استعادة الموصل وعودة العراق
لـــم يــكــن مـتـوقـعـاً لـدويـلـة »داعـــش« أن تعمر طــويــلاً. لا الـــعـــراق يـسـتـطـيـع الـتـعـايـش مــــع ورم ســـرطـــانـــي مــــن هــذا الـــنـــوع. ولا إقـلـيـم كـردسـتـان يستطيع القبول بجار بهذه الــــخــــطــــورة. دول المــنــطــقــة لا يمكنها التساهل. والعالم لا يمكنه التسامح. أثارت دويلة البغدادي قلق الجميع. وكان لا بد من قـرار باستئصالها. وهذا ما حصل.
ومنذ البداية قال الخبراء إن هــــــذه الــــدويــــلــــة مـــوعـــودة بــــالــــســــقــــوط. وإن الإرهـــــــــاب يــــرتــــكــــب خــــطــــأ قــــــاتــــــلاً حــين يــصــبــح لــــه عــــنــــوان مــعــروف يـــمـــكـــن الانــــقــــضــــاض عــلــيــه. وإن قــــوة الإرهـــــــاب أصـــــلاً أن يـكـون متخفياً ومـفـاجـئـاً ولا يـمـلـك عــنــوانــاً لـتـدفـيـعـه ثمن ارتكاباته.
ومن حق السلطة العراقية أن تــحــتــفــل بـــالـــنـــصـــر. كـــان تحصن »داعــش« في الموصل تـهـديـداً خـطـيـراً لاسـتـقـرارهـا ووجــــــــودهــــــــا. كـــــــان مـــشـــروع مــــذبــــحــــة مـــفـــتـــوحـــة وفـــتـــنـــة دائـمـة. ولا مبالغة فـي القول إن الانـــتـــصـــار الـــــــذي تـحـقـق محا صورة مؤلمة ظهرت قبل ثلاث سنوات يوم استسلمت قــطــعــات كــامــلــة مـــن الـجـيـش العراقي أمام »داعش« ومكنته مــن الاســتــيــلاء عـلـى تـرسـانـة كاملة من أسلحتها الأميركية الـــــحـــــديـــــثـــــة. قــــــــــدم الـــجـــيـــش الـــعـــراقـــي تــضــحــيــات كـبـيـرة لمــحــو تــلــك الــــصــــورة وإنـــقـــاذ المدينة والبلاد. وكانت قوات الـبـيـشـمـركـة قــدمــت بــدورهــا تضحيات كبيرة لإحباط حلم »داعش« التحصن في الإقليم والـتـمـركـز عــبــره عـلـى حــدود إيران وتركيا وسوريا.
ومــن حـق حـيـدر العبادي أن يرفع يده تحية للقوات التي تحتفل بـالـنـصـر. إنــه رئيس الـوزراء والقائد العام للقوات المـسـلـحـة. والأكــيــد أن مصير مـوقـعـه وتـجـربـتـه كــان معلقاً عـلـى نـتـائـج مـعـركـة المـوصـل. والـــيـــوم بـاسـتـطـاعـتـه الــقــول إن الــجــيــش انــدحـــر فــي عهد سلفه لكنه انتصر في عهده. وإن الموصل سقطت في عهد المـالـكـي واسـتـعـيـدت فـي عهد العبادي. وإن انتصار الموصل يضاعف شرعيته داخل حزبه والمــــكــــون الـــــذي يـنـتـمـي إلـيـه وكذلك على الصعيد الوطني. وهـــــذا لــيــس قــلــيــلاً بـالـنـسـبـة إلــى مـن يـعـرف قـصـة العلاقة الـشـائـكـة بــين رئـيـس الــــوزراء الحالي وسلفه الذي بقي ظله مهيمناً على الحياة السياسية رغم خروجه من مكتبه تحت وطأة كارثة الموصل.
في الحديث عن الانتصار على »داعش« لا بد من الالتفات إلــى مـا سـبـق اسـتـيـلاء ه على المـــــــوصـــــــل. والــــحــــقــــيــــقــــة هــي أن الـتـنـظـيـم ولــــد عـمـلـيـاً من مــجــمــوعــة أخــــطــــاء وخــطــايــا وسـيـاسـات فئوية وتـدخـلات إقليمية رافقت التصدع الذي أصــــــاب الــتــركــيــبــة الــعــراقــيــة والعلاقات بين مكوناتها.
ولد »داعـش« على مسرح شـهـد تـعـاقـب قـــرارات خاطئة وسياسات مستفزة. لا يصح أن نــنــســى قـــــرار بــــول بـريـمـر حـل الـجـيـش الـعـراقـي وبـعـده قــرار اجتثاث »الـبـعـث«، وهو مـا دفــع عسكريين مـن جيش صــــــدام حــســين إلـــــى أحــضــان المقاومة أولاً، ثم إلى أحضان الــتــنــظــيــمــات »الـــجـــهـــاديـــة«، وصولاً إلى تنظيم البغدادي. ولـــد أيــضــاً لأن الــفــريــق الــذي انتصر وهو شيعي لم يسارع إلى وضع انتصاره في تصرف مشروع دولة تتسع للجميع. قـسـم مــن هــذا الـفـريـق تعامل مـع الانـتـصـار بـوصـفـه بـدايـة لـتـصـفـيـة حـــســـاب تــاريــخــي، مـا فتح الـبـاب لتأسيس ظلم جــديــد انـطـلاقـاً مــن الــثــأر من ظلم سابق.
لا الــفــريــق الـــــذي انـتـصـر أحـــســـن إدارة انـــتـــصـــاره ولا الـــفـــريـــق الــــــذي خــســر أحــســن انـــتـــهـــاج ســـيـــاســـة تـــحـــد مـن الــخــســائــر. ثـمـة واقــعــة لافـتـة في هـذا السياق. بعد سقوط صـــــــدام حـــســـين زار وفـــــد مـن فاعليات العرب السنة رئيس إقـــلـــيـــم كــــردســــتــــان الـــعـــراقـــي مسعود بــارزانــي للبحث في مـسـتـقـبـل الـــوضـــع الــعــراقــي. خـــلال الــلــقــاء نـصـح بــارزانــي أعـضـاء الـوفـد بتشكيل هيئة تـنـطـق بــاســمــهــم وتــعــبــر عـن هـــــواجـــــســـــهـــــم ومــــخــــاوفــــهــــم وتستطيع التحدث إلى ممثلي المكونات الأخرى.
قـــــال بـــــارزانـــــي لــلــوفــد إن المــــهــــم هـــــو تــجــنــيــب الــــعــــراق صـدامـاً دمـويـاً بـين المكونات. واعتبر أن على العرب السنة الــتــفــكــيــر فـــــي مـــوقـــعـــهـــم فـي الـــعـــراق الــجــديــد لأن الــعــودة إلى الماضي مستحيلة. وأشار إلـــــى أن الـــدســـتـــور الــعــراقــي يتضمن الحق في قيام أقاليم تـبـقـي الــعــراق مــوحــداً لكنها تـــقـــلـــص أســـــبـــــاب الاحـــتـــكـــاك والتصادم بين المكونات. وأن عــلــى الــعــرب الــســنــة الـتـفـكـيـر في خياراتهم المستقبلية لأن انقساماتهم ستجعل الحلول تـتـم عـلـى حـسـابـهـم. لـم يتفق زعـــمـــاء الـــعـــرب الــســنــة. قـسـم اســتــقــطــبــه الـــوضـــع الــجــديــد ّوأغــــــــــــراه بـــمـــكـــاســـب، وقــســم تـعـنـت وتـمـسـك بـحـلـم إعـــادة عــقــارب الــســاعــة إلـــى الـــــوراء. ومع تقلص ّالحضور الجدي للمكون السُني في المؤسسات الـعـسـكـريـة والأمـنـيـة ودوائـــر صــنــاعــة الــــقــــرار، ومــــع تــزايــد الـــــــــدور الإيــــــرانــــــي فــــي إدارة الــعــراق، وقــع جــزء ّمــن الــرأي العام في المناطق السُنية تحت جاذبية الخيارات الانتحارية وعــثــر »داعـــــــش« عــلــى نــافــذة للتسلل منها.
لا يــرمــي هـــذا الــكــلام إلـى الـتـقـلـيـل مــن حـجـم الانـتـصـار الــــــذي أثــــــار ارتـــيـــاحـــاً عـربـيـاً وإسلامياً ودولياً. إنه يهدف إلــى الـقـول إن الانـتـصـار على مسلحي »داعش« في الموصل لا يعني نهاية التنظيم الذي قــد يــعــود أكــثــر خــطــورة حين يـصـبـح بــلا عــنــوان مــعــروف. وأن الانــتــصــار عــلــى المـسـلـح »الداعشي« قد يكون أسهل من الانتصار على فكرة »داعش« نفسها. الانتصار الدائم على الــظــروف الــتــي سـهـلـت ولادة »داعـــش« يستلزم إصـلاحـات وإعــــادة الـنـظـر فــي سـيـاسـات والبدء ببناء دولة المؤسسات في العراق. وهذا يعني اعتماد مــــبــــدأ المــــواطــــنــــة والــــشــــراكــــة الـوطـنـيـة واحــتــرام الـدسـتـور وترميم هيبة الدولة وقدرتها عــلــى صــنــاعــة قـــراراتـــهـــا فـي بغداد.
لمـنـع عـــودة »داعـــــش« إلـى هــــذه المــديــنــة أو تــلــك. ولمـنـع ولادة ما يشبه »داعش« أو ما هو أخطر منه، لا بد للعبادي مـن تـحـويـل انـتـصـار المـوصـل إلى تفويض بالعودة إلى بناء الــدولــة الـعـراقـيـة عـلـى قـاعـدة المـصـالـحـة والمــشــاركــة، وهـي قــاعــدة تـتـخـطـى المـحـاصـصـة الطائفية والمذهبية.
عــلــى حــيــدر الـــعـــبـــادي أن الكتاب الاعتراف بالنجاحات التي تتحقق، والإشادة بها.
ثــــــانــــــيــــــاً: يــــكــــتــــســــب عــلــم الاقـــتـــصـــاد، يــومــاً بــعــد آخـــر، طـــابـــعـــاً تـــجـــريـــبـــيـــاً، ويـــركـــز على نحو أكبر على تفحص الـبـيـانـات عــن بـنـاء مـزيـد من الـــنـــظـــريـــات. ومـــــن نــاحــيــتــه، عـــكـــف الــــعــــالــــم الاقــــتــــصــــادي دانـــــيـــــيـــــل هــــامــــرمــــيــــش عــلــى تفحص الأبحاث التي نشرت في كبريات الدوريات العلمية الاقـــــتـــــصـــــاديـــــة عــــــــام ٢٠١٣، واكتشف أن ثمة تحولاً قوياً عـلـى صـعـيـد عـلـم الاقـتـصـاد، بــعــيــداً عـــن الـــنـــظـــريـــات، مـنـذ مــنــتــصــف ثــمــانــيــنــات الــقــرن الماضي.
ثــــــــالــــــــثــــــــاً: أصــــــــبــــــــح عـــلـــم الاقـــتـــصـــاد الــتــجــريــبــي أكـثـر اتــصــالاً بالسياسات المتبعة عــلــى أرض الــــواقــــع. وجــديــر بـالـذكـر أن ثـمـة نـمـطـاً جـديـداً شــائــعــاً مـــن الأبـــحـــاث، غـالـبـاً ما يطلق عليه علم الاقتصاد شـبـه الـتـجـريـبـي، يعمل على تــقــيــيــم نـــتـــائـــج الــســيــاســات الجديدة، مثل الزيادة الأخيرة التي أقرتها مدينة سياتل في يلتفت إلى ساعته. الصعوبات هائلة والضغوط كثيرة. لكن جعل معركة استعادة الموصل بـدايـة لـعـودة الـعـراق تستحق المـغـامـرة. عـــودة الــعــراق دولـة طبيعية بعد ترميم العلاقات بـــين المـــكـــونـــات. وإذا ســـادت هذه الـروح في بغداد سيمكن العثور بالتأكيد على صيغة لإبقاء إقليم كردستان جزءاً من الـعـراق، حتى ولـو قـال المكون الكردي كلمته في الاستفتاء.
عـــــــــــودة الــــــــعــــــــراق حـــاجـــة عراقية ملحة. وحاجة عربية وإقــلــيــمــيــة. انــكــســار الـضـلـع العراقي أطلق شهيات الـدول غـــيـــر الـــعـــربـــيـــة فــــي الإقـــلـــيـــم. ّوانــــكــــســــار الـــضـــلـــع الــعــربــي السُني في الداخل أطلق عملية الــتــفــكــك والــــتــــشــــرذم وحـــــوّل الـــعـــراق مــســرحــاً لمـيـلـيـشـيـات الـــــداخـــــل والـــــــخـــــــارج. الـــكـــلام الأخير للمرجعية عن ضرورة تـسـاوي جميع العراقيين من كـــل المـــكـــونـــات أمـــــام الــقــانــون يجب أن يشجع العبادي على الذهاب أبعد في هذه المحاولة.
لا تكفي استعادة الموصل. لا بــد مــن عــــودة الـــعـــراق إلــى وحــدتــه ومـؤسـسـاتـه وحـريـة قراره واحترام حدوده. العراق لــيــس دولــــة هــامــشــيــة. لا في الـجـغـرافـيـا ولا فــي الـتـاريـخ. ووحدها يقظة الروح العراقية بــعــيــداً عـــن مــشــاعــر الـشـطـب والاستئثار والتعصب تحمي الكيان وتمنع عودة »داعش« وأخــواتــه إلــى هــذه الـبـلـدة أو تلك المدينة. الـحـد الأدنــــى مــن الأجــــور، أو قبول دول أوروبية للاجئين.
وبـــدلاً عــن الاعـتـمـاد على نظرية معقدة، أو افتراضات غير واقعية، تطرح الدراسات شـــبـــه الــتــجــريــبــيــة إجــــابــــات واضـــحـــة بــخــصــوص نـتـائـج الإجـــــــراء ات الـحـكـومـيـة. ومـع أن هــذا لـيـس مـن شـأنـه جعل الـــــنـــــظـــــريـــــات الاقــــتــــصــــاديــــة مـحـصـنـة ضـــد الــخــطــأ، فـإنـه ســـيـــزيـــد بــــدرجــــة بـــالـــغـــة مـن سرعة تقديم علماء الاقتصاد معلومات ارتجاعية موثوق بها لصانعي السياسات.
رابعاً وأخيراً: حتى لو كان علم الاقتصاد قد مال بقوة في وقت مضى نحو آيديولوجية السوق الحرة، فإن الوضع لم يعد كـذلـك الآن، ذلــك أن كبار الخبراء الاقتصاديين يميلون حالياً على نحو أكبر باتجاه يــــســــار الـــطـــيـــف الـــســـيـــاســـي، إضـافـة إلــى أن الاقـتـصـاديـين بـــوجـــه عـــــام أصـــبـــحـــوا أكــثــر وقـــوفـــاً إلــــى صـــف الــحــكــومــة عن الـرأي العام بشأن غالبية القضايا.
* بالاتفاق مع »بلومبيرغ«