»فليت ستريت«... مجد الصحافة البريطانية وأطلالها
{مطابخ} التحرير ومكاتب الصحافيين تحولت إلى غرف محامين ومصرفيين
تـسـتـقـيـم المــبــانــي مـــن الـيـمـين والــيــســار مـعـانـقـة فـلـيـت سـتـريـت. تلك المباني كانت يوماً مهداً لولادة مـــطـــبـــوعـــات بـــريـــطـــانـــيـــا. صـنـعـت الـصـحـافـة مـجـدهـا هــنــاك ثــم هجر أهـلـهـا المــكــاتــب وتـــنـــاثـــروا. لا تــزال المـبـانـي شـاهـدة عـلـى حـقـبـة ذهبية عــاشــتــهــا الـــصـــحـــف الــبــريــطــانــيــة الـعـريـقـة. ولا يــزال الـشـارع اللندني مـزدحـمـاً، لكن رواده الـيـوم تناثروا بين سياح ومحامين ومصرفيين.
زرت فـلـيـت سـتـريـت الأســبــوع المــاضــي عـلـى أمـــل الـعـثـور عـلـى أي أثر خلفه الصحافيون بعد عزوفهم عـنـه فــي ثـمـانـيـنـات الــقــرن المـاضـي. مبنى »الـديـلـي تـلـغـراف« و»الـديـلـي إكــســبــريــس« أصــبــحــا مــلــكــاً لـبـنـك
َ »غولدمان ساكس «، ولم يتبق منهما غير ساعة التلغراف الشهيرة وطابع الإكـسـبـريـس المـعـمـاري المـمـيـز. كما تحول مكتب وكالة »رويترز« للأنباء إلى مطعم. المطبوعات الأخرى باتت مكاتب محاماة أو حتى بقالات.
لطالما ارتبط اسم فليت ستريت بالصحافة البريطانية المطبوعة، لـــكـــن مـــلامـــحـــه الــــيــــوم بــــــــددت ذلـــك الانطباع لدي مع أن تاريخه هو الذي اسـتـحـقـه لـقـب »شــــارع الـصـحـافـة.« جلست لاحتساء القهوة أمام إحدى مقاهيه ولوهلة تخيلت نفسي هناك، لكن قبل ٤ أو حتى ٥ عقود. مراسلون يركضون إلى مكاتبهم لكتابة سبق صـحـافـي فــي أمـــل الــتــفــوق عـلـى ما ستنشره الصحف المنافسة، رؤساء تحرير يتناولون وجـبـة الـغـداء في مطعمهم المعتاد على الشارع ذاته، وموظفو الطباعة يرشفون الشاي استعداداً لليلة طويلة من الصفحات والحبر. فجأة سألني سائح تائه عن الطريق إلى المترو وقطع رحلتي.
فـــي عــــام ١٤٩٥، أنــشــأ ويـنـكـين دي ورد، أول مطبعة في »شو لين«، الممر المتقاطع مـع »فليت ستريت«، وولـــــدت فــي تـلـك الــفــتــرة أيــضــا دار نــشــر لـــريـــتـــشـــارد بــيــنــســون بــقــرب كــنــيــســة ســـانـــت دنـــســـتـــان الــواقــعــة على شارع فليت. وأصبح اسما دي ورد وبـيـنـسـون مـرتـبـطـيْن بالكلمة المـطـبـوعـة والـتـنـويـر فــي بـريـطـانـيـا منذ ذلـك الـحـين. وتبعتهما مطابع ودور نشر أخـرى إلـى الـشـارع ذاتـه، وكــــان عـمـلـهـا الـرئـيـسـي هــو تـوفـيـر المواد القانونية لمحاكم العدل الملكية الواقعة في آخـر الـشـارع، إلـى جانب إصدارات نثرية ومسرحية.
وفـي مـارس (آذار) ١٧٠٢، صدر العدد الأول من أول صحيفة يومية لندنية: »ديـلـي كـورانـت« مـن هناك، ثـم صـدرت الـ »مورنينغ كرونيكل«. وبحلول عـام ١٧١٢ أصبح في لندن ١٢ صـحـيـفـة مـخـتـلـفـة. وبمنتصف ثلاثينات القرن الثامن عشر ازدادت المـطـبـوعـات وأصـبـح لــدى العاصمة الـبـريـطـانـيـة ٦ صـحـف يـومـيـة، و١٢ صحيفة تـصـدر ٣ مــرات أسبوعيا، و١٣ صحيفة أسبوعية. وكان مجمل التوزيع الأسبوعي للمطبوعات مائة ألـف نسخة، إلا أن النسخة الواحدة فـي تلك الأيــام كــان يـقـرأهـا نحو ٢٠ شخصا.
شـــعـــبـــيـــة الــــصــــحــــف قــيــدتــهــا الضرائب المفروضة عليها في القرن التاسع عشر. لكن في منتصف القرن، أعــفــيــت المــطــبــوعــات مـــن الــضــرائــب وأصبحت تكلفة النسخ لا تزيد على سنت واحــد، مما شجع ولادة كثير مــن المـطـبـوعـات وتـضـاعـف الشهية الشرائية. وبحلول عام ١٨٨٠ وصل عدد الصحف إلى ١٥ جريدة يومية، و٣٨٣ جـريـدة أسبوعية، إلـى جانب »لندن غازيت« التي كانت تصدرها الحكومة.
وعــلــى مــــدار الــســنــوات الـتـالـيـة تـحـول »فـلـيـت سـتـريـت« إلــى شــارع الـصـحـافـة الـبـريـطـانـيـة وعـصـبـهـا، وافتتحت جميع الصحف الشهيرة مــــــقــــــرات لــــهــــا هـــــنـــــاك فــــــي بـــــدايـــــات الــقــرن الــعــشــريــن، وانـتـقـلـت »ديـلـي إكـسـبـريـس« إلـــى بـنـايـة رقـــم ١٢١ - ١٢٨ عــلــى الـــشـــارع عــــام ١٩٣١، مـن تـصـمـيـم المــهــنــدس المــعــمــاري أويــن ويليامز، وكـانـت أول بناية بحائط زجــاجــي »curtain wall « فــي لـنـدن، وكــانــت جـارتـهـا مـنـافـسـتـهـا »ديـلـي تـلـغـراف« فـي بـنـايـة رقــم ١٣٥ - ١٤٢ الـتـي تتميز بساعة شهيرة لا تـزال مـوجـودة إلــى يـومـنـا هــذا. وتربعت أمــام الصحيفتين وكـالـة »رويــتــرز« للأنباء بمبنى شامخ يعلو مدخله تمثال »الشهرة«.
وصـــلـــت شـــهـــرة هــــــذا الـــشـــارع لـذروتـهـا فـي سـتـيـنـات وسبعينات الـقـرن المـاضـي. كــان الـقـلـب النابض لـــلـــصـــحـــافـــة والمــــــصــــــدر الـــرئـــيـــســـي للأخبار. وأطـلـق البعض عليه اسم »شارع الفضائح« لانتشار صحافييه ومــراســلــيــه فــي مـطـاعـمـه ومـقـاهـيـه بحثا عن تسريبات وقصص مثيرة مــن المــنــافــســين. وكــــان مــركــزاً مهماً لـلـمـشـوار المـهـنـي لأي صـحـافـي في البلاد؛ إذ تدرج منه أعلام المهنة.
الـتـكـنـولـوجـيـا كـانـت مـحـدودة في تلك الأيام والإرسال كان ضعيفا، فكان من الصعب إجـراء الاتصالات، وكان اعتماد الصحافيين أيضا على الـكـتـابـة بـالـقـلـم، والاسـتـعـانـة بـالآلـة الـكـاتـبـة لـصـف الأخــبــار. وكـــان لكل جـريـدة مطبعتها الـخـاصـة القابعة في قبو البناية. لذلك لطالما وُجدت الـشـاحـنـات المـحـمـلـة بـلـفـائـف الــورق الــضــخــمــة وهـــــي تــــحــــاول الـــدخـــول إلـــى الـــشـــوارع الـجـانـبـيـة لـتـوصـيـل شحناتها إلى المطابع. وكانت تعاود الــكــرة فــي المــســاء لـتـسـلـم الـطـبـعـات وتوزعيها.
أهل الصحافة يهجرون مكاتبهم
بــدأت سـطـوة شــارع الصحافة فــي الانــكــمــاش، وغــــاب عـنـه الـحـبـر تـــدريـــجـــيـــا، بـــعـــدمـــا قــــــرر روبــــــرت مـــــــيـــــــردوخ، مــــالــــك شــــركــــة »نـــيـــوز إنترناشيونال« عام ١٩٨٦، أن ينقل مـطـبـوعـاتـه »الــتــايــمــز« و»الــصــن« و»أخـــبـــار الــعــالــم« إلـــى مـقـر جـديـد فــي »وابـــيـــنـــغ«، بــعــيــدا عــن »فـلـيـت ستريت«.
كـــــــان قـــــــــرار مــــــيــــــردوخ مـــاديـــا بـحـتـا؛ إذ رأى أنـــه مــن المـسـتـحـيـل أن تـــدر صـحـفـه الأربـــــاح فــي شــارع كانت تحكمه سياسات الاتـحـادات المـهـنـيـة الـتـي كـانـت تـعـنـى بحقوق عـمـال الـطـبـاعـة والـنـشـر والـتـوزيـع، وأيـدتـه آنـــذاك رئـيـسـة وزراء الـبـلاد المـحـافـظـة مـارغـريـت ثـاتـشـر. وقــام ميردوخ بفصل جميع عمال الطباعة وتوظيف كادر جديد يعنى بالنشر الإلكتروني مع إدخال الكومبيوترات والــتــنــقــيــة الــحــديــثــة إلـــــى مـكـاتـبـه الـــــجـــــديـــــدة، مـــمـــا أضــــعــــف مــوقــف الاتحادات المهنية.
وأدى الأمـــر إلــى خــلاف شـرس على مــدار عـام ومـظـاهـرات تحولت إلـى مواجهات عنيفة بين الموظفين ورجال الأمن على »فليت ستريت«. لكن الأمر انتهى بهزيمة الاتحادات
ُ المـهـنـيـة. وفــي عــام ١٩٨٨، نـقـلـت كل الصحف الوطنية مـن شــارع فليت إلى منطقة دوكلاندز، واعتمدت على طرق الطباعة الحديثة بالكومبيوتر، بدلا من الألـواح المعدنية الساخنة، وأصــوات الآلات الكاتبة. كما بدأت مطبوعات أخرى بالنزوح من »فليت ستريت « تدريجيا إلى كناري وورف وسوثارك. وكانت وكالة »رويترز« لـلأنـبـاء مـن آخــر الأسـمـاء الشهيرة التي عزفت عن الشارع عام ٢٠٠٥.
ورحـلـت آخـر مطبوعة شهيرة عــــن الـــــشـــــارع فــــي أغـــســـطـــس (آب) المـاضـي وهـي »الـصـنـداي بـوسـت.« وتـــدريـــجـــيـــا، اســتــخــدمــت المــبــانــي الـــتـــي خــلــفــتــهــا هــــــذه المــطــبــوعــات استخدامات أخرى؛ بعضها أصبح محال تجارية أو مطاعم. كما أصبح الــــشــــارع مـــقـــرا لـكـثـيـر مـــن الــبــنــوك الاسـتـثـمـاريـة والـتـجـاريـة وشـركـات المحاماة الكبرى، لقربه من المحاكم المـلـكـيـة. واسـتـولـى بـنـك »غـولـدمـان سـاكـس« عـلـى مبنييْ »الـتـلـغـراف« و»إكـسـبـريـس« الشهيرين. ومـع أن الصحافيين هجروا »فليت ستريت ،« إلا أن اسمه لا يزال مرتبطا بمسيرة تطور مجالات الطباعة والنشر في بريطانيا، والعالم، ليومنا هذا.