السياسية رغم خروجه من مكتبه تحت وطأة كارثة الموصل.

في الحديث عن الانتصار على »داعش« لا بد من الالتفات إلــى مـا سـبـق اسـتـيـلاء ه على المـــــــ­وصـــــــل. والــــحــ­ــقــــيــ­ــقــــة هــي أن الـتـنـظـي­ـم ولــــد عـمـلـيـاً من مــجــمــو­عــة أخــــطـــ­ـاء وخــطــايـ­ـا وسـيـاسـات فئوية وتـدخـلات إقليمية رافقت التصدع الذي أصــــــاب الــتــركـ­ـيــبــة الــعــراق­ــيــة والعلاقات بين مكوناتها.

ولد »داعـش« على مسرح شـهـد تـعـاقـب قـــرارات خاطئة وسياسات مستفزة. لا يصح أن نــنــســى قـــــرار بــــول بـريـمـر حـل الـجـيـش الـعـراقـي وبـعـده قــرار اجتثاث »الـبـعـث«، وهو مـا دفــع عسكريين مـن جيش صــــــدام حــســين إلـــــى أحــضــان المقاومة أولاً، ثم إلى أحضان الــتــنــ­ظــيــمــا­ت »الـــجـــه­ـــاديـــة«، وصولاً إلى تنظيم البغدادي. ولـــد أيــضــاً لأن الــفــريـ­ـق الــذي انتصر وهو شيعي لم يسارع إلى وضع انتصاره في تصرف مشروع دولة تتسع للجميع. قـسـم مــن هــذا الـفـريـق تعامل مـع الانـتـصـا­ر بـوصـفـه بـدايـة لـتـصـفـيـ­ة حـــســـاب تــاريــخـ­ـي، مـا فتح الـبـاب لتأسيس ظلم جــديــد انـطـلاقـاً مــن الــثــأر من ظلم سابق.

لا الــفــريـ­ـق الـــــذي انـتـصـر أحـــســـن إدارة انـــتـــص­ـــاره ولا الـــفـــر­يـــق الــــــذي خــســر أحــســن انـــتـــه­ـــاج ســـيـــاس­ـــة تـــحـــد مـن الــخــســ­ائــر. ثـمـة واقــعــة لافـتـة في هـذا السياق. بعد سقوط صـــــــدا­م حـــســـين زار وفـــــد مـن فاعليات العرب السنة رئيس إقـــلـــي­ـــم كــــردســ­ــتــــان الـــعـــر­اقـــي مسعود بــارزانــ­ي للبحث في مـسـتـقـبـ­ل الـــوضـــ­ع الــعــراق­ــي. خـــلال الــلــقــ­اء نـصـح بــارزانــ­ي أعـضـاء الـوفـد بتشكيل هيئة تـنـطـق بــاســمــ­هــم وتــعــبــ­ر عـن هـــــواجـ­ــــســـــ­هـــــم ومــــخـــ­ـاوفــــهـ­ـــم وتستطيع التحدث إلى ممثلي المكونات الأخرى.

قـــــال بـــــارزا­نـــــي لــلــوفــ­د إن المــــهــ­ــم هـــــو تــجــنــي­ــب الــــعـــ­ـراق صـدامـاً دمـويـاً بـين المكونات. واعتبر أن على العرب السنة الــتــفــ­كــيــر فـــــي مـــوقـــع­ـــهـــم فـي الـــعـــر­اق الــجــديـ­ـد لأن الــعــودة إلى الماضي مستحيلة. وأشار إلـــــى أن الـــدســـ­تـــور الــعــراق­ــي يتضمن الحق في قيام أقاليم تـبـقـي الــعــراق مــوحــداً لكنها تـــقـــلـ­ــص أســـــبــ­ـــاب الاحـــتــ­ـكـــاك والتصادم بين المكونات. وأن عــلــى الــعــرب الــســنــ­ة الـتـفـكـي­ـر في خياراتهم المستقبلية لأن انقساماتهم ستجعل الحلول تـتـم عـلـى حـسـابـهـم. لـم يتفق زعـــمـــا­ء الـــعـــر­ب الــســنــ­ة. قـسـم اســتــقــ­طــبــه الـــوضـــ­ع الــجــديـ­ـد ّوأغـــــــ­ـــــراه بـــمـــكـ­ــاســـب، وقــســم تـعـنـت وتـمـسـك بـحـلـم إعـــادة عــقــارب الــســاعـ­ـة إلـــى الـــــورا­ء. ومع تقلص ّالحضور الجدي للمكون السُني في المؤسسات الـعـسـكـر­يـة والأمـنـيـ­ة ودوائـــر صــنــاعــ­ة الــــقـــ­ـرار، ومــــع تــزايــد الــــــــ­ـدور الإيــــــ­رانــــــي فــــي إدارة الــعــراق، وقــع جــزء ّمــن الــرأي العام في المناطق السُنية تحت جاذبية الخيارات الانتحارية وعــثــر »داعـــــــ­ش« عــلــى نــافــذة للتسلل منها.

لا يــرمــي هـــذا الــكــلام إلـى الـتـقـلـي­ـل مــن حـجـم الانـتـصـا­ر الــــــذي أثــــــار ارتـــيـــ­احـــاً عـربـيـاً وإسلامياً ودولياً. إنه يهدف إلــى الـقـول إن الانـتـصـا­ر على مسلحي »داعش« في الموصل لا يعني نهاية التنظيم الذي قــد يــعــود أكــثــر خــطــورة حين يـصـبـح بــلا عــنــوان مــعــروف. وأن الانــتــص­ــار عــلــى المـسـلـح »الداعشي« قد يكون أسهل من الانتصار على فكرة »داعش« نفسها. الانتصار الدائم على الــظــروف الــتــي سـهـلـت ولادة »داعـــش« يستلزم إصـلاحـات وإعــــادة الـنـظـر فــي سـيـاسـات والبدء ببناء دولة المؤسسات في العراق. وهذا يعني اعتماد مــــبــــ­دأ المــــواط­ــــنــــة والــــشــ­ــراكــــة الـوطـنـيـ­ة واحــتــرا­م الـدسـتـور وترميم هيبة الدولة وقدرتها عــلــى صــنــاعــ­ة قـــراراتـ­ــهـــا فـي بغداد.

لمـنـع عـــودة »داعـــــش« إلـى هــــذه المــديــن­ــة أو تــلــك. ولمـنـع ولادة ما يشبه »داعش« أو ما هو أخطر منه، لا بد للعبادي مـن تـحـويـل انـتـصـار المـوصـل إلى تفويض بالعودة إلى بناء الــدولــة الـعـراقـي­ـة عـلـى قـاعـدة المـصـالـح­ـة والمــشــا­ركــة، وهـي قــاعــدة تـتـخـطـى المـحـاصـص­ـة الطائفية والمذهبية.

عــلــى حــيــدر الـــعـــب­ـــادي أن الكتاب الاعتراف بالنجاحات التي تتحقق، والإشادة بها.

ثــــــانـ­ـــــيــــ­ــاً: يــــكــــ­تــــســــ­ب عــلــم الاقـــتــ­ـصـــاد، يــومــاً بــعــد آخـــر، طـــابـــع­ـــاً تـــجـــري­ـــبـــيــ­ـاً، ويـــركـــ­ز على نحو أكبر على تفحص الـبـيـانـ­ات عــن بـنـاء مـزيـد من الـــنـــظ­ـــريـــات. ومـــــن نــاحــيــ­تــه، عـــكـــف الــــعـــ­ـالــــم الاقــــتـ­ـــصــــاد­ي دانـــــيـ­ــــيـــــ­ل هــــامـــ­ـرمــــيــ­ــش عــلــى تفحص الأبحاث التي نشرت في كبريات الدوريات العلمية الاقـــــت­ـــــصــــ­ـاديـــــة عــــــــا­م ٢٠١٣، واكتشف أن ثمة تحولاً قوياً عـلـى صـعـيـد عـلـم الاقـتـصـا­د، بــعــيــد­اً عـــن الـــنـــظ­ـــريـــات، مـنـذ مــنــتــص­ــف ثــمــانــ­يــنــات الــقــرن الماضي.

ثــــــــا­لــــــــث­ــــــــاً: أصــــــــ­بــــــــح عـــلـــم الاقـــتــ­ـصـــاد الــتــجــ­ريــبــي أكـثـر اتــصــالاً بالسياسات المتبعة عــلــى أرض الــــواقـ­ـــع. وجــديــر بـالـذكـر أن ثـمـة نـمـطـاً جـديـداً شــائــعــ­اً مـــن الأبـــحــ­ـاث، غـالـبـاً ما يطلق عليه علم الاقتصاد شـبـه الـتـجـريـ­بـي، يعمل على تــقــيــي­ــم نـــتـــائ­ـــج الــســيــ­اســات الجديدة، مثل الزيادة الأخيرة التي أقرتها مدينة سياتل في يلتفت إلى ساعته. الصعوبات هائلة والضغوط كثيرة. لكن جعل معركة استعادة الموصل بـدايـة لـعـودة الـعـراق تستحق المـغـامـر­ة. عـــودة الــعــراق دولـة طبيعية بعد ترميم العلاقات بـــين المـــكـــ­ونـــات. وإذا ســـادت هذه الـروح في بغداد سيمكن العثور بالتأكيد على صيغة لإبقاء إقليم كردستان جزءاً من الـعـراق، حتى ولـو قـال المكون الكردي كلمته في الاستفتاء.

عـــــــــ­ــودة الــــــــ­عــــــــر­اق حـــاجـــة عراقية ملحة. وحاجة عربية وإقــلــيـ­ـمــيــة. انــكــســ­ار الـضـلـع العراقي أطلق شهيات الـدول غـــيـــر الـــعـــر­بـــيـــة فــــي الإقـــلــ­ـيـــم. ّوانــــكــ­ــســــار الـــضـــل­ـــع الــعــربـ­ـي السُني في الداخل أطلق عملية الــتــفــ­كــك والــــتــ­ــشــــرذم وحـــــوّل الـــعـــر­اق مــســرحــ­اً لمـيـلـيـش­ـيـات الـــــداخ­ـــــل والـــــــ­خـــــــار­ج. الـــكـــل­ام الأخير للمرجعية عن ضرورة تـسـاوي جميع العراقيين من كـــل المـــكـــ­ونـــات أمـــــام الــقــانـ­ـون يجب أن يشجع العبادي على الذهاب أبعد في هذه المحاولة.

لا تكفي استعادة الموصل. لا بــد مــن عــــودة الـــعـــر­اق إلــى وحــدتــه ومـؤسـسـات­ـه وحـريـة قراره واحترام حدوده. العراق لــيــس دولــــة هــامــشــ­يــة. لا في الـجـغـراف­ـيـا ولا فــي الـتـاريـخ. ووحدها يقظة الروح العراقية بــعــيــد­اً عـــن مــشــاعــ­ر الـشـطـب والاستئثار والتعصب تحمي الكيان وتمنع عودة »داعش« وأخــواتــ­ه إلــى هــذه الـبـلـدة أو تلك المدينة. الـحـد الأدنــــى مــن الأجــــور، أو قبول دول أوروبية للاجئين.

وبـــدلاً عــن الاعـتـمـا­د على نظرية معقدة، أو افتراضات غير واقعية، تطرح الدراسات شـــبـــه الــتــجــ­ريــبــيــ­ة إجــــابــ­ــات واضـــحـــ­ة بــخــصــو­ص نـتـائـج الإجــــــ­ـراء ات الـحـكـومـ­يـة. ومـع أن هــذا لـيـس مـن شـأنـه جعل الـــــنــ­ـــظـــــر­يـــــات الاقــــتـ­ـــصــــاد­يــــة مـحـصـنـة ضـــد الــخــطــ­أ، فـإنـه ســـيـــزي­ـــد بــــدرجــ­ــة بـــالـــغ­ـــة مـن سرعة تقديم علماء الاقتصاد معلومات ارتجاعية موثوق بها لصانعي السياسات.

رابعاً وأخيراً: حتى لو كان علم الاقتصاد قد مال بقوة في وقت مضى نحو آيديولوجية السوق الحرة، فإن الوضع لم يعد كـذلـك الآن، ذلــك أن كبار الخبراء الاقتصاديي­ن يميلون حالياً على نحو أكبر باتجاه يــــســــ­ار الـــطـــي­ـــف الـــســـي­ـــاســـي، إضـافـة إلــى أن الاقـتـصـا­ديـين بـــوجـــه عـــــام أصـــبـــح­ـــوا أكــثــر وقـــوفـــ­اً إلــــى صـــف الــحــكــ­ومــة عن الـرأي العام بشأن غالبية القضايا.

* بالاتفاق مع »بلومبيرغ«

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia