Asharq Al-Awsat Saudi Edition

الحرب الدعائية ضد »كيماوي« دوما... نموذج كلاسيكي للتضليل الروسي

- لندن: أمير طاهري

بــعــد الــضــربـ­ـات الأمـيـركـ­يـة - الـفـرنـسـ­يـة - الـبـريـطـ­انـيـة على أهـداف سورية محددة، يتحدث الــــبـــ­ـعــــض عـــــن اقــــــتـ­ـــــراب صـــــدام عـسـكـري مـبـاشـر بــين الــولايــ­ات المـتـحـدة وروســيــا، إلا أن هناك حقيقة واحــدة يجري تجاهلها وهي أن القوتين في حالة حرب فـعـلـيـة، لـكـن فــي مــيــدان المـعـركـة الـدعـائـي­ـة. واعـتـمـد الـخـصـمـا­ن، حـــتـــى الآن، فـــــي مـــــيـــ­ــدان هـــذه المعركة، أساليب مختلفة، سعياً وراء تحقيق أهدافهما المختلفة.

وتُـــــعــــ­ـتَـــــبَـــــر خــــطــــ­ة الــــحـــ­ـرب الـدعـائـي­ـة الـروسـيـة مــن الأمـثـلـة الــكــلاس­ــيــكــيـ­ـة عـــلـــى الــتــضــ­لــيــل الــــذي عـمـل خــبــراء الــدعــاي­ــة في الاستخبارا­ت الروسية القديمة على تطويره، إبان حقبة الحرب الـــبـــا­ردة. وتــهــدف خـطـة الـحـرب الــــروسـ­ـــيــــة هــــــذه إلــــــى تــقــويــ­ض مــصــداقـ­ـيــة الــخــطــ­اب الأمــيــر­كــي المتعلّق باستخدام الرئيس بشار الأسـد للأسلحة الكيماوية ضد أبناء شعبه.

وينطلق الـخـطـاب الـروسـي المــــنــ­ــاوئ عــبــر شــبــكــة إعــلامــي­ــة واسـعـة الـنـطـاق يسيطر عليها الــكــرمـ­ـلــين مـــع جـمـاهـيـر كـبـيـرة داخـــل الاتــحــا­د الــروســي وحــول العالم.

ويــجــري تـضـخـيـم الـرسـالـة الدعائية عن طريق ما يُقدَّر بنحو ٦٠ ألف جندي من جنود وسائل الإعــــلا­م الاجـتـمـا­عـيـة المـتـفـرغ­ـين تماماً، الذين يُعرفون في وسائل الإعـــــل­ام الــعــالم­ــيــة وفـــي الـفـضـاء الإلكتروني باسم »المتصيدون«، والذين يعملون باستخدام أكثر من ١٢ لغة أجنبية مختلفة.

ويـــــروج الــخــطــ­اب الــروســي المنطلق من موسكو إلى »تيمات« مختلفة:

الأولـــــ­ــــــى هـــــي أن الـــهـــج­ـــوم الكيماوي على دوما في الغوطة الـشـرقـيـ­ة، لـم يـحـدث بـالأسـاس، وأن الــصــور ومــقــاطـ­ـع الـفـيـديـ­و المنتشرة عبر الإنترنت من إنتاج قــــوات المــعــار­ضــة لــنــظــا­م الأســد باستخدام ممثلين على الأرض، مـــن بـيـنـهـم الأطــــفـ­ـــال الــصــغــ­ار، لمحاكاة هذه الكارثة المروِّعة.

ولأن هـــــذه المــــزاع­ــــم عـصـيـة على الترويج والتسويق انتقل الروس فوراً إلى التيمة الثانية: نحن لا نعلم على وجه اليقين إن كـان الهجوم قـد وقـع مـن عدمه، وإن كـان هناك هـجـوم، فمَن هو المسؤول المباشر عنه...؟!

ومـــع الـتـشـكـي­ـك الـكـبـيـر في هـذه المـزاعـم أيـضـاً، خـرج علينا الـروس بالتيمة الثالثة: لمـاذا لا يتم إجــراء تحقيق مستقل على الأرض في دومـا؟ ويجب تذكير الـــجـــا­نـــب الـــــروس­ـــــي بـــأنـــه­ـــم قـد استخدموا بالفعل حق النقض (فـــيـــتـ­ــو) ضـــد إجـــــــر­اء مــثــل هــذا التحقيق على الأرض، ومــن ثم تحولت خطة الكرملين الدعائية إلـى التيمة الـرابـعـة: أن الهجوم على قوات بشار الأسد قد يسفر عن اندلاع حرب واسعة النطاق، وربما تكون هي الحرب العالمية الــثــالـ­ـثــة. وبــعــبــ­ارة أخـــــرى، فـإن الـخـيـار الــذي نـحـن بـصـدده إمـا أن يكون عدم اتخاذ أي إجراءات عــــلــــ­ى الإطــــــ­ــــــلاق أو المــــخــ­ــاطــــرة بحريق عالمي هائل. وحقيقة أن كثيراً مـن الـخـيـارا­ت العسكرية، والـسـيـاس­ـيـة، والاقـتـصـ­اديـة لن تــتــجــا­وز إلا هـــذيـــن الــخــيــ­اريــن المتطرفين هـي حقيقة لا يلتفت إليها من أحد في واقع الأمر.

وهــنــاك الـتـيـمـة الـخـامـسـ­ة، الــتــي تـتـعـلـق بـالـتـيـم­ـة الـرابـعـة مـن حيث إن الـتـدخـل مـن جانب الديمقراطي­ات الغربية قد يؤدي إلـــى كــارثــة عـلـى نـحـو مــا حـدث من قبل في أفغانستان والعراق. ولقد تلاشت من الأجواء تماماً، حـقـيـقـة أن الـشـعـبـي­ن الأفــغــا­نــي والـعـراقـ­ي ســوف يـكـونـون أكثر أمـــانـــ­اً وســــعـــ­ـادة وتـــــفــ­ـــاؤلاً مـمـا كـانـوا عليه تـحـت حـكـم طالبان أو صدام حسين. كما توارت في طــي الـنـسـيـا­ن أيــضــاً حـقـيـقـة أن عـدم التدخل الغربي فـي الأزمـة السورية لم يمنع مقتل أكثر من نصف مليون مواطن، ُوهو أكثر من ضعف عـدد الذين قتِلوا في التدخلات الغربية المشار إليها في أفغانستان والعراق.

ومن ثم تحوَّلت خطة الدعاية الروسية إلـى مـحـاولات تجميل القبح الظاهر على نظام الأسد. قيل لنا إن الأسد حاكم علماني يـقـوم مـقـام الــجــدار الـصـلـب في وجـــه الـتـطـرف والإرهــــ­ــاب. ومـع ذلك، فإن الدستور السوري، الذي صـاغـه حـافـظ الـسـد والـــد بشار الأسد، يقر ويعترف بأن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، ولقد استخدم النظام السوري الحاكم، خـلال السنوات السبع العجاف الماضية، سلاح الطائفية القميء فــي وجـــه مـعـارضـيـ­ه المـسـلـحـ­ين وغير المسلحين.

وتأتينا التيمة الأخرى التي تدور حول أن الخيار القائم في سوريا هو القبول بين الأسد أو تنظيم »داعــش« الإرهـابـي، وأن الأسـد يستحق الـدعـم والتأييد بسبب أنــه كــان يـقـاتـل الخلافة المتطرفة المـوهـومـ­ة. ورغــم ذلـك، هـنـاك حـقـيـقـة واقــعــة تـفـيـد بـأن قـــــوات بــشــار الأســـــد لـــم تــواجــه قــوات »داعـــش« على الأرض إلا فـــي أربـــعـــ­ة اشـــتـــب­ـــاكـــات كـبـيـرة فـــقـــط، وكـــــــا­ن مــــن أبــــرزهـ­ـــا تـلـك المعركة التي دارت حـول مدينة تــدمــر الأثـــريـ­ــة الــقــديـ­ـمــة. وعـلـى مـــدار الـسـنـوات المـاضـيـة، عـاش الأســــــ­ـد و»داعـــــــ­ــــش« جــنــبــاً إلـــى جــنــب، وكــانــت تـتـركـز الـجـهـود عـلـى مــحــاربـ­ـة قــــوات المـعـارضـ­ة المـنـاهـض­ـين للحكم الـبـعـثـي من غــيــر المـــوالـ­ــين لــــــ »داعـــــش«. ولــم تـلـعـب روســـيـــ­ا وحــلــفــ­اؤهــا في طهران أي دور يُذكر في سحق عـنـاصـر »داعـــــش« هــنــاك، الـتـي تعرضت للهزائم والتدمير على أيدي القوات العراقية والكردية والــغــرب­ــيــة الـــذيـــ­ن قـــضـــوا عـلـى سـيـطـرة الـتـنـظـي­ـم عـلـى ٩٠ في المائة من الأراضي التي استولى عــلــيــه­ــا داخــــــل كــــل مــــن ســوريــا والعراق.

أمــا التيمة الـتـالـيـ­ة، فتقول إن الهجوم الغربي على الأهداف الموالية لنظام الأسد من شأنه أن يلحق الضرر بالقوات والأصول العسكرية الروسية في سوريا، الأمر الذي قد يدفع موسكو إلى الانتقام.

ومـع ذلـك أيـضـاً، هناك آلية لـدى الـولايـات المتحدة وروسيا تُــعــرف بــاســم »قــنــاة اتــصــالا­ت الــطــوار­ئ«، ومــن خـلالـهـا يمكن للدولتين تنسيق الإجراءات التي من المرجَّح لها التأثير على أي من قواتهما العاملة في سوريا. ولقد استخدمت هذه الآلية قبل مــا يـقـرب مــن عــام كـامـل عندما هاجمت الولايات المتحدة إحدى القواعد الجوية التابعة لجيش بشار الأسد بعدما أصدرت إنذاراً بهذا الشأن إلى الجانب الروسي لأجــل نقل الـقـوات الـروسـيـة من المـــوقــ­ـع المــســتـ­ـهــدف. وعـــلـــى أي حـال، لم تصدر عن موسكو أي استجابة تُذكر عندما أسقطت الــــدفــ­ــاعــــات الأرضــــي­ــــة الــتــركـ­ـيــة إحدى المقاتلات الروسية. كما لم تندفع موسكو إلى إعلان الحرب عندما أودى الهجوم الأميركي بحياة العشرات من العسكريين الموالين لروسيا، ومن المفترَض أنهم يعملون وفق تعاقد خاص مع روسيا داخل سوريا.

وعـــــلــ­ـــى الــــــرغ­ــــــم مــــــن ولـــعـــه الشديد بالاستعراض والمباهاة، فـإن الرئيس الروسي فلاديمير بــــوتـــ­ـين مــــن لاعــــبــ­ــي الــســيــ­اســة الــــكـــ­ـارهــــين لــــخــــ­وض المـــخـــ­اطـــر الكبيرة، وهو يتوقف على الفور، إن كان في مواجهة خضم عسير وصعب.

وننتقل إلى التيمة الأخرى، مـــن تــيــمــا­ت الــدعــاي­ــة الــروســي­ــة المــــــض­ــــــادة وهـــــــي تــنــبــن­ــي عـلـى الادعـــــ­ـاء بـــأن الــخــطــ­ة الــروســي­ــة الــتــي وضــعــهــ­ا بــوتــين لإرســــاء الأمن والاستقرار في سوريا قد

ُ بدأت تؤتي أكُلها. وأن موسكو - وبـمـرور الـوقـت - سـوف تدفع بشار الأسـد، وبكل هـدوء، نحو مــــغــــ­ادرة مـــســـرح الأحــــــ­ـــداث فـي نهاية المـطـاف. ولــذا، ما الداعي إلى التصعيد الكبير عن طريق مـــهـــاج­ـــمـــة مــخــتــل­ــف الأهــــــ­ـــداف الحكومية السورية الآن؟ إن هذا الطرح يعني ببساطة خلع عباءة الـــســـل­ام الــبــاهـ­ـتــة عــلــى ســنــوات الـــفـــظ­ـــاعـــة والــــتــ­ــوحــــش الــســبــ­ع المـنـقـضـ­يـة الــتــي اشـتـمـلـت على ١٤ محاولة للهجوم بالأسلحة الكيماوية المهلكة من قبل قوات بشار الأسد على المدنيين العزل.

أمـــا الـتـيـمـة الأخـــيــ­ـرة، فهي تـتـعـلـق بـزمـيـلـت­ـهـا الـسـابـقـ­ة في أن روســيــا ســوف تـكـبـح جـمـاح بشار الأسـد وتمنعه تماماً من مــواصــلـ­ـة اســـتـــخ­ـــدام الأســلــح­ــة الكيميائية في المستقبل. بيد أن هـذا بالضبط كـان التعهد الذي قطعته موسكو فـي عـام ٢٠١٣، مـع التأكيد وقتها على تدمير جـــمـــيـ­ــع مــــخــــ­زونــــات الأســـلــ­ـحـــة الكيماوية ومرافق الإنتاج ذات الصلة في سوريا.

وفي الوقت الـذي ابتلع فيه الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوبـامـا هــذه المــزاعــ­م، أو تظاهر بـــأنـــه كــــذلـــ­ـك، كـــانـــت الــنــتــ­يــجــة تشجيع بشار الأسـد على كسر »الــخــط الأحـــمــ­ـر« المــعــلَــن آنـــذاك وشنّ الهجمات الكيميائية مراراً وتكراراً.

اعـــتـــق­ـــد جـــــوزيـ­ــــف غــوبــلــ­ز، المــســتـ­ـشــار الإعــــلا­مــــي لأدولـــــ­ف هتلر، أن استراتيجية التضليل الــجــيــ­دة تــهــدف بـــالأســ­ـاس إلـى تـدمـيـر الـحـقـائـ­ق الـواقـعـي­ـة عن طريق طرح النسخ المتكررة من أية حادثة كانت. ومن شأن ذلك، كـمـا قــال غـوبـلـز، أن يـحـول أيـة حقيقة إلــى »قــرص فـــوار«، ذلـك الــــذي بـمـجـرد وضــعــه فــي المــاء يـتـحـول إلـــى فــقــاعــ­ات كـثـيـرة لا حـصـر لـهـا تـتـلاشـى إلــى الـعـدم بعد وقـت وجـيـز. وتـهـدف خطة التضليل الحالية التي وضعها الكرملين إلـى تحويل أيـة روايـة بشأن الهجوم الكيماوي الأخير فـــي دومـــــا إلــــى »قـــــرص فـــــوار«. ولــقــد حـقـقـت تـلـك الـخـطـة قــدراً من النجاح على النحو الواضح من معارضة جيريمي كوربين، زعـيـم حــزب الـعـمـال البريطاني المعارض، من اتخاذ أية إجراءات تُذكر ضد الأسد، وهو يدعو إلى إجراء تحقيق مستقل، وقرار من مجلس الأمن الدولي قبل المضي قدماً نحو أي إجراء على الأرض. ويـــحـــذ­ر نــظــيــر كــــوربــ­ــين، وهــو الـسـيـاسـ­ي الـفـرنـسـ­ي جــان لـوك ميلونشون، من مخاطر انـدلاع حـرب كبيرة في سـوريـا، وربما تكون الحرب العالمية الثالثة.

وكــــلاهـ­ـــمــــا يــــقــــ­ول إنـــــــه مــن الأفـضـل عــدم الـقـيـام بــأي شـيء عـلـى الإطـــــل­اق. وتـكـمـن المشكلة في أن هذا الموقف ذاته قد اعتبره الأســد بمثابة الـضـوء الأخضر لمـــواصــ­ـلـــة الــفــظــ­ائــع الـــتـــي كــان يفعلها فـي بــلاده وشـعـبـه منذ سبع سنوات كاملة.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia