Asharq Al-Awsat Saudi Edition

جون لوك وأساسيات الثقافة الليبرالية

- د. محمد عبد الستار البدري

لا خلاف على أن التراث الليبرالي الــــيـــ­ـوم يــمــكــن إرجـــــــ­ـاع جــــــــذ­وره إلــى العصر الإغريقي، خصوصاً كتابات »أرسطو« وغيره من الفلاسفة، ولكن المــرجــع­ــيــة الــفــكــ­ريــة الــلــيــ­بــرالــيـ­ـة فـي العصر الحديث دائماً ما تبدأ بالمفكر الإنجليزي العظيم »جون لوك« الذي يمثل الانطلاقة الفلسفية والعملية للفكر الليبرالي، فقد شيّد الأسـاس الذي بُنيت عليه المنظومة الليبرالية عــلــى المــســتـ­ـوى الـــدولــ­ـي إلـــى يـومـنـا هــذا مـنـذ أن نـشـر كتابيه المـعـروفـ­ين بـــــ »الأطــــرو­حــــتــــ­ـين حــــــول الــحــكــ­ومــة المـدنـيـة«، والـلـذيـن تـم نـشـرهـمـا عـام ١٦٩٠، وفي هذين الكتابين وضع هذا المـفـكـر الـعـبـقـر­ي الـقـواعـد الأسـاسـيـ­ة لمـــا يـنـبـغـي أن تـــكـــون عــلــيــه فـلـسـفـة وأســالــي­ــب الـحـكـم الـلـيـبـر­الـي والـتـي أصبحت الركيزة الأساسية التي بُني عليها الدستور الأميركي بعد أقل من قـرن مـن الـزمـان، ثـم انتشرت لتشمل أغلبية الدول الغربية مع مرور الوقت، فـالأطـروح­ـة الأولــى تـركـزت على نقد بل ونقض النظرية السلطوية للحكم لـتـكـون التمهيد لـلأطـروحـ­ة الثانية التي وضعت أسس الحكم الليبرالي لأي دولـة، وعلى الرغم من أن الرجل لم ينشر الأطروحتين باسمه، لأسباب سياسية مرتبطة بالظروف المضطربة في إنجلترا، آنذاك، والتي مرت بحرب أهـلـيـة ضـــروس انـتـهـت بــإعــدام الملك »جيمس الثاني«، وتولِّي الديكتاتور »كــرومــوي­ــل« الــحــكــ­م، ثــم بـعـد مـوتـه يــــــؤول الــحــكــ­م إلـــــى المــلــكـ­ـيــة، وتــبــدأ سلسلة من الاضطرابات والتصفيات السياسية مرة أخرى، فيهرب »لوك« من قبضة الملك لشكوك في مشاركته فـي مـؤامـرة ضــده، ثـم تـأتـي »الـثـورة الـعـظـيـم­ـة« فــي ١٦٨٨ فـتـضـع أســاس الملكية الدستورية أو البرلمانية، وقد خـشـي »لـــوك« مـن مـغـبـة الانـتـقـا­مـات الـسـيـاسـ­يـة فـنـشـر كـتـبـه تـحـت اسـم مستعار في البداية.

لقد بدأ »لوك« فلسفته الأساسية من خلال القناعة الكاملة بأن الإنسان لـــيـــس، كــمــا وصـــفـــه آخــــــــ­رون وعــلــى رأسـهـم المـفـكـر الإنـجـلـي­ـزي »تـومـاس هوبز«، أنانيَّ التوجه غير قادر على إدارة أمـوره، كما تعرضنا في المقال السابق، ولكنه كائن عاقل يمكن أن يبني مع نظرائه »الكومونولث« أو المجتمع بشكل منطقي عبر المصلحة المـــشـــ­تـــركـــة مــــن خــــــلال مـــفـــهـ­ــوم عـقـد اجتماعي نظري يتفق فيه المجتمعون على إنشاء المجتمع السياسي، فهو عـقـد اعـتـبـاري ولـيـس فعلياً يـفـوّض من خلاله كل شخص حقه في إدارة الدولة أو المجتمع إلى سلطة سياسية لإدارته بالنيابة على أسس وشروط متَّفق عليها، وعلى رأسها:

أولاً، ضـــمـــان حـــقـــوق أســاســيـ­ـة ثـــــلاثـ­ــــة هــــــي (الــــــحـ­ـــــق فــــــي الــــحـــ­ـيــــاة، والحرية، والملكية الفردية)، فرأى أن هــذه الـحـقـوق الـثـلاثـة الأسـاسـيـ­ة ما هـي إلا حـقـوق ثـابـتـة ًنملكها بحكم إنــســانـ­ـيــنــا ولــيــســ­ت هــبــة مـــن أحـــد، فــهــي حـــقـــوق مــرتــبــ­طــة بـكـيـنـون­ـتـنـا الـوجـوديـ­ة، مـن ثـم فــإن الـحـكـومـ­ة أو الـدولـة يـجـب أن تـحـافـظ عليها بكل صدق وأن تصونها القوانين، وهذه الحقوق بطبيعة الحال ليست مطلقة فلها استثناءاته­ا الـتـي تُنظَّم وفقاً للقوانين.

ثانياً، وانطلاقاً من هذه الحقوق المـحـوريـ­ة تـأتـي رؤيــة »لــوك« لكيفية تنظيم السلطة السياسية، فيرى أنها يـجـب أن تـكـون مـرهـونـة بالشرعية مـــن خــــلال حــكــومــ­ة مـمـثـلـة لـلـشـعـب وبتفويض منه، بها قدر من التوازن بين السلطة التشريعية والتنفيذية، ولكنه يضع في النهاية العبء الأكبر على السلطة التشريعية باعتبارها مسؤولة عن سن القوانين التي تضع إطار الدولة وسبل تحركها، وقد ألزم الرجل هذه السلطة بمراعاة الحقوق الأسـاسـيـ­ة وحماية المجتمع داخلياً وخارجياً.

ثـــالـــث­ـــاً، أكـــــد »لــــــــو­ك« أن أســــاس السلطتين مقرون بما وصفه بموافقة Consent)( المــواطــ­ن، أي أنـهـا تـأخـذ شـرعـيـتـه­ـا مــن إقــــرار الأفـــــر­اد بـهـا أو أغلبيتهم، وهنا فإنه يُخرج مفهوم الــشــرعـ­ـيــة عـــن المــفــاه­ــيــم الـتـقـلـي­ـديـة الـسـائـدة فـي أوروبـــا فـي ذلــك الـوقـت والمـبـنـي­ـة عـلـى نـظـريـة الـحـق الإلـهـي المطلق للملوك، والـذي كـان الأسـاس الفكري والعقائدي السائد، وقد كانت رؤية هذا الرجل حاسمة في تقويض هذا المفهوم من الأساس، فلم تعد له مرجعية فكرية تُذكر بعده.

رابـــــعـ­ــــاً، اهـــتـــم »لـــــــــ­ـوُك« بـتـأكـيـد أهمية الدين في المجتمع، ولكنه كان ضــد أي مــحــاولـ­ـة لإقــحــام الـكـنـيـس­ـة الأنجليكية فـي المـعـادلـ­ة السياسية، واعتبر أن دورها رعوي، أي أنه مركّز عـلـى الــرعــيـ­ـة، وبـالـتـال­ـي لا دور لها فـي الـحـكـم، فـاصـلاً بـذلـك الـدولـة عن الـديـن، حتى وإن كـان الملك هـو رأس الكنيسة وفـقـاً لـهـذا المــذهــب، ولكنه أيضاً وضع اللبنة الأساسية لمفهوم التسامح، حيث أكد أحقية اعتناق أي فـرد لأي مـذهـب مسيحي، فهو حقه الـطـبـيـع­ـي، ورفــــض تـمـامـاً مـحـاولـة استخدام الوسائل القسرية أو غيرها لإجبار الناس على أي مذهب، مؤكداً أن ذلـــك لــن يــــؤدي إلا إلـــى مــزيــد من القهر والـعـنـف داخــل المجتمع، ومع ذلـك فيلاحظ أنـه كـان مقصوراً على المسيحية دون غيرها مـن الديانات الأخرى.

وهكذا استطاع هـذا الفيلسوف الـعـظـيـم أن يــضــع الأســـــس الـفـكـريـ­ة لليبرالية، ولكن كما كان متوقعاً فإن فـكـره الـسـيـاسـ­ي أخــذ وقـتـه لينتشر حتى جاءت الثورة الأميركية لتضعه حــيـــز الــتــنــ­فــيــذ مــــن خـــــلال مـفـاهـيـم الحقوق الأساسية والتي وردت في إعــــلان الاســتــق­ــلال، ثــم بـعـد ذلـــك في عملية صياغة الدستور ونظام الحكم الأميركي، ومن بعد ذلك عاد فكره مرة أخرى للقارة الأوروبية ليلعب دوره المـحـوري فـي نشأة النظم الليبرالية بـهـا... لقد علق أحـد المفكرين بقوله »إن الدستور الأميركي كتبه مجموعة مـــفـــكـ­ــريـــن وشـــــــب­ـــــــح... هـــــــذا الــشــبــ­ح لــكــرومـ­ـويــل الــديــكـ­ـتــاتــور«، ولـكـنـنـي أعتقد أن هـذه الجملة ناقصة، فلقد كـانـت هـنـاك روح إضـافـيـة محمودة الوجود، وهي روح »لـوُك« من خلال كتاباته.

 ??  ?? جون لوك
جون لوك

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia