سيناء والإرهاب المستوطن
مع تكرار حــوادث الإرهــاب البشعة تعود »الكليشيهات« الصحافية المتكررة في تناول أكثر ظواهر العصر الحديث تركيباً وتعقيداً، وهـي العنف الدموي المــوجــه أحـيـانــاً ًوالـعـبـثـي والــفـوضــوي أحايين كثيرة، رغبة في إيجاد محتوى سـريـع يـنـاسـب الـحـدث وسـرعـة تناوله على شاشات التلفزة ووسائل الإعـلام، ودون فحص دقيق للتفاصيل الصغيرة التي عادةً ما تقودنا مع الوقت إلى بناء تصور تحليلي للمشهد كاملاً.
ما يحدث في سيناء أكبر من تنظيم داعش، وإن كانت »ولاية سيناء« يراها التنظيم أكثر الأذرع نشاطاً وبقاءً حتى بـعـد زوالــــه لأســبــاب تـتـصـل بجغرافيا المـــكـــان والـــتـــاريـــخ والـسـيـسـيـولـوجـيـا (المجتمع السيناوي)، وصولاً إلى علاقة الدولة المصرية
بهذا الجزء من دولة مصر الكبيرة والعظيمة.
هــنــاك مـجـمـوعـات تـكـفـيـريـة تنبت في مواقع جغرافية غير متوقعة بسبب سهولة بناء مجتمع معزول في مناطق نائية، في ظل تراخٍ أمني أحياناً وولادة أجـيـال جـديـدة غـيـر مسجلة فـي دفـاتـر المخابرات والأمــن، حـدث ذلـك في بلدان إســـلامــيــة، بـــل حــتــى فـــي أوروبـــــــا وفــي أفريقيا فـي بعض الــدول التي لا يظهر فــيــهــا نـــشـــاط إســـلامـــي فـــاعـــل. وكــانــت المـحـصـلـة فـــي كـــل تــلــك الــتــجــارب الـتـي عرفتها عـن قـرب بسبب طبيعة الجدل مع جماعة مصطفى شكري، واهتمامي بظاهرة العابرين للتكفير دون المـرور بــتــجــربــة تـــديـــن أو مــلامــســة لــلــتــدرج الزمني المنطقي للانتماء إلى الحركات الإســلامــيــة الـتـقـلـيـديـة، ســـواء العملية والمدرسية منها أو المسيسة كـ »الإخوان« ومـا تفرع منها، أو حتى تلك التجارب »الجهادية« المنشقة عن تنظيم الإخوان كـ »القاعدة«.
هـنـاك نـمـوذج »التكفير والـهـجـرة« وهذا محيّر ومدهش في ولادته وتمدده وجــنــوحــه لـلـعـنـف ضــد الـــــذات والآخـــر القريب، كالمجموعات الصوفية وحتى الـسـلـفـيـة غــيــر الـعـنـيـفـة أكــثــر مـــن غـيـر المسلمين، أو ًالتلامس مع جـسـد الــدولــة مـمـثـلـة في الجهاز الأمني، مما كان يوحي لكثير من المراقبين داخـل الحركة الإسلامية بـأنـهـم نــتــاج مــخــابــرات، بــســبــب قـــلـــة الــحــصــيــلــة الشرعية وملامح التدين وســـــــــرعـــــــــة الانــــــضــــــمــــــام والفعالية في مجموعات التكفير والـهـجـرة والتي كــــــانــــــت قـــــنـــــطـــــرة عـــبـــور للتنظيمات المسلحة في وقت قياسي وسريع.
جزء من تفشي ظاهرة المجموعات الـتـكـفـيـريـة ذات الــطــابــع الاجـتـمـاعــي - الـسـيـسـيـولـوجـي كــان »المــكــان« بـكـل ما يــوحــيــه مـــن عـــزلـــة وغـــيـــاب مــؤســســات التأثير الدينية والسياسية والثقافية، مع حضور باهت للمؤسسات الأمنية، والتي لا يمكن أن تمارس دور المزاحمة لولادة تلك الأفكار وتغلغلها، في الأغلب ستكون مضطرة إلى المواجهة العسكرية بعد فوات الأوان، وتحول تلك المجموعات من مربع »التكفير« إلى »التفجير«، وهو بالضبط ما يحدث في المنطقة الصغيرة ضــمــن خــريــطــة ســيــنــاء الــكــبــيــرة الـتـي يحاول تنظيم داعش الاستفادة من تلك المجموعات التكفيرية، والاستثمار فيها لصالح ولايته المزعومة.
جـــــزء كــبــيــر مــــن صــــــورة »داعــــــش« الـنـمـطـيـة صـنـعـهـا الإعــــلام الــشــره نحو »المـغـايـرة«، أي مـحـاولـة إيـجـاد قصص وصــــــــور وأفــــــــــلام وحـــــــــــــوارات مـخـتـلـفـة واسـتـثـنـائـيـة مــغــايــرة لمـــا يــتــم تــداولــه عــــــادة مـــن أخـــبـــار لـــم تــعــد تــشــبــع نـهـم المتابع المتعطش، الذي يجد في وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات التقنية بدائل أسـرع وأكثر تفصيلاً، وإن كانت في معظمها هوامش رديئة وغير موثقة على متن الأخبار الرئيسية التي تُستقى من الإعلام المرئي.
ولادة مــجــتــمــعــات مـــتـــطـــرفـــة فـي بنيتها الجغرافية والعشائرية والنمط الاجتماعي الـذي تعيشه يجب أن تدق نـــــاقـــــوس الـــخـــطـــر لــديــنــا، فمعظم البلدان الإسلامية فـــي أفــريــقــيــا الآن يـحـضـر فــــيــــهــــا تــــنــــظــــيــــم داعــــــــــش، وهناك مجموعات وخلايا وكونتونات تتحدث عنها تــــقــــاريــــر بــحــثــيــة تـــحـــاول اســـتـــقـــصـــاء تــــمــــدد الــفــكــر الإرهـــــابـــــي، حــتــى وإن لـم يـواجـه مقاومة أو حـوادث اصـطـدام بالسلطة، مثلما هـــــو الـــــحـــــال فـــــي مــنــاطــق الــتــوتــر المــعــروفــة، كـمـا أن الآلـة الضخمة الدعائية للتنظيم تتجه الآن إلى بلدان جديدة ومناطق بِكر.
الأخطر الآن هو هـذا التكتم بسبب الحساسية الكبيرة التي تواجه الدولة المصرية الجديدة في منطقة سيناء، التي يعدها التنظيم أهم ولاية له في المنطقة، بـسـبـب ذلــــك الــتــنــاغــم بـــين مـجـمـوعـات متطرفة سابقة وعشائر لديها تعيش حالة اللادولة أو »الأناركية« الجديدة، وهــــــي حـــالـــة بـــحـــاجـــة إلــــــى المــــزيــــد مـن الـرصـد، وملخصها وجــود مجتمعات لا تــحــمــل بـــالـــضـــرورة الآيــديــولــوجــيــا العنفية القتالية، لكنها بسبب وقوعها فــي الأطــــراف بـعـيـداً عــن المــركــز تخضع لحالة تـمـرّد سياسي، وتقبّل لحضور أي جـمـاعـة عنفية تــمــارس مـعـهـا دوراً تكاملياً، فـي محاولة الانقضاض على مـا تبقى مـن مـفـهـوم »الــدولــة« فـي تلك المناطق.
في حالة سيناء الأمر أكبر تعقيداً، حــيــث تــتــداخــل مــجــمــوعــات الـجـريـمـة المنظمة، وتهريب الأسلحة، والقوميات المتداخلة الهويّة بين مصر وقطاع رفح، وصـعـود منطق القبيلة الـخـارجـة على منطق الدولة، أو على الأقل المستقلة عنها على مستوى الموارد والاحتياجات. جزء من سيطرة مفهوم الدولة هو حضورها التنموي والمـؤسـسـاتـي ولـيـس الأمـنـي، ومن هنا لفهم تلك المجموعات المتطرفة فـــي ســيــنــاء المـــصـــريـــة الـــتـــي لـــم تـطـلـق رصاصة واحدة إلا في صدور المصريين،
ّ يـجـب الـكـف عـن ازدواجــيــة الـلـعـب على