المخاطرة الاقتصادية الكبرى للصين
أطــــلــــق الــــرئــــيــــس الـــصـــيـــنـــي شـي جـيـنـبـيـنـغ فـــي الــفــتــرة الأخـــيـــرة رؤيـــة جــريــئــة لـتـحـويـل بــــلاده إلــــى اقـتـصـاد مــتــقــدم عــلــى نــحــو كــامــل بــحــلــول عــام ٢٠٥٠، مع التركيز بصورة خاصة على تـعـزيـز الـتـكـنـولـوجـيـا وروح الابـتـكـار. وبالنظر إلى المستوى الحالي لرؤوس الأمـــوال البشرية فـي الـصـين - وبعض الـتـغـيـيـرات الـتـي تـلـوح فـي الأفــق فيما يـخـص الاقــتــصــاد الــعــالمــي - فـــإن هـذه الرؤية ربما تحمل صعوبة في تنفيذها أكبر عن المتوقع.
مــن بــين الاعــتــقــادات الــســائــدة في الـغـرب أن مــدارس الصين تعج بنشاط خاص في مادتي الرياضيات والعلوم، وكـذلـك نـمـط الـطـلاب الــذي ستحتاجه الــشــركــات فــي المـسـتـقـبـل. بـيـد أن هـذا الـتـصـور فــي حـقـيـقـتـه مـضـلـل لـلـغـايـة، فعلى امتداد سنوات، ركـزت الدراسات الكبرى التي تصدرت عناوين وسائل الإعـــــــــلام وكـــشـــفـــت تـــفـــوق الـــصـــين فـي الاختبارات المعيارية على أبناء مناطق غنية لا تمثل المجموع الصيني. إلا أنه عند ضم قاعدة السكان الأكثر اتساعاً نـجـد أن تـرتـيـب الــصــين يـتـراجـع على مستوى جميع المواد الدراسية.
وتــدعــم الــبــيــانــات الـرسـمـيـة هـذه الــنــتــيــجــة، ذلـــــك أنـــــه تــبــعــاً لــلإحــصــاء الـسـكـانـي الـصـادر عــام ٢٠١٠، فــإن أقـل مـن ٩ فـي المـائـة مـن الصينيين ارتــادوا المـدارس بعد المستوى الثانوي. ما بين عــامــي ٢٠٠٨ و٢٠١٦ تــراجــع إجـمـالـي عــدد الـطـلاب المـتـخـرجـين فـي الجامعة من الصينيين بنسبة واحـد في المائة. وخـــــارج المــنــاطــق الأكــثــر ثــــــراءً، يفتقد الكثير من أبناء الصين حتى المهارات الأســاســيــة الـــلازمـــة لاقــتــصــاد مـرتـفـع الدخل.
ويــزداد الأمـر سـوءاً بسبب ملايين الأطــفــال داخــل المـنـاطـق الـريـفـيـة الـذيـن تجري تربيتهم داخل عائلاتهم الكبيرة. ونـظـراً لأن الـوالـديـن يـعـمـلان فـي مـدن بعيدة، عادة ما يأتي أداء هؤلاء الأطفال الـدراسـي وفـي اخـتـبـارات الـذكـاء أسـوأ كثيراً من نظرائهم. من ناحيته، أشار سكوت روزيــل، المتخصص في العلوم الاقـتـصـاديـة بجامعة سـتـانـفـورد، إلى هـذا الأمـر باعتباره »أزمـة غير مرئية« تتشكل يوماً بعد آخر. ويقدر روزيل أنه خـلال العقود المقبلة، فـإن ما يقرب من ٤٠٠ مليون صيني ربـمـا يبحثون عن عمل بينما هم غير مستعدين بالصورة المناسبة لاقتحام سوق العمل. وقد مس بحثه وتراً بالغ الحساسية، لدرجة أنه حتى وسـائـل الإعــلام الحكومية أولته اهتماماً جاداً.
مـــن نــاحــيــة أخــــــرى، نــجــد أنــــه مـن السهل فـي الـوقـت الـراهـن تجاهل مثل هذه المشكلات، بالنظر إلى أن المعدلات الـرسـمـيـة لـلـبـطـالـة لا تــــزال منخفضة ومـــســـتـــقـــرة، فــــي وقــــــت تــتــنــامــى فـيـه الأجــور وتتسع الطبقة المتوسطة. ولا تــــزال المــصــانــع الـصـيـنـيـة مـصـنـفـة من بـين الأفـضـل عالمياً، ويمتلك العاملون بها بصورة عامة المـهـارات اللازمة كي يتمكنوا من إعالة أنفسهم.
إلا أنه مع تسارع وتيرة التغييرات الديموغرافية والتكنولوجية، سرعان ما ستلوح في الأفق الفجوة التعليمية. ومـــع تــزايــد الأجـــــور، سـتـواجـه جـهـات التصنيع الصينية منافسة متزايدة من جانب أقـل نـمـواً. ومـع تحسن مستوى الاعتماد على الميكنة، ستحتاج المصانع إلى عمال يتمتعون بمستوى تعليمي أفضل.
الـواضـح أن الصين - مثلما الحال مع كثير من الدول - غير مستعدة لمثل هــذه الـتـغـيـيـرات. ولــم يـعـد مــن الممكن الإبــقــاء عـلـى اقـتـصـاد مـتـطـور معتمد على الخدمات عندما يملك ٢٥ في المائة فقط من السكان في سن العمل مستوى تعليمياً مرتفعاً. وتوصل روزيل إلى أنه في جميع الدول التي نجحت في القفز مـن فـئـة متوسطة الـدخـل إلــى مرتفعة الـــدخـــل عــلــى مـــــدار الأعــــــــوام الـسـبـعـين الماضية، فإن ٧٥ في المائة على الأقل من سكانها في سن العمل كانوا حاصلين على شهادة التعليم الثانوي قبل أن يبدأ هذا التحول. وحتى المدارس النخبوية في الصين ليس بمقدورها دفـع عجلة التنمية من أجل ١٫٤ مليار نسمة.
على الجانب الآخر، فإن رفع مستوى الــتــعــلــيــم عــلــى نـــطـــاق أوســــــع يـتـطـلـب اســتــثــمــارات وإصــــلاحــــات. وبـطـبـيـعـة الـحـال فــإن غالبية الـــدول تستفيد من تـوجـيـه مـزيـد مـن الاسـتـثـمـارات لمجال التعليم، لكن بالنسبة للصين فإن ثمة حاجة ملحة لهذه الاستثمارات، ذلك أنه حتى داخـل المراكز الحضرية الميسورة مــاديــاً، عــادة مـا جــرى حـشـر ٥٠ طالباً في الفصل الواحد، ما يضع الكثير من المجهود التعليمي الحقيقي على عاتق الآباء والأمهات الذي يتملكهم الإحباط إزاء هـذا الـوضـع. المـؤكـد أن هـذا وضع نـتـيـجـتـه المــحــتــومــة الــفــشــل. ويـنـبـغـي أن تـتـمـثـل أولــويــة أخــــرى فـيـمـا يطلق عـلـيـه »نـظـام هـوكـو« لتسجيل الأســر. في الـواقـع، السبب وراء تنشئة الكثير للغاية من الأطفال داخل المناطق الريفية على أيدي أجدادهم، أنهم محرومون من الخدمات العامة - بما في ذلك المدارس - داخــل المــدن الـتـي يعمل بها آبـاؤهـم. في الوقت ذاته، فإنه من الأسهل بكثير تـوفـيـر مـسـتـوى جـيـد مــن الـتـعـلـيـم في المـــراكـــز الــحــضــريــة عــنــه داخـــــل الــقــرى النائية. ومع وصول معدلات الوحدات السكنية الخالية إلـى أكـثـر مـن ٢٠ في المائة داخل الكثير من المدن، فإنه يبدو من اللائق إنسانياً والصائب اقتصادياً إنهاء هذه القيود.
وينبغي أن يتمثل هــدف آخــر في إصـــلاح المـنـاهـج الـتـعـلـيـمـيـة، وتشتهر الصين بالمناهج التي تفرض على الطلاب الحفظ عن ظهر قلب. كما تعمد المدارس إلـــى تـعـزيـز الاهــتــمــام بـالآيـديـولـوجـيـة الـشـيـوعـيـة والــفــكــر الــكــونــفــوشــي، بـل والــطــب الـصـيـنـي الـتـقـلـيـدي. بــــدلاً من ذلـك، ينبغي التركيز على مهارات مثل الابتكار وحل المشكلات، الأمر الذي يعين في تعزيز الإبداع وروح الريادة، ويضمن قدرة الطلاب على المنافسة في عالم من الروبوتات والطائرات دون طيار.
ومع أن الكثير من الدول ستواجه هـــــذه الــنــوعــيــة مــــن المـــشـــكـــلات خــلال الــســنــوات المــقــبــلــة، فـــإن الــصــين تـبـدأ طريقها في مواجهة عدد من العقبات الكبيرة. وربما يكون الرئيس الصيني مــحــقــاً فـــي تــأكــيــده عــلــى أن الـشـعـب الـصـيـنـي يتميز بـالـصـلابـة والإبـــداع الـــكـــافـــيـــين لــتــحــقــيــق الأهــــــــــداف الــتــي يـأمـلـهـا، لـكـن المـؤكـد أن الـطـريـق نحو ذلك ستكون شاقة.
*بالاتفاق مع »بلومبيرغ«