Asharq Al-Awsat Saudi Edition

الصندوق ومفتاحه

-

بين الحين والآخر نجد كلمة أو تعبيراً وقد أصبح هـو المسيطر عـلـى كـل الأحــاديـ­ـث مكتوبة ومسموعة ومـرئـيـة، الـكـل يـتـخـاطـف الـكـلـمـة وكـأنـه قـد عـثـر على كنز ثمين، في السنوات الأخيرة أصبح تعبير (خارج الــصــنــ­دوق) هــو الـفـرخـة الــتــي تـبـيـض ذهــبــاً لـكـل من يضعها فـي جملة مـفـيـدة أو حـتـى غـيـر مـفـيـدة، الكل يتمسك بطوق نجاة اسمه الصندوق، مرة خارجة عنه وأخــرى قريبة منه، ولكن ألـم تلاحظ أن الصندوق لا يزال هو المرجعية، أنه (الترمومتر) الذي نتحرك كلنا في دائرته.

لو تحدثنا عن واحد من أهم صانعي الصناديق فـي الـعـالـم سيصعد على الـفـور اســم (أرســطــو) الـذي ولــد قبل المـيـلاد بنحو ٤٠٠ عــام إلا قـلـيـلاً، فهو الـذي وضـع القواعد لكثير من مناحي الحياة في الفيزياء والكيمياء والميتافيز­يقا وغيرها، كتابه (الشعر) هو المرجعية الأولى لفن الدراما، وكل من جاء بعده حتى مـن تـمـرد مـديـن لـه لأنــه هـو الــذي حـفـزه على تحطيم القالب، في السينما الأخوان (لوميير) لويس وأوجست صنعا الـصـنـدوق، وكـل مخرج شكل علامة فـارقـة في تطور السينما جاء بعد الأخوين من المؤكد كانت نقطة انطلاقه هي الصندوق.

في دُنيا السياسة مثلاً تستطيع أن تقرأ ثـورات الــربـيــ­ع الـعــربــ­ي بـاعـتـبـا­رهـا تـنـويـعـا­ت لــلــخــر­وج عن السلطة (الصندوق)، صحيح أنها تعيش حالياً مرحلة التعثر، إلا أننا لا يمكن أن نغفل حتمية تلك الثورات.

دائماً هناك قواعد تتشكل من زمن إلى آخر وبعد مرور حقبة نجد من يحاول اختراقها، لأن للزمن دائماً نغمة جديدة تفرض نفسها ومن لا يلتقطها يجد نفسه خارج الدنيا.

نجوم الكوميديا في العالم، هم أكثر من يتأثرون بتغيير شفرة الـتـواصـل مـع الجمهور، وهـكـذا نتابع بــين الـحـين والآخــــر صـعـود نـجـم جـديـد تـلـتـف حـولـه الملايين ليمر زمن، ويبحثون عن آخر بمفردات مغايرة وصندوق آخر.

إلا أن كل تغيير ينبغي أن يخضع لمنطق، تفرضه الحياة، عندما بدأ الشعر الحديث المتحرر من الوزن والـقـافـي­ـة قبل أكـثـر مـن ٧٠ عـامـاً عـرضـوا على عباس محمود العقاد وكـان رئيساً للجنة الشعر فـي وزارة الثقافة قصيدة لعبد المعطي حـجـازي فكتب جملته الشهيرة الساخرة يحول إلى لجنة النثر، بينما كان الشاعر كامل الشناوي يقف دائماً مع التجديد، رغم أنـه يكتب أشـعـاره ملتزماً بـالـوزن والـقـافـي­ـة، بيد أنه قال إن هناك فارقاً بين أن تقرر المرأة حلق شعرها وأن تجدد في تسريحة الشعر، وأنه لا يطيق أن يرى المرأة صلعاء ولكنه مـع تجديد الــوزن والـقـوافـ­ي ومـع ذلك صارت بعض النساء تفضلن الرأس على (الزيرو) وهو ما حدث أيضاً للشعر!.

مفردات نزار قباني تضعها مثلاً في إطار الخروج عما هو متعارف عليه، كان سيد درويش متمرداً عندما أنصت إلى مفردات الناس في الشوارع وإلى نداء الباعة الجائلين، وأحالها إلى أنغام، بينما من سبقوه كانوا يُـقـدمـون أغـانـي الـصـالـون­ـات، الـواقـعـي­ـة الـجـديـدة في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية تحررت من صندوق اسمه (الاسـتـودي­ـو) شكلياً ولكن التحرر الفكري هو الأهم، حيث صارت تملك نظرة حميمة للحياة، الموضة هي علاقة خاصة مع الصندوق، وعندما تخرج عنها فأنت في هذه الحالة تعبر عن شيء كامن في الصدور متجاوز ما هو سائد.

قديماً قالوا (الإنسان عدو ما يجهل) رغم أن التقدم لا يحدث إلا عندما يحطم الإنسان هذا العداء ويصادق ما يجهل، ويبقى الأهم من الصندوق وهو المفتاح، من يملكه يستحق الـتـمـرد، إلا أنـنـا مـع الأســف كثيراً ما نكتشف بعد فوات الأوان أننا أضعنا المفتاح!!

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia