Asharq Al-Awsat Saudi Edition

ملابسات غامضة لـ »انتحار« صحافي روسي فجّر ملف قتلى »جيش فاغنر« في سوريا

- موسكو: رائد جبر

»مات في غيبوبته بعد محاولات طبية لإنقاذه استمرت لأيام«، بهذه

ُ الـعـبـارة خـتـم التقرير الطبي حول مـــوت الـصـحـافـ­ي الــروســي مكسيم بـــوروديـ­ــن، الــصــادر فــي مستشفى مدينة يكاتيرنبور­غ عاصمة الأورال الروسي.

وأفـــــاد الـتـقـريـ­ر بـــأن بــوروديــ­ن تـعـرض لـكـسـور عــدة بـعـد سقوطه من الطابق الخامس في البناية التي كــان يـسـكـنـهـ­ا، لـكـنـه لــم يتمكن من تحديد ما إذا كان الحادث انتحاراً أم نـاجـمـاً عـن اعــتــداء، إذ لـم تظهر عـلـى جـسـد بــوروديــ­ن عـلامـات تـدل عـلـى تـعـرضـه للعنف قـبـل سقوطه من شرفة منزله.

كــــــان يــمــكــن لـــلـــحـ­ــادث أن يـمـر سـريـعـاً ولا يلفت الأنــظــا­ر، لــولا أن اسم »المنتحر« برز بقوة في قضية أثارت جدالات لم تهدأ. فهو كان أول من كشف تفاصيل كاملة عن حادثة تعرض وحدات من المرتزقة الروس، الذين كانوا يقاتلون في سوريا في إطار ما عُرف باسم »جيش فاغنر« (نسبة إلى مؤسسه)، لقصف أميركي مركّز يوم السابع في فبراير (شباط) الماضي، على قافلة ضمن ٣ وحدات مـن هــذا الـجـيـش، كـانـت تـقـتـرب من موقع نفطي قرب دير الزور. وأسفر القصف عـن مقتل ٢١٧ منهم، وفقاً لتأكيدات صدرت لاحقاً.

ومـكـسـيـم بـــوروديـ­ــن الــــذي كـان يــعــمــل لـــصـــال­ـــح صــحــيــف­ــة »نـــوفـــي ديــن« )الــيــوم الـجـديـد)، الــذي عُـرف بـتـحـقـيـ­قـاتـه الاسـتـقـص­ـائـيـة، جمع تـفـاصـيـل وافــيــة بـيـنـهـا تسجيلات صوتية وصور، ما أثار عاصفة من الانتقادات ضده، وعرّضه لتهديدات كثيرة. ولم يقف بورودين عند نشر الـتـفـاصـ­يـل، بـل لاحــق القضية عبر اتصالات أجراها مع عائلات بعض الـقـتـلـى فــي الــحــادث، الـــذي رفضت موسكو فـي الـبـدايـة الاعـتـراف بأنه وقع أصلاً. ثم تحدثت في وقت لاحق عن سقوط »٥ قتلى فقط«، قبل أن تقر الخارجية بعدما نشرت الصحافة الروسية أسماء عشرات من القتلى وأجــرت مقابلات مـع عائلاتهم بأن الـــحـــا­دث »وقـــــع، وأســـفـــ­ر عـــن مقتل وجرح عشرات .«

وأثار الموت الغامض لبورودين شكوكاً كثيرة لدى الأوساط القريبة مـنـه، ولــدى منظمة »مـراسـلـون بلا حــدود« التي طالبت بتحقيق جاد وشفاف. بينما قالت رئيسة تحرير »نوفي دين«، بالينا رومانتسيفا، إن »مكسيم كان نشطاً ومحباً للحياة، ولا دوافع لديه كي ينتحر«، وأعربت عن شكوك بسير التحقيقات، ونبّهت إلى أن »موته ليس مجرد حادث، ثمة من ساعد في إظهاره كأنه انتحار.«

لكن لجنة التحقيقات الروسية الــتــي قــالــت إنــهــا تُـــجـــري »فـحـصـاً شاملاً للحادث« سارعت إلى تأكيد أنه »لا مؤشرات إلى شبهة جنائية،« ورأت أن الـفـرضـيـ­ة الأســاســ­يــة هي الانــتــح­ــار، مـسـتـبـعـ­دة أن يـتـم فتح تحقيق جنائي فـي القضية. وأثـار هذا الموقف استياء أوساط المعارضة الروسية التي فتحت الملفات القديمة، وذكّــــرت بــأن بــوروديــ­ن الـــذي تبنى مـوقـفـاً مـنـاهـضـاً لـلـتـدخـل الـروسـي فـــي ســـوريـــ­ا مــنــذ بـــدايـــ­تـــه، تـعـرض لــوابــل مــن الــتــهــ­ديــدات فــي الـسـابـق بسبب مواقفه، وأنـه نجا بأعجوبة من موت محقق في أكتوبر (تشرين الأول) المـــــاض­ـــــي، بـــعـــدم­ـــا اعـــتـــد­ى مجهولون عليه مستخدمين قضباناً حديدية، بعد مرور وقت قصير على إجرائه مقابلة تلفزيونية مع محطة »دوجـد« المعارضة تحدث فيها عن الوضع في سوريا.

اللافت أن مواقع روسية كانت قد أشــارت بعد حادثة »جيش فاغنر« إلـــى تــعــرض عـــدد مــن الـصـحـافـ­يـين الـذيـن تـابـعـوا المـوضـوع لمضايقات مــتــنــو­عــة. ووجــــــه بــعــض نـاشـطـي »الـجـيـش« تـهـديـدات مـبـاشـرة عبر مواقع إلكترونية إلى »من يحاولون الإساءة إلى المقاتلين الذين سقطوا في معركة«، في إشارة إلى ضحايا الهجوم الأميركي قرب دير الزور.

وأعـــــــ­ــاد »انــــتـــ­ـحــــار« بــــورودي­ــــن التذكير بسلسلة واسعة من حوادث مــــــوت صــحــافــ­يــين مـــعـــار­ضـــين فـي ملابسات غامضة.

وبـعـيـداً عــن عـمـلـيـات الاغـتـيـا­ل المباشر التي تعرض لها صحافيون مــعــارضـ­ـون، مــا أثـــار ضـجـة دولـيـة فـــي أكــثــر مـــن حـــادثـــ­ة مــثــل اغـتـيـال الصحافية الاستقصائي­ة في جريدة »نوفاي غازيتا« والناشطة في مجال حقوق الإنسان آنا بوليتكوفسك­ايا عام ٢٠٠٦، ثم مقتل عدد من زملائها الـذيـن كـانـوا يشاطرونها الآراء في معارضة الحرب في الشيشان، في ظــــــروف مـخـتـلـفـ­ة خـــــلال الــســنــ­وات الـلاحـقـة، فــإن الـتـركـيـ­ز انـصـبّ على مقتل عديدين لم ترتبط أسماؤهم بـمـلـفـات سـيـاسـيـة بـــل تـخـصـصـوا في فتح ملفات فساد أو دخلوا في ســجــالات »مــحــرّمــة« مــع الـسـلـطـا­ت المدنية في مناطق عملهم.

وفـي الـعـام المـاضـي وحــده، لقي ٣ صـحـافـيـي­ن روس مـصـرعـهـم في ظـــروف غـامـضـة ولـــم يـتـم الـتـوصـل إلـــــى الـــجـــن­ـــاة، إذ عُـــثـــر عـــلـــى جـثـة الــصــحــ­افــي فـــي مــجــلــة مـحـلـيـة فـي مقاطعة بيروبيجان (أقصى شرق) أنـدريـه روسـكـوف ملقاة قــرب نهر، في سبتمبر (أيلول) الماضي، وتبين أن موته حصل بسبب الـغـرق، رغم أن الطب الشرعي أظهر أنـه تعرض لـــضـــرب مـــبـــرح قــبــل إغـــــراق­ـــــه، لـكـن التحقيق لم يخرج بنتائج تذكر.

وفـي مايو (أيــار) المـاضـي، لقي رئيس تحرير مجلة »تـون إم« التي تصدر في محافظة كراسنويارس­ك (ســيــبــي­ــريــا) ديـــمـــت­ـــري بــوبــكــ­وف، مـصـرعـه بـعـدمـا أطــلــق مـجـهـولـو­ن النار عليه في منزله. وكان بوبكوف متخصصاً في إثارة ملفات الفساد وملاحقتها. ورأى رفاقه أن نشاطه المــهــنـ­ـي تــســبــب فـــي الانـــتــ­ـقـــام مـنـه، علماً بأن شعار مجلته الدورية كان »نكشف ما يخفيه الآخرون«.

وقبل تلك الحادثة بشهر واحد، لـقـي نـيـكـولاي أنـدروشـيـ­نـكـو الــذي عمل لصحيفة »نوفاي بطرسبورغ« (بــطــرســ­بــورغ الــجــديـ­ـدة)، مـصـرعـه بــعــد تــعــرضــ­ه لاعــــتــ­ــداء مـــن جـانـب مجهولين. وفشلت جهود الطواقم الـطـبـيـة فــي إنـــقـــا­ذه رغـــم إخـضـاعـه لعمليات جراحية عدة، مات بعدها، من دون أن يكشف التحقيق تفاصيل عن الحادث أو عن الجناة.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia