من بقايا التراث العثماني
نــعــتــز ونــســتــشــهــد بــالــكــثــيــر مــــن تــراثــنــا الــعــربــي... بـيـد أن الـعـهـد الـعـثـمـانـي تـــرك لـنـا أيضاً الكثير من مخلفاته وتراثه. هناك أمثال عديدة ورثناها من أيامه ومـن ممارساته. من ذلـك شظف العيش في الحياة العسكرية لهذه الإمبراطورية الإسلامية؛ ومـن ذلـك قولنا: »يا عسكر السلطان عالبر يخيمون عقب الحليب وتــشــاي مــالــح يــشــربــون«. شـــاع هـــذا المــثــل فـي العراق. وهـذا يعود بلا شك إلى تجمع القوات العثمانية في منطقة الأهوار من جنوب العراق، أثناء محاربة الغزاة الإنجليز. كثيراً ما اضطروا لــشــرب مـــاء الأهـــــوار الـــذي يـحـتـوي عـلـى شـيء من الملوحة. كـان الجند العثمانيون ينصبون خيامهم وينامون في العراء، ويقتاتون بأسوأ أنواع الخبز من »القلاطة والبقصماط«.
لقد روى لي والدي، رحمه الله، أن الجنود كـثـيـراً مــا كــانــوا يــضــطــرون لـكـسـر هـــذا الـخـبـز بالحجارة، أو أخمص البندقية أو تنقيعها في ماء الهور لصلابتها ويبوستها. بمرور الزمن أصبح البقصم من أنواع الكعك في المنطقة إلى يومنا هـذا، كبقية مـن بقايا الـتـراث العثماني مثل الدولمة والكفتة والكباب. الواقع أن المطبخ العربي يدين بمعظم ألوانه ونكهاته إلى الطبخ الـعـثـمـانـي، الـــذي كـــان بــــدوره مـديـنـا بـالـكـثـيـر للطبيخ البيزنطي.
كثيرا ما تختم بختمها الجيوش الأجنبية أنــواعــا عــديــدة مــن أطـعـمـتـهـا وأزيــائــهــا. رأيـنـا كيف تعلمنا من العساكر الإنجليز والفرنسيين لبس الشورت (السروال القصير) والقبعة وأكل الساندويش والجلي والكاسترد وشرب الشاي والـقـهـوة بـالـحـلـيـب، كـذلـك تعلمنا مـن الجنود الـعـثـمـانـيـين شـتـى أنـــواع الـطـبـيـخ الــذي أصـبـح جزءاً من حياتنا.
وحياتنا تعكس مناخنا، منطقة متطرفة فــي الـحـديـن، وهـــذا المـثـل يـشـيـر إلــى نـتـائـجـهـا، فــمــن الـحـلـيـب والـــشـــاي، مــالــح يــشــربــون، قــول مأساوي فما أشد وأمر على الإنسان من السقوط المفاجئ من النعيم إلى الجحيم، وهو ما يخشاه ويبغضه إنسان الشرق الأوسـط. والمثل يتردد فــي صـــور مـخـتـلـفـة تـعـبـر عــن قــســوة الـسـقـوط. يقولون في منطقة الجزيرة العربية »قيق - قيق« من السعة للضيق. ويقولون أيضا »ضاقت به الـوسـيـعـة«. ولأهـــل الـيـمـن قــول يـــوازي ويـمـاثـل ذلك: »كلما قلنا عساها تنجلي قالت الأيام هذا مبتلي«. وتسمعهم يقولون أيضا: »كلما قلنا يا قريب الفرج قال الزمان يا شديد العقاب«. ومما تسمعه فـي بـلاد الـشـام قـولـهـم: »الـلـي جمعناه حبة حبة اجا الجمل وغبه فرد غبة«.
ويــعــبــر الأوروبـــــيـــــون عـــن ارتــــبــــاط الـعـسـر باليسر بمثل ورثوه من التراث اللاتيني القديم: »حيث يوجد العسل يوجد المر«.
هـذا الـتـزاوج والـتـداخـل بـين الخير والـشـر، والنعيم والجحيم سمة شرق أوسطية ارتبطت بـمـنـاخ المـنـطـقـة وطبيعتها ومـنـاحـي حياتها، ونجد أن تراثنا العثماني امتداد لهذه الميزة.