Asharq Al-Awsat Saudi Edition

الحداثة جارحة للغرب قبل العرب

شتات وضياع إلى حد الانفلات الفكر الحداثي لم يستقبل بالورود وبالصدر الرحب بل تمت مهاجمته من الوهلة الأولى

- محسن المحمدي

إن أي باحث يريد أن يستوعب منظومة التفكير الحداثية، عليه ألا يكتفي بـالـكـتـب المــدرســ­يــة، أو بـبـعـض الــتــعــ­ريــفــات الــتــي تـكـون فــي الـغـالـب اخـتـزالـي­ـة ولا تعطي الصورة الحقيقية، بل وخلافا لذلك عليه أن يخوض في الفكر الغربي على الأقل من القرن السادس عشر إلـى حـدود الساعة، قارئا عينات مـــن المــفــكـ­ـريــن والــفــلا­ســفــة الــذيــن طـبـعـوا هــذه المـرحـلـة، نـاهـيـك عن الـوقـوف عند المـذاهـب والـتـيـار­ات الفكرية التي انتشرت وتناسلت ولا تــزال... ومـع شـيء مـن الصبر والـتـؤدة، سيكتشف هـذا الباحث بداية أنه أمام الشتات والضياع، إلى حد انفلات الأمر منه، ولربما لـن يـقـدر عـلـى الـقـبـض عـلـى دلالـة جــامــعــ­ة ومــانــعـ­ـة لــلــحــد­اثــة. لـكـن شـيـئـا واحـــــدا سـيـبـقـى عـالـقـا في ذهــنــه لا مــحــالــ­ة، وهـــو أن هـنـاك نـسـفـاً مـــدويـــ­اً قـــد حــــدث ومــــا زال فــي الأزمــنــ­ة الـحـديـثـ­ة، وأن هناك مــطــرقــ­ة لــلــهــد­م تـشـتـغـل مــن دون هـــوادة، وتفكِيكاً شـامـلاً وجـذريّـاً للبنيات القديمة، وهجوما قاسيا عـلـى الأنــســا­ق المـعـرفـي­ـة المــوروثـ­ـة الـــتـــي ألــفــتــ­هــا الــبــشــ­ريــة لـــقـــرو­ن. وســيــكــ­تــشــف الـــبـــا­حـــث أن نــظــرة جـديـدة لـرؤيـة الـعـالـم قـد تشكلت في الغرب، تتمثل في غلبة منطق الأرض على السماء، كما سيفهم أنـه قـد أنـجـزت أكـبـر عملية فصلٍ لـلـمـجـال­ات ّعــن بعضها الـبـعـض، والــذي كـان النصيب الأوفــر منها لــلــديــ­ن، بــحــيــث قـــد تـــعـــرض هــذا الأخير لعزلٍ جارحٍ عن كل قطاعات الحياة سواء عن العلم أو السياسة أو الأخلاق.

وإذا كـــان الــبــاحـ­ـث جــــادا في البحث عن كنه الحداثة وجوهرها والـتـنـقـ­يـب عــن نــواتــهـ­ـا الـصـلـبـة، فعليه مباشرة أن يلزم نفسه بطرح السؤال الأساسي على نفسه وهو كــالآتــي: لمـــاذا أخــذ الـفـكـر الـغـربـي مــــســــ­ارا كــلــه شــــك وهـــــــد­م ونــســف وتفكيك؟ لماذا يعد الفكر الحداثي جارحا؟ ما الذي دفع إلى عدم الثقة بالمنظومة القديمة؟ إلى درجة كسر ثوابتها وإعــلان عـدم صلاحيتها وعـقـمـهـا بــل زيـفـهـا وكـذبـهـا؟ أيـن نجد الشرارة الأولى التي حركت كل هذا المسار الناسف؟ والجواب عن هـذه الأسئلة طبعا يحتاج جهدا جهيدا.

انـبـثـقـت الــحــداث­ــة كـمـنـظـوم­ـة تـفـكـيـر جـــديـــد­ة وبـــوضـــ­وح خــلال الــــقـــ­ـرن الـــســـا­بـــع عـــشـــر فــــي رقــعــة جــغــرافـ­ـيــة أوروبـــــ­يـــــة لــيــســت هـي جـغـرافـيـ­تـنـا، فنحن إذن لـم نعش مخاضها تـاريـخـيـ­ا، بـل عشناها كـــمـــنـ­ــظـــومــ­ـة وافـــــــ­ـــــــدة، مــنــتــص­ــرة ومهيمنة وهو ما كان عائقا نحو استيعابها إلى درجة أننا أحيانا لـم نستطع رؤيــة سـوى واجهتها وسطحها البراق تارة والمتمثل في المنجزات العلمية والتقنية الهائلة والجارح تارة أخرى نظرا لوفائها الكلي للقيم الأرضية وانفصالها عـــن الــســمــ­اء وتـحـويـلـ­هـا المــقــدس نحو المعطى الـتـاريـخ­ـي، وهـو ما تمت تسميته بالعلمنة أو اللائكية أو الـدنـيـان­ـيـة، فـتـم إعــــلان وحــدة الـعـالـم وتـكـريـس المـحـايـث عوضا عـن المــفــار­ق. وهــو مـا كــان بمثابة الـصـدمـة الـتـي أربــكــت أولا أهلها وبعثرت حساباتهم دافعة إياهم إلـى إعـادة النظر ومسح ما تراكم عـلـى الـطـاولـة مـنـذ قـــرون وملئها بحلول جديدة، وثانيا أربكت أيضا قيم الثقافة العربية الإسلامية بل وجعلتها تعيش انفصاما ثقافيا، لــعــل أبـــــرز تـجـلـيـات­ـه هـــو تـضـخـم خطاب الأصالة والمعاصرة، الذي كــــان عـــنـــوا­ن مـــا يـسـمـى الـنـهـضـة الـعـربـيـ­ة الــتــي كــانــت تـعـبـيـرا عن رد فعل وجــودي وتـاريـخـي للقاء الــــــذا­ت بـــالآخــ­ـر صــاحــب الــحــداث­ــة الأصلية، وهو ما أثار ذلك السؤال المعروف: لماذا تقدم الغرب وتأخر المـــســـ­لـــمـــون؟ حـــيـــث وجــــــد الــعــقــ­ل الـــعـــر­بـــي -الإســــــ­لامــــــي نــفــســه فـي مـأزق، إذ كيف التوفيق بين أفكار الوافد والإبقاء على عناصر الذات وشـخـصـيـت­ـهـا؟ وقـــد ازداد الأمــر تعقيدا حينما تـحـول هــذا العقل العربي-الإسلامي وبشكل مفاجئ من التعامل مع أفكار الحداثة إلى التعامل مع أفكار ما بعد الحداثة التي كانت صرخة ضد طوباوية الـحـداثـة الـتـي فشلت فـي تحقيق كــل مــا سـطـرتـه كـنـمـاذج مـثـالـيـة، لــيــتــض­ــاعــف الاغـــــت­ـــــراب ويــصــاب معه الإنـسـان العربي بـالـدوار حد الغثيان.

يرى الكثير أن »الحداثة« هي نموذج غربي بامتياز، وأنها كانت جحيما على الإنسان العربي الذي اسـتـقـبـل­ـهـا كــوافــد أجــنــبــ­ي، حيث تـم الــزج بـه دون سـابـق إنــذار، في تــجــربــ­ة لـــم يــنــجــز­هــا بـــيـــده وفــي تـفـكـيـر لــم يـنـتـجـه هــو بـمـجـهـود­ه الخاص، وهو ما خلق لديه مقاومة ورفضا لها تحت دعوى أنه دخيلة وغــــريــ­ــبــــة. فـــهـــل يـــعـــد هــــــذا الأمــــر صحيحا حـقـا؟ ألـيـسـت الـحـداثـة، باعتبارها منظومة تفكير، كانت صادمة أيضا للإنسان الغربي قبل بقية الشعوب الأخرى؟

إذن حـــديـــث­ـــنـــا عــــــن الــــجـــ­ـرح الحداثي ليس مرتبطا بالشعوب الــــتـــ­ـي لـــــم تــنـــجــ­ـز هــــــذه الـــحـــد­اثـــة فـــي تــربــتــ­هــا بـــل مــســت الــشــعــ­وب الأوروبـــ­ـــيــــــ­ة بــــــالأ­ســــــاس، فــالــفــ­كــر الـــحـــد­اثـــي لـــم يـسـتـقـبـ­ل بـــالـــو­رود وبـــــالـ­ــــصـــــ­در الـــــــر­حـــــــب، بــــــل تــمــت مهاجمته مـن الـوهـلـة الأولـــى، ألم ينشر كـوبـيـرنـ­يـكـوس كـتـابـه »فـي دوران الإجـــــر­ام الـسـمـاوي­ـة« وهـو على فــراش المــوت بعد صمت دام أزيــــــد مـــن ثـــلاثـــ­ين عـــامـــا، لمـــا كــان يـــدركـــ­ه مـــن خـــطـــور­ة ومــــن ثــوريــة فــــي أفــــكـــ­ـاره وهـــــو الــــراهـ­ـــب الــــذي يـعـلـم تــداعــيـ­ـات الـــقـــو­ل بـمـركـزيـ­ة الـشـمـس عـلـى عـامـة الــنــاس؟. ألـم يحرق جيوردانو برونو أمام الملأ لـقـولـه بـالـعـالـ­م الـلامـتـن­ـاهـي وهـو مــا يـتـنـافـى وفــكــرة الـعـالـم المغلق الــقــديـ­ـمــة؟ ألــــم يــحــاكــ­م جـالـيـلـي­ـو محاكمة مهينة لجرأته في الدفاع عـــن دوران الأرض؟ ألــــم يـضـطـر إلــــى أن »يــشــاكــ­س« و»يــتــحــا­يــل« أحـيـانـا، بـل يلعب دور اللاهوتي مــــؤولا الــنــصــ­وص المــقــدس­ــة الـتـي ظاهرها ثبات الأرض، كي يخفف من هجوم بعض رجال الدين على مواقفه؟ ألم يقرر ديكارت بمجرد ســمــاعــ­ه عـــن مـحـاكـمـة جـالـيـلـي­ـو، إحراق كتابه »العالم« الذي يتبنى فيه الكوبيرنيك­ية، بـل ألــم يكتب وهـــو مـقـنـع، مــبــرزا وجــهــا مـاكـرا لــلــكــن­ــيــســة الـــتـــي انـــطـــل­ـــت عـلـيـهـا الحيلة معتقدة أنــه يـدافـع عنها، بـيـنـمـا هـــو فـــي الـحـقـيـق­ـة يـصـنـع الأســـاسـ­ــات المـيـتـاف­ـيـزيـقـيـ­ة للعلم الحديث الناشئ في القرن ١٧؟ ألم تهاجم أفـكـار دارويــن الثورية من طرف جيوش المقاومة التي كانت لـه بـالمـرصـا­د؟ وهــل أفـكـار فـرويـد التي عرت الإنسان وجعلته يغادر سلطانه العقلاني، ليصبح كائنا غريزيا بامتياز، تـم قبولها دون امـتـعـاض وسـخـط أحـيـانـا؟. وهل الثورة البيولوجية والتكنولوج­ية الغازية تمر دون ضجيج؟

إن الحداثة ليست اختيارا أبدا لـشـعـب بـعـيـنـه، بــل هــي مـنـظـومـة تـفـكـيـر جــارفــة وجــارحــة عـلـى كل البشرية.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia