Asharq Al-Awsat Saudi Edition

ترصد رحلة تفكيك مفخخات بنغازي

هذه واحدة من أخطر العمليات التي يقوم بها الجيش الوطني الليبي، رغم ضعف إمكاناته، وهي تفكيك ألوف المفخخات التي تركتها التنظيمات المتطرفة في المواقع التي مرت عليها في ضواحي مدينة بنغازي... مفخخات في العمارات... وفي الشوارع... وفي الحدائق العامة... في نـوادي

- بنغازي: عبد الستار حتيتة

مثلما كـان يفعل رجـال جرد مــــخــــ­ازن الـــســـل­ـــع قـــديـــم­ـــاً، جـلـس ضـــــابــ­ـــط مــــــن رجــــــــ­ــال الـــهـــن­ـــدســـة العسكرية وسط جنوده، لكن لكي يحصي عـدد القنابل التي جرى استخراجها من شـوارع ومباني ضــــاحـــ­ـيــــة الـــــصــ­ـــابـــــ­ري فــــــي هــــذا النهار... ورفع يده محذراً: »لا... لا أحد يقترب. لا تتسببوا لنا في كـارثـة،« كانت بعض الـدانـات ما زالـت مـزودة بفتيل التفجير، في انتظار إبطال مفعولها.

ولــعــبــ­تْ مــفــخــخ­ــات زرعــهــا المتطرفون، وهم يتراجعون إلى الـخـلـف، دوراً كـبـيـراً فــي عـرقـلـة تـــقـــدم الـــجـــي­ـــش... وفـــــي تـأخـيـر استعادة ميناء بنغازي البحري والــحــظـ­ـيــرة الــجــمــ­ركــيــة وكـثـيـر من المباني والمؤسسات العامة. وتكشف آثـار »الـدواعـش« الذين مــروا مـن هنا أن أشـهـر نــوع من التفجيرات التي قاموا بدراستها واستخدامها على نطاق واسع، هو ما يعرف باسم »المسطرة«... وهــي تـشـبـه مـسـطـرة بـالـفـعـل... تُزرع بشكل خفي في مكان يتوقع أن يستخدمه أي فرد في المنزل أو في الشارع أو في أي موقع عام.

وإذا ضـــغـــطـ­ــت عــــلــــ­ى هــــذه المسطرة بقدمك أو اتكأت عليها أو عبثت بـالمـوقـع المــزروعـ­ـة فيه، تـقـوم بتوصيل دائـــرة كهربائية إلــى الــدانــة الـتـي تـكـون مطمورة في مكان يبعد ما بين ٣ و٥ أمتار.

وأخـــــــ­ــــــذ الــــــضـ­ـــــابـــ­ـــط يــــشــــ­رح حصيلة ما تم استخراجه اليوم مـن مساطر مربوطة بـدانـات من أوزان مـخـتـلـفـ­ة، بـعـضـهـا لـديـه الـــقـــد­رة عــلــى نــســف عـــمـــار­ة مــرة واحـــــدة. وقـــال إن »المــســطـ­ـرة هي وصـلـة الـربـط لتفجير الــدانــة أو القنبلة. توجد ألوان وتصميمات مـخـتـلـفـ­ة لـلـمـسـاط­ـر، مـثـل الـلـون الأخضر حين تـزرع في النجيلة، أو اللون البني للجدار البني، أو بلون التراب حين تزرع في التراب، أو باللون الأسـود حين تـزرع في الشارع .«

وأضــــــا­ف: »زرع المـتـطـرف­ـون مفخخات حتى في دورات المياه. يتطلب الأمـــر لـحـل هــذه المشكلة الـــوصـــ­ول إلـــى المــســطـ­ـرة، ولـيـس إلـى القنبلة أو الـدانـة أو العبوة أياً كانت... بعد التأكد من وجود قنبلة في المكان، تبدأ مهمة معقدة للبحث عن المسطرة، أو العكس.« ويتابع وهو يشرح أسرع وسيلة لـلـمـوت والـــدمــ­ـار، أن »المـتـطـرف­ـين اســـــتــ­ـــخـــــد­مـــــوا طـــــرقــ­ـــاً مــخــتــل­ــفــة للتفجير، منها أيضاً ربط القنبلة الـيـدويـة بــأي شــيء يـمـكـن شــده، مثل مقبض الباب... بمجرد إدارة المقبض تنفجر القنبلة.«

وفــــي داخــــــل ٣ أوكـــــــ­ـار، عـلـى الأقــل، كانت مراكز لــ »الـدواعـش« فــي شــــارع الــبــحــ­ر، تــوجــد بـقـايـا لأوراق ورسومات عن طرق تركيب القنابل بعضها مأخوذ من مواقع عـلـى الإنــتــر­نــت والــبــعـ­ـض الآخــر مرسوم باليد. أما مخازن الأسلاك ودانات التفجير التي كان يعدها »الدواعش« للتفخيخ، فموجودة فـي كـل وكـر تقريباً مـن تلك التي تمكن الجيش من دخولها. أسلاك حمراء وأخـرى سـوداء وخضراء. ونــــــــ­وابـــــــ­ـض وهــــــــ­واتـــــــ­ـف جــــوالــ­ــة ومساطر، وغيرها.

وبـعـد شــرب الـشـاي وتـبـادل أطــــــــ­ـراف الـــحـــد­يـــث والــــذكـ­ـــريــــا­ت ُالـقـريـبـ­ة عــن الـضـبـاط والـجـنـود الذين قتلوا وهم يحاولون تفكيك المـفـخـخـ­ات فـي الأشـهـر الأخـيـرة، بــدأ اسـتـئـنـا­ف الـعـمـل مـن جـديـد، في منطقة »مشروع الصفصفة،« بحثاً عن قنابل ومتفجرات أخرى على جانبي الطريق وفي مداخل البيوت.

كـــــــــ­ـــان الــــــــ­ـــشــــــ­ـــــارع طــــــويـ­ـــــلاً ومــــــهـ­ـــــجــــ­ــوراً وتــــصـــ­ـطــــف عــلــى جانبيه مئات العمارات المثقوبة بالقذائف. وصـاح أحد الجنود مـن أمــام مدخل مبنى محترق. وهـذا يعني أنـه عثر على شيء مــا. إنـهـا مـسـطـرة مــزروعــة في عتبة الـدخـول. ذات لـون طوبي يشبه ركام الحجارة التي كانت فوقها.

وفــي الــحــال تـقـدم الـضـابـط، مـــهـــنـ­ــدس تــفــكــي­ــك المـــفـــ­خـــخـــات. وشـرع يتتبع بأصابعه الأسـلاك الــتــي تــربــط المــســطـ­ـرة بـالـقـنـب­ـلـة. ومن ورائه يقف ٣ من مساعديه. واحتمال أن تقع كـارثـة وتنفجر الــعــمــ­ارة عـلـى الـجـمـيـع احـتـمـال قائم. لكن لا بد من الاستمرار في العمل. وأخذ المهندس يحفر حول المسطرة بيديه العاريتين... ثم بدأ يحفر مع الأسلاك التي ستصل به إلى موضع الدانة.

ويعمل مثل هؤلاء المهندسين بـــشـــكـ­ــل بــــــدائ­ــــــي لـــلـــعـ­ــثـــور عــلــى المتفجرات بسبب نقص المعدات الـلازمـة لـذلـك، حيث تعد وسائل الكشف عن الألغام والمتفجرات من المحرمات المفروضة من المجتمع الدولي ضمن الحظر على تسليح الـجـيـش الـلـيـبـي المــقــرر مــن الأمــم المتحدة منذ عام ٢٠١١.

وكــــــــ­ـان يــــوجـــ­ـد فـــــي مــنــطــق­ــة »الــــــصـ­ـــــابـــ­ـــري« وفـــــــي »مــــشــــ­روع الـــصـــف­ـــصـــفــ­ـة« ألــــــــ­ــوف الـــقـــن­ـــابـــل المـزروعـة فـي كـل مـكـان. وفـي آخر الــطــريـ­ـق وقــفــت ســيــارة صـغـيـرة ونـــزلـــ­ت مـنـهـا أســـــرة مــكــونــ­ة من رجل يدعى ناجي، وزوجته و٣ من بناته لأخذ الإذن بالدخول لتفقد مـنـزلـهـم. لـكـن الـجـيـش لـم يسمح لهم بذلك.

مــا زال الـخـطـر قــائــمــ­اً. ومـع ذلك أسند ناجي ذراعه على سقف ســيــارتـ­ـه، وأخــــذ يــراقــب المـشـهـد. بينما ترجلت زوجته وبناته حول السيارة كأنهن يستعدن ذكريات الماضي الذي كان ينبض بالحياة هنا. ويقول الرجل الذي كان يدير متجر ملابس تحت بيته في هذا الشارع، قبل أن يجتاح المتطرفون المنطقة، إنه يعيش وأسرته، منذ عام ٢٠١٤، لدى أقارب لهم في نجع جـنـوب مــطــار بـنـغـازي المـعــروف باسم مطار بنينا، وإنه جاء قبل أســبــوع عـلـى أمــل أن يـرمـم بيته ومتجره، إلا أن ضباط الهندسة العسكرية لـم يسمحوا لـه. وفقد الـرجـل ولـديـه أثـنـاء الـحـرب ضد »تنظيم أنـصـار الـشـريـعـ­ة« الـذي يـوصـف أحـيـانـاً بـأنـه أحـــد أذرع »داعش« في بنغازي.

وبــيــنــ­مــا يــشــاهــ­د مـــن بـعـيـد مـحـاولـة الـضـابـط الــوصــول إلـى مـــكـــان الــقــنــ­بــلــة، دوّى انــفــجــ­ار ضـخـم، وغـطـى الـتـراب كـل شـيء، بينما سقطت الكتل الخرسانية فـــي الـــشـــا­رع فـــي ضـجـيـج أصـــم. وعادت أسرة ناجي من حيث أتت أمــام هــذه الـواقـعـة الـتـي لا تبشر بالخير.

وفــــي الــطــريـ­ـق الـخـلـفـي­ـة مـن »مشروع الصفصفة« كذلك، كان هــنــاك ضــبــاط وجــنــود يـعـمـلـون أيـضـاً عـلـى تتبع أمـاكـن الألـغـام. وســمــع انــفــجــ­ار دانــــة أخــــرى في مبنى مجاور كان تحت الإنشاء... كان أصحاب البيت يطمحون في معاينته لاستكمال بنائه المتوقف مـــنـــذ عـــــامــ­ـــين، رغـــــــم تـــحـــذي­ـــرات الــجــيــ­ش. وتـسـبـب الانــفــج­ــار في قتل ٤ أطفال ووالدتهم. وأصبحت جثثهم مجرد قطع صغيرة يمكن أن تـحـمـل كــل قـطـعـة مـنـهـا بكف اليد.

ومــن خــلال زوايــــا الــشــوار­ع، ظهر أن هناك ٥ أسـر أخـرى على الأقـــل كـانـت تــحــاول الـــعـــو­دة، إلا أنــهــا قـــادت سـيـاراتـه­ـا مـبـتـعـدة. ويـقـول مـسـؤول فـي الجيش كان يـرافـق »الـشـرق ُالأوســـط:« معظم المهندسين العسكريين قتلوا وهم يحاولون إبـطـال هـذه المفخخات في مناطق مختلفة في بنغازي... لا تـــوجـــد لــــدى الــجــيــ­ش أجــهــزة لــكــشــف الألــــغـ­ـــام والمـــفــ­ـخـــخـــا­ت... سـلـك ومـسـطـرة وطـريـقـة بـدائـيـة وخطيرة جداً. تحتاج إلى تدريب ومعدات خاصة... هؤلاء يعملون بـأيـدٍ عـاريـة وفقدنا نحو ٨٠ في المـائـة مـن الأفـــراد الـذيـن يعملون فـي تفكيك الألــغــا­م. لكننا دربـنـا مــجــمــو­عــات جــــديـــ­ـدة وخــرّجــنــا ضباطاً جدداً لاستكمال المهمة«.

ودخـــــــ­ل نـــاشـــط­ـــون لـيـبـيـون على الـخـط مـن أجـل إنـقـاذ الأسـر من السقوط في غابة المفخخات، مــســتــغ­ــلــين فــــي ذلــــــك تـطـبـيـقـ­ات الهواتف الجوالة، ومـن بين هذه الـــطـــر­ق أن يــقــوم المـــواطـ­ـــن الـــذي يشتبه في وجود قنبلة في محيط منزله أو في أي مكان، بتصوير المـوقـع، وإرسـالـه على التطبيق، مـتـبـوعـاً بـتـحـديـد المــكــان بـنـظـام خرائط »غوغل« أو »جي بي إس.«

كـــــمـــ­ــا خـــــصـــ­ــص نــــاشـــ­ـطــــون آخــــــــ­رون صــفــحــا­ت عــلــى مــواقــع التواصل الاجتماعي للإبلاغ عن المـفـخـخـ­ات. وكــل هــذا الـسـيـل من المعلومات يتم إرساله على الفور إلى الجيش الذي يقوم باتخاذ ما يـجـب... يضع أولاً شريطاً حول المنطقة ثم يبدأ في توجيه ضباط الــهــنــ­دســة الــعــســ­كــريــة لمـعـالـجـ­ة المشكلة.

فــــي ضـــاحـــي­ـــة »الــــصـــ­ـابــــري« عـــاد رجـــال الـهـنـدسـ­ة الـعـسـكـر­يـة عــلــى عــجــل بــعــد عـــــدة بـــلاغـــ­ات. وفــي هــذه الضاحية فقد ضباط آخـرون أرواحهم. وفي كل جلسة اســـتـــر­احـــة تــسـمــع وأنـــــت ُتـشـرب الشاي أسماء جديدة لمن قتلوا... كان من بينهم العسكري المتقاعد محمد الفاخري.

وضــحــى الــفــاخـ­ـري بـحـيـاتـه حــين كـــان يــقــوم بــنــزع الـحـجـارة مـن فـوق مسطرة مـربـوطـة بدانة مــدفــع مــن عــيــار ١٥٥ مـلـلـيـمـ­تـراً. كـانـت الــدانــة مــزروعــة عـلـى بعد مترين تقريباً من موقع المسطرة. وانفجرت مرة واحدة. ومن قوتها أطاحت بواجهة العمارة وتركت حفرةكبيرةف­يالمدخل. ُ

وكـــــــا­ن لـــلـــفـ­ــاخـــري ابــــــن قــتــل أثـنـاء مـشـاركـتـ­ه فـي الـحـرب ضد المتطرفين فـي الـشـهـور الماضية. ويقول أحد زملائه: »كان ضابطاً مـقـدامـاً. ولــم يمنعه الـتـقـاعـ­د من الجيش قبل سنوات، من العودة لمـــــد يـــــد الـــــعــ­ـــون لـــجـــهـ­ــود أبـــنـــا­ء بــنــغــا­زي فـــي تــحــريــ­ر مـديـنـتـه­ـم مــن الإرهــابـ­ـيــين ومـــن المـفـخـخـ­ات التي تركوها، خصوصاً بعد أن اسـتـشـهـد ابـنـه فــي هــذه الـحـرب. مــثــل هــــؤلاء الــضــبــ­اط والــجــنـ­ـود قدموا أرواحهم للوطن، لأنهم إذا لـم يقوموا بـذلـك سينفجر اللغم أو الدانة في عائلة أو في أسرة«.

وفـــي مـبـنـى آخــــر، عــثـر أحــد الــضــبــ­اط عــلــى مــســطــر­ة مخفية تحت كومة من التراب في جانب الـرصـيـف. وهــذا يعني مخاطرة جديدة لنزع فتيل القنبلة. وكانت المسطرة مربوطة بدانة مدفع من عـيـار ١٢٢ مـلـلـيـمـ­تـراً. وبـــدأ وجـه الـضـابـط يتصبب بـالـعـرق وهـو يــمــســك بــســكــي­ن ويــــحـــ­ـاول فـصـل المـسـطـرة، أي أداة الـتـفـجـي­ـر، عن القنبلة.

وحــــبـــ­ـس زمــــــــ­ــلاؤه الــســبــ­عــة أنــفــاسـ­ـهــم، وهــــم يــقــفــو­ن بـعـيـداً، خوفاً من وقوع كارثة. وبعد قليل رفع الضابط يديه عالياً والسكين في يـده. وصـاح: »الله أكبر ولله الحمد«. وهرع الباقون إليه وهم يكبرون ويهللون. لقد تمت إزالة الخطر.

ويــــــقـ­ـــــول مــــــراف­ــــــق »الـــــشــ­ـــرق الأوسط« وهو من الجيش: »حين يفكك الضابط الدانة، يحيلها إلى سلاح المدفعية، لاستخدامها مرة أخرى في الحرب ضد الدواعش. ما يزرع في الشارع يصيب أياً من الناس... عرباً أو أجانب أو سيارة أو حــيــوانـ­ـات... أي شـــيء. هناك دانـــات مـربـوطـة بـجـهـاز لاسلكي لـلـتـفـجـ­يـر عـــن بــعــد وبــالــهـ­ـواتــف الجوالة أيضاً. ومنذ قليل عثرنا عـلـى واحـــدة خـاصـة بـراجـمـة من عـيـار ١٠٧ مـلـلـيـمـ­تـرات، مربوطة بـلاسـلـكـ­ي أمـــام مـسـجـد ضاحية القوارشة .«

ومـــرة أخـــــرى... وقــت قصير لــلاســتـ­ـراحــة. وأكــثــر شـــيء يـقـدم فـي مثل هـذه الأوقــات هـو الخبز والــشــاي. فـرغـم أن الــدولــة غنية بـالـنـفـط، ُّفـإنـهـا أصـبـحـت تعاني من الفقر والشح. في كل مرة خبز وشاي. ويبدو أنه الغذاء الرئيسي لآلاف الـضـبـاط والــجــنـ­ـود طــوال النهار.

ومــــــــ­ـع الإرهـــــ­ــــــــــ­ــاق والــــــج­ــــــوع وانتظار الموت، يكون لهذا الطعام البسيط رائحة ومذاق وجائزة لا تقدر بثمن. أما إذا تطوعت إحدى الـــعـــا­ئـــلات الـــتـــي جــــــاءت حـديـثـاً للمنطقة الـتـي جــرى تطهيرها، وأرســلــت للمجموعة العسكرية قـصـعـة أرز مـطـبـوخ بـالـطـمـا­طـم، فهذه جائزة مضاعفة تشجع على مزيد من العمل.

ويـــــقــ­ـــول ضــــابـــ­ـط مــخــضــر­م يـــــدعــ­ـــى عـــــــــ­ـوض، فــــــــو­ق الــســتــ­ين مـــن الــعــمــ­ر، كــــان قـــد تــقــاعــ­د مـن الـــخـــد­مـــة فــــي الــجــيــ­ش فــــي أيــــام العقيد الراحل معمر القذافي، إن خبرات المتطرفين في زرع الألغام والمـفـخـخ­ـات جلبوها معهم إلـى ليبيا مـن مـنـاطـق الاقـتـتـا­ل التي كانوا يشاركون فيها، في العراق وأفغانستان والشيشان وسوريا وغيرها.

ويضيف: »حتى أسطوانات غــــــــا­ز الــــطـــ­ـهــــي يــســتــخ­ــدمــونــ­هــا مفخخات. كلها خبرات مختلفة جمعوها في بنغازي.« ويشارك عـــــــــ­وض فــــــي عــــمــــ­لــــيــــ­ات تــفــكــي­ــك المفخخات، وكل طموحه أن يجد مــلابــس عـسـكـريـة يـرتـديـهـ­ا بـدل ملابسه المدنية. ويفتقر الجيش الليبي عموماً للإمكانات بما فيها »النقص في القيافات (أي ملابس الجيش(«، كما يقول عوض.

ودارت قطع الخبز وفناجين الـــــشــ­ـــاي المـــغـــ­لـــي دورة أخـــــــر­ى. ويــقــول الـضـابـط عــوض إنــه قـرر الـعـودة إلــى بـنـغـازي والانـخـرا­ط فــــي الــجــيــ­ش مــتــطــو­عــاً بــعــد أن انتشرت عمليات تفخيخ سيارات العسكريين وبيوتهم في المدينة على يد المتطرفين.

ويـتـذكـر تـلـك الأيــــام القريبة حـــيـــث »كـــــانــ­ـــت جـــثـــث الــضــبــ­اط والــقــيـ­ـادات الـعـسـكـر­يـة تـلـقـى في الـشـوارع يـومـاً بعد يـــوم... حتى العميد أحمد البرغثي، مدير إدارة الشرطة العسكرية في طرابلس، لم يسلم من يد الإرهاب. كان رفيقنا. وحين جاء إلى بنغازي في زيارة قتلوه. ورأيت آثار التعذيب على جثته. ثم استهدفوا زملاءه، هنا، بالمفخخات .«

وفــــــــ­ــي نــــــطــ­ــــاق الـــعـــم­ـــلـــيــ­ـات الــــعـــ­ـســــكـــ­ـريــــة شــــــمــ­ــــال ضـــاحـــي­ـــة الـــصـــا­بـــري، يــقــف المــــــل­ازم مـرعـي الــــحـــ­ـوتــــي بـــعـــد أن فـــقـــد جـمـيـع زمــــلائـ­ـــه مــــن الــعــســ­كــريــين أثــنــاء الـحـرب على الإرهـــاب حـين كانت فـي بـدايـتـهـ­ا... والـيـوم يـبـدو أنـه لا يريد أن يتراجع. ويسعى وراء فـلـول المتطرفين بـلا هـــوادة كأنه يريد أن يلحق برفاقه الذين جرى تـفـجـيـره­ـم وقـتـلـهـم أمـــام عينيه. ومـــن بــين هــــؤلاء الـــرائــ­ـد الــراحــل فضل الحاسي.

كـان الحاسي آمـر التحريات بالقوات الخاصة. وكان الحوتي معاوناً له. كانوا ٧ رفاق خاضوا الــحــرب فــي ظـــروف عصيبة ولـم

َ يتبق منهم سوى هو. والآن يقود الحوتي مجموعة من العسكريين في سيدي خريبيش، بعد أن تمكن من طرد المتطرفين من »الصابري« و »سوق الحوت .«

وبينما تميل الشمس ناحية الــــغـــ­ـروب، تــبــدو الــســفــ­ن مـجـلـلـة بغلالة حـمـراء، وهـي رابـضـة في ميناء بنغازي الذي ظل لأكثر من ٣ أعوام تحت سيطرة المتطرفين. ونصبت الـقـوات البحرية بوابة لمـنـع المــواطــ­نــين مــن الــعــبــ­ور إلـى الـضـواحـي الـداخـلـي­ـة المطلة على الــبــحــ­ر، إلا بــعــد تــطـهـيـر­هــا مـن مفخخات الألغام. وكانت الأولوية فـي تنظيف المنطقة مـن الـدانـات والمــــتـ­ـــفــــجـ­ـــرات لـــصـــال­ـــح المـــيـــ­نـــاء بطبيعة الحال.

وأمـــر أحـــد الـضـبـاط بـإعـداد الــــشـــ­ـاي مــــجــــ­دداً. وجـــــــا­ء جــنــدي بأرغفة الخبز لكي يسخنها على الــنــار. وبـــدأ كــلٌ يـذكـر أصــدقــاء­ه الذين رحلوا وهم يحاولون فتح آفــاق جـديـدة للمستقبل. وكانت الـعـمـارا­ت والأبــــر­اج فـي الخلفية مدمرة، وجوانب الطرقات يغطيها ركـــــام المــبــان­ــي المـــنـــ­هـــارة وبــقــايـ­ـا الحاويات التي كان المتطرفون قد جلبوها من الميناء لسد الشوارع. وسيكون هناك عمل آخر لمواصلة فـحـص كــل هـــذه الـفـوضـى ونــزع مساطر التفجير منها.

ومـــــع حـــلـــول المـــســـ­اء تــحــوّل الحديث إلـى لغة حزينة مشبعة بالعتاب على الضباط والجنود الذين ما زالوا يرفضون الانخراط فـــي الــجــيــ­ش لمــســاعـ­ـدة بــنــغــا­زي ولـيـبـيـا عـلـى الـــعـــو­دة دولــــة مـرة أخرى. ويقول ضابط وهو يقضم قـطـعـة مــن الـخـبـز الــســاخـ­ـن: »يـا إخوة... كيف تتصورون الضباط الذين ينامون لدى أسرهم دون أن يشاركوا في الحرب أو يلتحقوا بالجيش؟... مـاذا سيقول هؤلاء لأبـنـائـه­ـم وأحـفـادهـ­م عـن مـعـارك تـحـريـر بـنـغـازي مــن المـتـطـرف­ـين، وعـــن جــهــود تـطـهـيـر المـديـنـة من الألغام ؟«.

 ??  ?? آثار المفخخات والتفجيرات على مباني شاطئ بنغازي قرب منطقة المحكمة القديمة (تصوير: عبد الستار حتيتة)
آثار المفخخات والتفجيرات على مباني شاطئ بنغازي قرب منطقة المحكمة القديمة (تصوير: عبد الستار حتيتة)
 ??  ?? حصيلة مفخخات جرى تفكيكها في ضاحية الصابري في بنغازي وتبدو الدانات على اليمين ومساطر التفجير على اليسار
حصيلة مفخخات جرى تفكيكها في ضاحية الصابري في بنغازي وتبدو الدانات على اليمين ومساطر التفجير على اليسار
 ??  ?? الحياة تعود إلى طبيعتها في مناطق تم تطهيرها من المفخخات. والصورة قرب مقر المصرف المركزي ببنغازي
الحياة تعود إلى طبيعتها في مناطق تم تطهيرها من المفخخات. والصورة قرب مقر المصرف المركزي ببنغازي
 ??  ?? أسرة ليبية تحاول العودة إلى منزلها الذي تحول إلى أنقاض قرب ضاحية سوق الحوت
أسرة ليبية تحاول العودة إلى منزلها الذي تحول إلى أنقاض قرب ضاحية سوق الحوت
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia