هل تغير النهاية المصير الأدبي للرواية؟
مثل جملة البداية تشغل حيزاً كبيراً من تفكير الروائيين
في فيلم »أغرب من الخيال« stranger than fiction) ( يعيش مأمور الضرائب هارولد كريك فـــي وحـــــدة ورتــــابــــة لا يـهـزهـا سـوى صـوت شبح يصدر إليه الأوامــــــر. ويـكـتـشـف أن حـيـاتـه عالقة فـي أصـابـع الـروائـيـة آنا باسكال، وأن ما تكتبه الروائية مـن أحــداث متخيلة يقع لـه في الـحـقـيـقـة، ثــم يكتشف أن هـذه الروائية معروفة بقتل أبطالها في نهايات رواياتها؛ فيصيبه الــــــرعــــــب، ويــــــحــــــاول إقــنــاعــهــا بـالـعـدول عـن قتله، وتتعاطف مـعـه الـكـاتـبـة، وتـعـدل مصيره فـي الـنـهـايـة، فتجعله يتعافى بــــــــدلاً مــــن أن يــــمــــوت بـــعـــد أن صـدمـه أتـوبـيـس. رقـت الكاتبة لــبــطــلــهــا لـــكـــن الـــنـــاقـــد جــولــز هــيــلــبــرت (داســـتـــين هــوفــمــان) الــذي وضـعـت مـسـودة الـروايـة في يـده لم يـرق، وظـل متمسكاً بضرورة قتل البطل، لأنه يرى أن تلك هذه النهاية ستجعل من الرواية قطعة فريدة في تاريخ الأدب، بـيـنـمـا سـتـجـعـلـهـا أي نـهـايـة أخــري مـجـرد روايـــة من آلاف الروايات العادية.
يختلط الخيال بالكوميديا بــالــدرامــا فــي الـفـيـلـم، لكننا لا يمكن أن نحمله بسهولة على الخفة، ونتجاهل فرضية الناقد المتحجر القلب. يبقى الـسـؤال مـشـروعـاً: هـل يمكن لنهاية أن تــرفــع روايـــــة إلـــى ذرى الأدب، بينما تحطها نهاية أخرى إلى مصاف العادي؟
ربما يمكننا طـرح السؤال بـصـيـغـة أخــــرى: هــل تستطيع لحظة فراق الكاتب والقارئ أن تغير من مستوى جمال الرحلة الــتــي تــرافــقــا فـيـهـا عــلــى مــدى صفحات الكتاب؟
ســـــــــــــؤال إن لــــــــم يـــطـــرحـــه الـقـراء؛ فلا بد أن كل الروائيين يطرحونه على أنفسهم، ولا بد أن جـمـلـة الـنـهـايـة، مـثـل جملة الـبـدايـة تشغل حـيـزاً كبيراً من تــفــكــيــر الـــــروائـــــيـــــين، وعــنــدمــا يــســتــقــر الـــكـــاتـــب عــلــى نـهـايـة لا يـــكـــون مــطــمــئــنــاً لــهــا تــمــام الاطمئنان، لكنها تصبح بعد ذلك واقعاً يتعايش معه القراء.
ربـــــــمـــــــا تــــــشــــــابــــــه مــــنــــزلــــة الـنـهـايـات مـن الــروايــات منزلة عناوينها الـتـي ربـمـا لا تعني شيئاً بحد ذاتها، وربما تعني أكـثـر مـن شــيء ويـذهـب فـي كل الاتجاهات، لكنها في الحالتين لا تـبـدأ فـي كـسـب معانيها إلا بعد القراءة.
»الحرافيش« أو »السكرية« مــثــل عــــدد كــبــيــر مـــن عــنــاويــن نـــجـــيـــب مــــحــــفــــوظ كــــلــــمــــات لا تــعــنــي شــيــئــاً بـــذاتـــهـــا، لـكـنـهـا تـكـتـسـب دلالاتــهــا مــن الــروايــة الــتــي تـعــكــس إشــعــاعــهــا عـلـى العنوان فلا يعود محايداً. في المقابل يذهب عنوان مثل »قصر الأحلام« لإسماعيل كاداريه في كـــل اتــــجــــاه، يــأخــذنــا المــضــاف والمـــــضـــــاف إلــــيــــه إلــــــى أقــالــيــم البهجة أكثر من أي مكان آخر، قبل أن نصاحب بطل الـروايـة »مـارك عليم« في رحلة تدرجه الوظيفي في المؤسسة الرهيبة الــتــي تـتـولـى جـمـع وتـصـنـيـف الأحــــــــــلام فـــــي الإمــــبــــراطــــوريــــة العثمانية المـتـرامـيـة الأطــراف، وتحاسب الناس على ما يرونه فـي مناماتهم حساباً عسيراً، لأن حلماً لفلاح في قرية ألبانية نـائـيـة يـمـكـن أن يــهــدد مصير الإمبراطورية!
بعد قفزات وظيفية سريعة في قصر الرعب بفضل أخواله المتنفذين ينهار مارك عليم مع عــائــلــتــه، إذ أنــهــى حــلــم واحــد لـــخـــالـــه الــعــظــيــم تـــاريـــخـــاً مـن التفاني في خدمة الإمبراطورية والقرب من سلاطينها.
ربـمـا يـصـعـب الـتـفـكـيـر في نهاية مختلفة لـ »قصر الأحلام « طالما أراد كاتبها التركيز على أمـثـولـة الـقـهـر، بينما يمكننا أن نتخيل العديد من الروايات العظيمة بنهايات مختلفة دون أن تتغير حكمة الرواية.
هـــل كـــــان مـــن الـــــضـــــروري ـ مـثـلاً ـ أن يقتل تولستوي هذا الـقـدر مـن الـجـمـال والــرقــة؟ هل كــانــت »آنـــا كـارنـيـنـا« لتصبح غـيـر مــا هــي عـلـيـه لــو لــم يدفع الــروائــي البطلة إلــى الانـتـحـار تحت عجلات القطار؟
كــان بـوسـعـه أن يـكـون أقـل قـسـوة، وينصرف تـاركـاً القراء مع العاشقة الأم في لحظة من لـحـظـات حـسـرتـهـا عـلـى ابــن لا تستطيع أن تكون معه وحبيب لا يحتمل أن يكون معها، وما كانت الرواية لتخسر شيئاً من عذوبتها، بل ربما كانت تكسب.
مـاذا لـو اكتفى ياسوناري كــــــــاوابــــــــاتــــــــا بــــــــالأســــــــى الــــــــذي ينطوي عليه بيت »الجميلات الــنــائــمــات،« ولــــم يـقـحـم عليه المــوت الغامض لإحــدى فتيات الحب المختفيات قسراً في النوم بفعل العقاقير المنومة؟ هل كان ليصبح أقل فتنة؟ وهل أضافت جـريـمـة الـقـتـل شـيـئـاً إلــى أسـى إيغوشي العجوز الخائف من موته الخاص؟!
أظن أن شيئاً لم يكن ليتغير لــو تـغـيـرت نــهــايــات مـثـل هـذه الـروايـات العظيمة؛ فالروايات الـــتـــي تــنــطــوي عــلــى أمـــثـــولات وهـــــمـــــوم وجـــــــوديـــــــة، تــنــتــشــر عبرتها كالنسيم بين تفاصيل الرحلة.
بــعــض الـــــروايـــــات تـنـتـهـي عــنــد هـــــذا الـــحـــد أو ذاك رغــم إمكانية تواصلها، إما لأن عدد الحكايات الذي تضمنته يكفي للعبرة، وإمــا احـتـرامـاً لحدود الــقــدرة لــدى الـكـاتـب والــقــارئ. كـان بـوسـع نجيب محفوظ أن يتابع أســرة السيد أحمد عبد الجواد جيلاً بعد جيل إلـى ما لا نهاية، وكان بوسعه أن يتابع تخبط سـلالـة عـاشـور الناجي فـي أوهـــام الـقـوة والـنـصـر إلـى الأبد؛ حيث تتفشى آفة النسيان التي تحرم كل فتوة جديد من الاتعاظ بمصائر أسلافه.
الغالبية العظمى من القراء المـفـتـونـين بــــ »ألـــف لـيـلـة لـيـلـة« لــم يـصـلـوا إلــى نـهـايـتـهـا أبــداً، بعضهم لنفاد الطاقة وبعضهم خوفاً من الأسطورة التي تقول بأن من يكملها يعاقب بالموت. بـعـض الــقــراء لا يهتم بمعرفة مــا انـتـهـت إلـيـه الـقـصـة الإطــار (مــصــيــر شــــهــــرزاد) وبـعـضـهـم يعرفون ذلك من الدراسات حول هــذا الــنــص، الـــذي ربـمـا يـكـون أجمل ما فيه أنه يبدو لا نهائياً، عـلـى الــرغــم مــن أن مـحـدوديـة الزمن معلنة في العنوان »ألف ليلة وليلة !«
بــعــض الــنــهــايــات يمليها الــضــجــر. وهــــذا مــا رأيـــنـــاه في واحدة من أغرب نهايات روايات غــابــريــيــل غـــارســـيـــا مــاركــيــز؛ نهاية »ليس لدى الكولونيل من يكاتبه «. كانت زوجة الكولونيل تلح في السؤال »ماذا سنأكل؟« ولم يجد الكولونيل سوى كلمة واحــــدة نـابـيـة يـــرد بــهــا! كـانـت تـعـبـيـراً عــن ضـيـق الـكـولـونـيـل الذي لم يفعل شيئاً طوال ستة وخمسين عاماً، يوماً بعد يوم، سوى انتظار راتبه التقاعدي. ربما كان الرد تعبيراً عن غضب ماركيز ذاتـه وألمـه من معايشة حـالـة هــدر كـهـذه؛ فـأنـهـى على هــذا الـنـحـو المـفـاجـئ الـنـوفـيـلا الفاتنة.
الـــــــروائـــــــيـــــــون مــــــن ســـلالـــة شـكـسـبـيـر، لا يـكـتـفـون بكلمة نــابــيــة، بـــل يــتــدبــرون مـصـائـر فاجعة لأبطالهم، بينما يتدبر بـعـض الــروائــيــين مـصـائـر أقـل قــســوة لأبـطـالـهـم ويـحـتـفـظـون بالمصير المفجع لأنفسهم.
هــمــنــجــواي الـــــــذي اخــتــار لــنــفــســه المـــــــوت انــــتــــحــــاراً كـــان بـــوســـعـــه أن يــجــعــل الــســمــكــة تـقـضـي عـلـى الـصـيـاد الـعـجـوز سانتياغو، أو يغرقه بضربة من سمكة قرش، لكنه جعله يصمد للنهاية، ويـصـل إلــى الشاطئ منهكاً بالهيكل العظمي الهائل لسمكة أكلتها القروش.
لـــــــــو مــــــــــــات ســــانــــتــــيــــاغــــو (ســـيـــمـــوت عــلــى أي حـــــال فـي لحظة ما خارج الرواية) لجعل مــن الـــروايـــة أمـثـولـة لـلـبـسـالـة، وهـذا ليس قليلاً، لكن وصوله حياً بنصر رمزي عديم الفائدة، وضع الرواية ضمن سلالة من الــســرد تـمـتـد مــن »جـلـجـامـش« إلـــــــى »الإلــــــــيــــــــاذة« إلـــــــى »دون كـيـخـوتـه« إلـــى »مــوبــي ديـــك.« خط يجسد هوان رحلة الإنسان عــــلــــى الأرض فــــــي مـــواجـــهـــة الـفـنـاء، وانــعــدام نـفـع البسالة في مواجهة ديكتاتورية الزمن الوحشية.
بالعودة إلى stranger than» fiction« أظــن أن الـقـصـة كانت تحتمل نهايات مختلفة؛ كأن تركن الروائية إلى نزوع الكمال فتقتل مأمور الضرائب، وكان بـوسـعـه أن يستسلم لمصيره، أو يـــقـــدم رشـــــــوة إلــــــى الــنــاقــد فيخفف حكمه، وكــان بوسعه أن يتسلل إلى معتزل الروائية، ويجبرها على تحقيق أحلام لم تــراوده من قبل، وكـان بوسعه أن يقتلها؛ فينتصر لعشرات المــهــزومــين أمــــام ديـكـتـاتـوريـة الـــقـــدر مـــن أوديـــســـيـــوس حـتـى عاشور الناجي!
* روائي مصري