Asharq Al-Awsat Saudi Edition

المخابرات البريطانية ترفع السرية عن ملفات »خلية بورتلاند«

موظف »غير كفء« ساعد الروس في تطوير غواصات »صامتة«

- لندن: كميل الطويل

كتب ضابط الاستخبارا­ت الــبــريـ­ـطــانــيـ­ـة مـــذكـــر­ة عـاجـلـة بتاريخ الأول من مايو (أيار) ١٩٦٠. شرح فيها شكوكه حول موظف في مؤسسة أبحاث في بورتلاند بمقاطعة دورسـت، غرب إنجلترا. قال إن »مصدراً حــــســــ­اســــاً« قـــــــــ­دّم مــعــلــو­مــات تـــفـــيـ­ــد بـــــــأن الاســــتـ­ـــخــــبـ­ـــارات

ّ الـبـولـنـ­ديـة جــنــدت فــي الـعـام ١٩٥١ موظفاً يعمل في مكتب المــلــحـ­ـق الــبــحــ­ري فـــي ســفــارة بـريـطـانـ­يـا فــي وارســــو، وبــأن البولنديين »نقلوا« التعاطي مـع هــذا الـعـمـيـل، بـعـد عـودتـه إلــى بـريـطـانـ­يـا، إلــى زملائهم فــــــي جـــــهـــ­ــاز الاســــتـ­ـــخــــبـ­ـــارات السوفياتي الــ »كـي جـي بـي.« قــال الـضـابـط إنــه يـشـتـبـه في أن هـــذا الـعـمـيـل المـــزعــ­ـوم هو هــــــاري هــــاوتــ­ــون الــــــذي عـمـل فــي الــســفــ­ارة فــي وارســـــو في الـخـمـسـي­ـنـات ويـعـيـش حالياً في دورست.

وقــــال إن إثـــبـــا­ت الـشـبـهـة يـتـطـلـب مــراقــبـ­ـة هــاتــفــ­ه، لكن ذلـك يحتاج إلـى إذن وعندما

ُ طلب ذلك أبلغ بأن هناك »ستة

ُ طــلــبــا­ت أخـــــرى« قـــدّمـــت قـبـلـه لمـراقـبـة هــواتــف آخــريــن، وأن عليه الانتظار... إلا إذا كانت هـنـاك »ضـــرورة مـلـحـة.« ختم الضابط مذكرته بأنه يعتقد فـــعـــلاً أن الأولــــو­يــــة يــجــب أن تُعطى لمراقبة هاتف هاوتون، وهو ما حصل.

كــــانـــ­ـت شـــبـــهـ­ــة الـــضـــا­بـــط صحيحة، فقد قـادت مذكرته إلــى كـشـف »خـلـيـة جواسيس بــــــورت­ــــــلانـ­ـــــد« وهــــــــ­ي واحـــــــ­ـدة مـــن أخــطــر خــلايــا الـتـجـسـس الــــروسـ­ـــي فـــي بــريــطــ­انــيــا فـي ستينات القرن الماضي والتي مـكّـنـت الاتــحــا­د الـسـوفـيـ­اتـي، كــمــا يــعــتــق­ــد الــبــريـ­ـطــانــيـ­ـون، من تطوير غواصات تكاد أن تكون »صامتة« كونها لا تثير الكثير من الضجيج تحت الماء وبــالــتـ­ـالــي تــتــفــا­دى رصــدهــا. ميزة تلك الخلية عن غيرها، كــــمــــ­ا يـــــوضــ­ـــح الــــبـــ­ـروفــــسـ­ـــور كـــريــسـ­ـتـــوفـــ­ر أنــــــــ­ــدرو، مــــؤرخ »الــتــاري­ــخ الــرســمـ­ـي« لأجـهـزة الاســتــخ­ــبــارات الـبـريـطـ­انـيـة، أنـــهـــا كـــانـــت تُــــــــدا­ر لـــيـــس مـن ضـبـاط اسـتـخـبـا­رات يعملون تـــحـــت غــــطــــ­اء دبـــلـــو­مـــاســـي، كـمـا جـــرت الــعـــاد­ة، ولــكــن من خـلال جاسوس يعمل بهوية بــالــغــ­ة الــســريـ­ـة ويــنــشــ­ط فـي بـريـطـانـ­يـا. لــم يـكـن هــاوتــون هـو هــذا الـجـاسـوس، بـل كـان مجرّد أداة يستخدمها الأخير لـــلـــحـ­ــصـــول عـــلـــى مــعــلــو­مــات ســـــريــ­ـــة عـــــن الـــبـــر­يـــطـــان­ـــيـــين. الـجـاسـوس الــروســي، متزعم »خلية بورتلاند،« كان يُدعى »غـوردون لونسديل« ويحمل جوازاً كندياً، لكن البريطانيي­ن لم يكتشفوا إلا لاحقاً أنه ليس كـنـديـاً بـل كــان روسـيـا يدعى »كونون مولودي«.

مــلــف »خــلــيــة بــورتــلا­نــد« ســتُــرفــع عــنــه الــســريـ­ـة الــيــوم الثلاثاء في الأرشيف الوطني الــبــريـ­ـطــانــي، ضــمــن سـلـسـلـة مـلـفـات أخـــرى كــانــت تحتفظ بها الاستخبارا­ت البريطانية، وتـحـديـداً جهاز الأمــن »إم آي .«٥

يــــــــش­ــــــــرح الــــــبـ­ـــــروفــ­ــــســـــ­ـور أنــــدرو، المـحـاضـر فــي جامعة كـــمـــبـ­ــردج والمــــــ­ــؤرخ الــرســمـ­ـي لـجـهـاز »إم آي ٥«، أن »خلية بــــورتــ­ــلانــــد« شـــكّـــلـــت »نــقــطــة تـــحـــوّل« فــي تــاريــخ عـمـلـيـات التجسس في بريطانيا خلال الـحـرب الــبــارد­ة »فـكـل حـالات الـتـجـسـس الـسـابـقـ­ة لـلاتـحـاد الـــســـو­فـــيـــات­ـــي والـــــتـ­ــــي حــقــق فـيـهـا (إم آي ٥) كـــان يُـشـرف عـلـيـهـا ضــبــاط اســتــخــ­بــارات في الـ (كي جي بي) أو (جي آر يو) (الاستخبارا­ت العسكرية الروسية) انطلاقاً من محطات لـــنـــدن. حــالــة بـــورتـــ­لانـــد، فـي المـــقـــ­ابـــل، جــــــاءت عــلــى أيــــدي (جــاســوس) سـوفـيـاتـ­ي يعمل تحت ستار عميق جـداً (ديب كوفر) وفي شكل غير شرعي، ويــســتــ­خــدم جــنــســي­ــة كــنــديــ­ة وهمية«. وأهمية الفارق هنا هو أن هذا الجاسوس لم يكن يعمل تحت غطاء دبلوماسي، بل كان مزروعاً في شكل »غير شرعي« داخل بريطانيا.

اكـــتـــف­ـــى مــحــضــر ضــابــط الاســتــخ­ــبــارات، فــي الأول من مايو ١٩٦٠، بـالإشـارة إلـى أن خــيــط المــعــلـ­ـومــة عـــن الـعـمـيـل هـــــاوتـ­ــــون جـــــاء مــــن »مـــصـــدر حـــســـاس«، لــكــن الــبــروف­ــســور أنـــــدور يــقــول إنـــه بـــات الــيــوم مـعـروفـاً أن هــذا الـخـيـط جـاء من الاستخبارا­ت الأميركية.

ويـــشـــر­ح: »الــخــيــ­ط الـــذي قاد إلى كشف خلية التجسس (في بورتلاند) جاء من عميل لوكالات الاستخبارا­ت المركزية الأمـيـركـ­يـة (ســـي آي إيـــه) في داخل الاستخبارا­ت البولندية يــدعــى مـيـخـال غـولـيـنـف­ـكـسـي الملقب بـ (سنايبر) (القناص). فـــي أبـــريـــ­ل (نـــيـــسـ­ــان) ،١٩٦٠ كــتــب غـولـيـنـف­ـكـسـي لـلـعـمـلا­ء الأمـــــي­ـــــركـــ­ــيـــــين يــــخــــ­بــــرهـــ­ـم أن عـمـيـلاً جـنـدتـه الاسـتـخـب­ـارات الــبــولـ­ـنــديــة خـــــلال عــمــلــه فـي مــــكــــ­تــــب المـــــلـ­ــــحـــــ­ق الــــبـــ­ـحــــري البريطاني فـي وارســو قرابة العام ١٩٥١. تم نقله إلى الـ (كي جــــي بـــــي) عــقــب عــــودتــ­ــه إلــى بريطانيا. وتم بسرعة تحديد هوية المشتبه الأساسي بأنه هــــــاري هــــاوتــ­ــون الــــــذي عـمـل مـوظـفـاً لــدى المـلـحـق الـبـحـري في وارسو بين العامين ١٩٥١ و١٩٥٢. لكنه أعيد إلى الوطن نتيجة أنه (غير كفء عموماً)، وقــــــد ســــاهـــ­ـم فــــي هــــــذا (عــــدم الكفاء ة) أنه يحتسي الكحول بــــشــــ­ـراهـــــة. ولــــكـــ­ـن رغـــــــم هـــذا السجل فـي وارســو، استطاع هـــــاوتـ­ــــون، بــعــد عــــودتــ­ــه إلــى إنجلترا، أن يعمل موظفاً في مؤسسة الرصد تحت البحار (يــــو دي إي) فـــي بــورتــلا­نــد بــدورســت«، حـيـث كــان سـلاح البحرية الملكية يُجري تجارب على أسلحته في الماء.

تــــوضـــ­ـح وثــــائــ­ــق »إم آي ٥« الـتـي رُفـعـت عنها السرية أن الـتـحـقـي­ـقـات الـتـي أجـراهـا ضباط المـخـابـر­ات عـام ،١٩٦٠ بناء على »الخيط« الأميركي، شــمــلــت »الـــســـي­ـــدة هـــاوتـــ­ون« الــــزوجـ­ــة الــســابـ­ـقــة لــهــاوتـ­ـون والــــــت­ــــــي تــــــزوج­ــــــت مــــــن رجــــل آخــر بـعـد انـفـصـالـ­هـا عـنـه في منتصف الخمسينات.

كـشـفـت الــزوجــة الـسـابـقـ­ة لــلــمــح­ــقــقــين أنـــــه كـــــان يـجـلـب معه »أوراقــاً سرية« من عمله فـــــي مـــؤســـس­ـــة الأبـــــح­ـــــاث فـي بـــورتـــ­لانـــد و»كــــــــا­ن يــأخــذهـ­ـا مـعـه إلــى لـنـدن خــلال عطلات نـهـايـة الأســـبــ­ـوع«. قــالــت إنـه فـــي إحــــدى المـــــرا­ت الــتــي تـلـت عودته من لندن كان في »حالة زهـــــــو... رمــــى فـــي الـــهـــو­اء مـا قــدّرت أنـه ١٥٠ جنيهاً« وكـان يُــطــلــق »صـــيـــحـ­ــات ســـعـــاد­ة« خـلال قيامه بذلك. نقلت عنه أن أمـــوالــ­ـه كــــان يـجـنـيـهـ­ا مـن »الــــســـ­ـوق الــــــسـ­ـــــوداء«، فـكـتـب محققو الــــ »إم آي ٥« تعليقاً، في محضرهم، أن هذا التفسير لمـصـدر الـدخـل »احـتـمـال وارد لكنه ليس حقيقياً.«

وجــــاء فــي مـلـف هــاوتــون أنـــه انـفـصـل عــن زوجــتــه بعد ســــنــــ­وات مــــن عـــودتـــ­هـــمـــا مـن بــولــنــ­دا إلـــى بـــورتـــ­لانـــد، وأن هاوتون بدأ في فترة انفصاله عــــن زوجــــتــ­ــه، عـــلاقـــ­ة بـــامـــر­أة تعمل في مركز الأبحاث ذاته فــي بــورتــلا­نــد وتــدعــى »اثـيـل جي« ولكن يُطلق عليها دلعاً »بونتي« والـتـي كـان يمكنها الــــوصــ­ــول إلـــــى وثــــائــ­ــق أكــثــر حساسية مـن تلك التي يحق له الاطلاع عليها.

وفــــــــ­ـــي المـــــــ­لـــــــف الــــــخـ­ـــــاص بــــ »بـــونـــت­ـــي«، لاحـــــظ ضــبــاط المــخــاب­ــرات الـبـريـطـ­انـيـة أنـهـا »تـــتـــحـ­ــدث بــلــكــن­ــة قـــويـــة تــدل على (أنـهـا مـن) دورســـت. من الصعب أن تجد شخصاً يمكن أن يكون إلى هذا الحد بعيداً عــمــا يــتــصــو­ره عــامــة الــنــاس عن الجواسيس بالقدر الذي تـمـثـلـه الآنــســة بـونـتـي جــي«. ونـقـل المـلـف هـنـا عــن الـزوجـة السابقة لهاوتون أنـه »مهتم بها (بونتي) فقط ما دام لديها حـــق الـــوصـــ­ول إلــــى الــوثــائ­ــق المـــمـــ­نـــوعـــة عــــلــــ­يــــه«. ولاحـــــظ محضر الضباط أن هـاوتـون إلى جانب علاقته مع »الآنسة جــــــي« الـــتـــي وُصــــفــــ­ت بــأنــهــ­ا »عـــانـــس«، حــــاول أن »يــغــازل مـــن وقــــت إلــــى آخــــر عـانـسـات أخــريــات فــي مـنـتـصـف العمر قد يجدن شيئا جذاباً فيه«.

ويـــشـــي­ـــر مـــلـــف هــــاوتــ­ــون إلى أن المخابرات البريطانية راقبته مراراً خلال انتقاله إلى لـنـدن للاجتماع مـع غــوردون لـــــونــ­ـــســـــد­يـــــل وهــــــــ­ــو شــخــص حـــدده الـبـريـطـ­انـيـون بسرعة بوصفه »عميلاً غير مرخص يـعـمـل إمــا لــلــروس أو لجهاز الاستخبارا­ت البولندية «. ولم تعرف المخابرات البريطانية إلا لاحـقـاً أن اسـمـه الحقيقي هــو »كــولــون مــولــودي« الــذي كــان عـمـيـلاً »عـمـيـقـاً« لـلـروس يستخدم هوية كندية مزورة. ويـصـف المـلـف عملية مراقبة »معقدة« ضد هاوتون، فيقول مثلاً إنه بعدما التقى هاوتون بـلـونـسـد­يـل فــي حــانــة »أولـــد فــيــك« بـلـنـدن فــي ٦ أغـسـطـس (آب) ١٩٦٠ »ذهـــبـــا مــعــاً إلــى مطعم رخــيــص... كــان عملاء المــــراق­ــــبــــة فــــي مــــوقـــ­ـع يـسـمـح لـهـم بـالـتـنـص­ـت عـلـى الــحــوار بــيــنــه­ــمــا... تــكــلــم لــونــســ­ديــل بصوت خفيض، لكن هاوتون كــان يـتـحـدث بـصـوت مرتفع. تـنـاولـت المـحـادثـ­ة إشـــارة إلـى لقاء ات أخرى في المستقبل في أول يوم سبت من كل شهر«.

قــــــادت مـــراقـــ­بـــة هـــاوتـــ­ون ولــــــون­ــــــســـ­ـــديـــــ­ــل إلــــــــ­ــــى كـــشـــف عـلاقـتـهـ­مـا بــالــزوج­ــين »بـيـتـر وألـيـس كـروغـر« الـلـذيـن كانا يـعـيـشـان تـحـت غــطــاء أنـهـمـا من »باعة الكتب« في ضاحية رايسليب (قرب لندن)، وحيث عُثر في منزلهما على أجهزة بـث متطورة ومـعـدات خاصة بــعــمــل الـــجـــو­اســـيـــس. اعــتُــقــل جميع أفراد »خلية بورتلاند« فـــي يــنــايــ­ر (كـــانـــو­ن الــثــانـ­ـي) ١٩٦١، وبعد محاكمة وجيزة فـي مـارس (آذار) ١٩٦١، حُكم على »الكندي« لونسديل – أي الـروسـي »كـولـون مـولـودي« - بـالـسـجـن ٢٥ سـنـة، فـيـمـا نـال هــاوتــون وجــي »بــونــتــ­ي« ١٥ سنة لكل منهما.

أما مساعدا لونسديل في الـ »كي جي بـي« بيتر وأليس كروغر فقد تبيّن أنهما يدعيان فــي الـحـقـيـق­ـة مــوريــس ولـونـا كـــوهـــي­ن وقـــــد حُـــكـــم عـلـيـهـمـ­ا بـالـسـجـن ٢٠ سـنـة (لـــم تُـرفـع السرية بعد عن ملفيهما)، لكن بريطانيا بادلتهما عام ١٩٦٩ بأحد مواطنيها كـان معتقلاً في الاتحاد السوفياتي. وقد سبقهما إلى هناك عام ١٩٦٤ زعيم الخلية لونسديل الـذي بـادلـتـه بريطانيا بجاسوس يحتجزه الاتحاد السوفياتي. أمــا هــاوتــون وجــي »بـونـتـي« فــقــد خــرجــا مــن الــســجــ­ن عــام ١٩٧٠ وتزوجا بعد ذلك بسنة.

بــاتــت »خـلـيـة بـورتـلانـ­د« شـــيـــئـ­ــا مـــــن المـــــاض­ـــــي الــــيـــ­ـوم. لــكــن ســــلاح الــبــحــ­ريــة المـلـكـي البريطاني يعتقد أن الوثائق الــتــي كـــان هـــاوتـــ­ون يـأخـذهـا مـــــن مـــؤســـس­ـــة الأبـــــح­ـــــاث فـي بـورتـلانـ­د »ســاعــدت الاتـحـاد الــســوفـ­ـيــاتــي فــــي بـــنـــاء نــوع جديد من الغواصات الجديدة الـــصـــا­مـــتـــة، أو الأقــــــ­ـل إثــــــار­ة للصوت .«

عمل هاري هاوتون موظفاً لدى الملحق البحري في وارسو بين العامين ١٩٥١ و١٩٥٢. لكنه أعيد إلى بريطانيا كونه »غير كفء« قادت مراقبة لونسديل وهاوتون الاستخبارا­ت البريطانية إلى كشف »الزوجين« الجاسوسين »بائعي الكتب« بيتر وأليس كروغر

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia