أطفال ناجون من التجنيد الحوثي: كانوا يغروننا بالمال والسلاح
وجــــــد الـــحـــوثـــيـــون فـــــي بـعـض أطـــفـــال الــيــمــن أرضـــــاً صــالــحــة لـبـذر تعاليمهم الـتـي تـدعـو إلــى الإقـصـاء والقتل، خصوصاً مـع انتشار الفقر والجهل فـي الـقـرى النائية، فعمدوا إلــــى إغـــرائـــهـــم تـــــارة بـــالمـــال وأخــــرى بالمخدرات، وتمكنوا من تجنيد عدد كبير من الأطفال الذين لم يجدوا ما يحلمون به وسط أزيز النار ودخان المعارك. لم تعد عملية تجنيد الأطفال مــن مـيـلـيـشـيـات الـحـوثـي تـسـيـر في الـخـفـاء كـمـا كـانـت سـابـقـاً، إذ طالب وزيـــر الـشـبـاب فـي حـكـومـة الانـقـلاب الحوثي حسن زيـد، علانية، بإغلاق المدارس لمدة عام وتوجيه الطلبة إلى جبهات القتال.
وقـــــال نـجـيـب الــســعــدي رئـيـس »مــؤســســة وثـــــاق لــلــتــوجــه المــدنــي« (مـنـظـمـة يـمـنـيـة تـعـمـل عـلـى تـأهـيـل الأطــــــفــــــال المــــجــــنـــديـــن والمــــتــــأثــــريــــن بالحرب بتمويل وإشراف مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية) لـ »الشرق الأوسط«: »تم توثيق ٢٥٦١ حـالـة تجنيد خــلال عــام ٢٠١٧؛ لكن العدد الحقيقي أكبر من هذا بكثير، فالتقديرات تقول إن عـدد المجندين الأطفال في صفوف الحوثي أكثر من ١٢٠٠٠ طفل«.
فـــي »مــؤســســة وثــــــاق لـلـتـوجـه المدني« تحدث أطفال نجوا من جحيم الـتـجـنـيـد الـحـوثـي عــن أيـــام الـخـوف والـعـذاب والـغـدر التي واجهوها في جـبـهـات الــقــتــال، وكــيــف اسـتـطـاعـوا الهرب من الميليشيات التي استغلت الوضع الاقتصادي الصعب لأسرهم، ووعدتهم بمنحهم رواتب لا تتجاوز ٥٠ دولاراً فــي الــشــهــر؛ إضــافــة إلـى معونات غذائية لأسر الأطفال مقابل أخذ أطفالهم للتجنيد.
خوف من كل شيء
بـيـنـمـا كـــــان عـــــدي (١٣ عــامــاً) يقضي وقته بمزرعة في بلدته حبور ظـلـيـمـة الــتــابــعــة لمـحـافـظـة عــمــران، مـــع خـمـسـة مـــن أصـــدقـــائـــه، اقــتــرب منهم شـخـص، تظاهر بـأنـه يجري اتـصـالاً، وفهموا منه أن مـن يذهب إلـــى الـحـوثـيـين يـجـد راتــبــاً شـهـريـاً وسلاحاً، فأعجبوا بالفكرة، ووافقوا على الذهاب معه إلى أحد المعسكرات التي بقوا فيها أسبوعاً. كان الفتى خائفاً، وزاد خوفه بعد أن تـم نقله إلـــى الـجـبـهـة مــع كـثـيـر مــن الأطـفـال الـذيـن كـانـوا يحملون المــاء والـغـذاء للمقاتلين، ولـم يفد بـكـاؤهـم، وكـان كل ما عليهم هو تنفيذ الأوامر فقط.
وقال عدي لـ »الشرق الأوسـط«: »كنت أخاف من كل شيء؛ خصوصاً مــن المـسـلـحـين الــكــبــار. وفـــي إحــدى لــحــظــات الاشــتــبــاك أصــيــب أطــفــال بجانبي، وكانوا يذهبون لإسعافهم، وسرعان ما يأتون بغيرهم، وبعد أن بقينا على هذه الحال شهراً كاملاً، حـظـيـت بـسـلاح آلــي مــن المـسـلـحـين، ورغم فرحي بذلك فإن خوفي وترقبي بـأنـي ســألاقــي مـصـيـر أقــرانــي ممن أصـيـبـوا أو قـتـلـوا، غـلـب فـرحـتـي«. ولفت إلى أنه لم يكن يشعر بحاجته لـلـنـوم؛ بـل تظل عيناه مفتوحتين، مـحـتـضـنـاً أغــراضــه وكــأنــه يتشبث بــهــا. وفـــي إحــــدى الـلـيـالـي سقطت بجانبه قذيفة أصابته بشظايا، كما أصابت زميله النائم بجواره، وبعد إسـعـافـهـم إلـــى المـشـفـى عـــــادوا إلـى منازلهم، وفـي الطريق بـاع سلاحه الذي تم إعطاؤه إياه، وتحت ذريعة استعادة الـسـلاح جـاءت إلـى منزله عناصر من الميليشيات يطلبون منه العودة للقتال أو السلاح.
حاول الطفل التخفي والهروب؛ لـكـنـه لـــم يـسـتـطـع، وألـــقـــي الـقـبـض عليه وأودع السجن أسبوعاً، وبعد مـحـاولات مـن عمه تـم إخـراجـه على أن يعود إلى الجبهة، إلا أنه لم ينفذ الأمــــر؛ لأنـــه لــم يـعـد يـمـلـك الــســلاح، فــخــاف مـــن الــعــقــاب، وعـــــاش أيــامــاً مشرداً في المزارع لا يستطيع العودة إلى منزل أسرته، وبعد ذلك اقتادوا عمه بدلاً عنه إلى السجن، ولم ينج منهم إلا بعد أشهر.
ورغم نجاح عدي في الهرب إلى مدينة مأرب، فإن ماضيه تسبب في شــروده الـذهـنـي وضـعـف تحصيله العلمي بدرجة كبيرة. وأكد أن الدورة التأهيلية النفسية والاجتماعية التي خضع لها سـاعـدتـه على التخلص مــن الـقـلـق والــخــوف والأفــكــار الـتـي اكتسبها في جبهات القتال، وعززت لديه الشعور بالأمان.
إغراء المال والسلاح
استأذن ناصر محمد جشيش، الذي لا يتجاوز سنه ١٤ عاماً، أباه لقضاء جلسة سمر فـي بيت أحد جـيـرانـهـم بــإحــدى قـــرى مـحـافـظـة عمران؛ لكن الجلسة أدت إلى غيابه أشـهـراً، بعد أن أغــراه جــاره بالمال والسلاح، إذ التحق بأحد المشرفين مـع الـحـوثـيـين، الــذي زيــن لـه الأمـر بأنه سيكون مرافقاً لـه، ولكن في الأخير انتهى به المطاف إلى كونه حـــارس أمــن ومـتـدربـاً فـي محكمة المديرية في مديرية بيحان التابعة لمحافظة شـبـوة. خضع ناصر في صنعاء لــدورة لمـدة ١٥ يـومـاً، وتم تـدريـبـه عـلـى اســتــخــدام الأسـلـحـة الخفيفة والمتوسطة التي كان يحلم بها، ويريد أن يعود بها إلى قريته ليفاخر أقرانه، كثقافة مكتسبة في منطقتهم الريفية.
وفــــي مــغــرب أحــــد أيـــــام شـهـر رمــضــان المــاضــي، كـــان نــاصــر في مهمة جلب المـاء مـن إحـدى المحال المحاذية للمحكمة، فحدث انفجار جرى بعده مسرعاً، ليشاهد دماء وأشلاء متناثرة عند بوابة المحكمة نتيجة انفجار سيارة مفخخة، قتل فيها ٩ ممن يعرفهم، أحـدهـم كان يمنع ذهابه للجبهات مقاتلاً.
وتحت التهديد كانت انطلاقته الأولـــــــــــى إلـــــــى إحـــــــــدى الـــجـــبـــهـــات المستعرة، وفيها تعرض لكثير من الانتهاكات، وكان أكثر ما يخشاه الـضـرب المـبـرح والـتـهـديـد بالقتل. وقـــــال لــــ »الـــشـــرق الأوســــــــط«: »فــي إحــدى المــرات تـم إطــلاق الـنـار على قــدم زمـيـلـي، وبـقـي يـنـزف أمـامـي. ُكـنـت أبــكــي وأتــمــنــى أن أمــــوت أو أني قتلت مع أصحابي في حادثة التفجير«.
وفـــــي إحــــــدى الــلــيــالــي كــانــت مهمته تعبئة الذخيرة للمقاتلين، فــرفــض الــتــحــرك، لـيـتـلـقـى صفعة عــلــى وجــــهــــه، ونــتــيــجــة لــلــخــوف مــن الـعـقـاب والـسـجـن وجــد نفسه فـي المـعـركـة، ومـن شـدة خـوفـه كان يتأخر في ملء الذخيرة، ما سبب لـه مـزيـداً مـن الصفعات والـركـلات فــي ســائــر جــســده الـصـغـيـر، وفـي الـصـبـاح عـمـل أحـــد أقــربــائــه على إعـــادتـــه إلــــى مــوقــعــه الــســابــق في المـحـكـمـة. واسـتـمـر الـحـال بـه على ذلـك شـهـراً، حتى قـال الانقلابيون لــــه ولــــزمــــلائــــه إنـــهـــم ســيــذهــبــون بـهـم لـحـفـل تـخـرجـهـم مــن الــــدورة، وأعطوهم ذخيرة حية وقذائف »آر بي جي«، وطلبوا منهم التقدم إلى موقع معين، وقيل لهم إن ذلـك من أجـل التصوير، وبعد لحظات من الهجوم بدأ القتلى يتساقطون من حولهم، عـرف حينها نـاصـر بأنه فـــي مــعــركــة حـقـيـقـيـة، نــجــا مـنـهـا بأعجوبة بعد أن انسحب ليصل إلـى مبنى المحكمة. وعندما طلب منه مقاتل مـن محافظة أخــرى أن يرافق جثة قتيل إلى صنعاء، وجد نـاصـر فـرصـتـه لـلـهـرب مـن جحيم الحرب والمعاناة.
وصل إلى المستشفى العسكري في العاصمة، لتصل مجموعة من قريته عملت على نقل القتيل إلى مسقط رأسه، سافر معهم ناصر إلى قريته، قام والده بعد ذلك بتهريبه إلى مأرب للالتحاق بأخيه الأكبر. حين بلغ القرية كان معقداً من كل شـــيء، حـتـى المــدرســة الـتـي رفـض مـجـرد التفكير فـيـهـا، وكــان يقول إنه لا يريد الاستمرار في الحياة؛ لـكـن الـحـال تـبـدلـت الآن؛ إذ وصـل ناصر إلـى مركز التأهيل النفسي والاجتماعي، وفي »مؤسسة وثاق « شعر بأن نفسه عادت إليه، وأصبح يفكر في العودة للمدرسة على حد قوله.
تفجير مساجد ونهب ممتلكات
انــــــضــــــم صــــــــــــادق مـــــبـــــكـــــراً إلـــــى الـحـوثـيـين، وهــو فـي سـن الـعـاشـرة، نتيجة الإغراء بالمال، والتحق بدورات في مدينة صعدة، وفي أماكن نائية بعيدة عـن الـعـمـران، ومـا زال يحفظ كثيراً من تفاصيلها التي تحث على الكراهية والقتل، والإيمان بفكر الرأي الواحد. ترك صادق التعليم مبكراً (في الـصـف الـثـالـث الابــتــدائــي)، وأصـبـح مدمناً لنبتة القات، والتدخين، وأيضاً تعاطي الشمة، وهو نوع من التبغ.
بــدايــتــه المــبــكــرة مــع الـحـوثـيـين أثــــرت عـلـى حـيـاتـه وحــيــاة أســرتــه، تـم استخدامه مـع آخـريـن فـي تنفيذ مـهـام كـثـيـرة، منها تفجير جـوامـع، ونـــــهـــــب مـــمـــتـــلـــكـــات، وشــــــــــــارك فــي كـثـيـر مــن الـــحـــروب الــتــي خـاضـتـهـا جماعة الحوثيين، بــدءاً مـن عمران، والاســتــيــلاء عـلـيـهـا بـعـد أن تــم قتل القيادي في الجيش اليمني العميد حميد القشيبي. وأشـار صـادق إلى أنـه كـان ينتشي حـين يفعل ذلـك مع الــجــمــوع، ولا يـــدري هــل هــو إيـمـان بـأفـكـارهـم، أم كــان بـلا شـعـور؛ لأنـه يـتـم إعــطــاؤهــم أنــواعــاً مـخـتـلـفـة من الــحــبــوب والأدويــــــة الــتــي تـخـرجـهـم عــن شــعــورهــم، وتـجـعـلـهـم يـنـسـون كـل شــيء، لا يـفـكـرون إلا بالجبهات وخدمة قياداتهم.
كان يحفر الخنادق الطويلة مع مجموعة من الأطفال، خصوصاً في محافظة الجوف، التي جاء إليها مع الجماعة المسلحة، وبعد أن عاد إلى قريته لأيـام، لم يجد أبـاه في البيت، لأنه كان انتقل إلى مدينة مـأرب، في صـفـوف الحكومة الـشـرعـيـة. ويقول صــــادق لـــ »الــشــرق الأوســــــط«: »كـنـت متحمساً لأفـكـار الحوثيين، غضبت مــن ذهــــاب أبـــي الــــذي أطــلــقــوا عليه لــقــب (الــــداعــــشــــي)، وهــــو المـصـطـلـح الــذي يطلقه الحوثيون على كـل من يخالفهم أو يقاتلهم«.
وزادت حـــمـــاســـة الـــطـــفـــل مــع الـجـمـاعـة المـسـلـحـة، فـاتـصـل بـوالـده مكيلاً لـه السباب. يعترف الآن بأنه يخجل حين يتذكر ذلك؛ لكنه كان بغير وعـــي، ولا يـــدرك تـصـرفـاتـه، ويـــزداد خجله حينها لـــردود أبـيـه الحنونة وأنه خائف عليه، وعلى بقية إخوته، لذا لا بد أن يلتحقوا به. ومع الوقت تبين لصادق أن الحوثيين مجرمون، على حد قوله، فقرر الابتعاد عنهم، وحين سمع والده بمركز إعادة تأهيل الأطفال المجندين والمتأثرين بالحرب فـي اليمن، عمل جـاهـداً على إلحاقه به، وإخضاعه لدورة تأهيلية نفسية واجتماعية.