ﻣﻦ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺠﻤﻌﻲ إﻟﻰ اﻟﺠﻬﻞ اﻟﺠﻤﻌﻲ
إﺑﺮاﻫﻴﻢ اﻟﺒﻠﻴﻬﻲ ﻣﻔﻜﺮ ﺳﻌﻮدي ﻣــﺜــﻴــﺮ ﻟـــﻠـــﺠـــﺪل، ﺑـــﻘـــﺪر ﻣــــﺎ ﻫــــﻮ ﻋـﻤـﻴـﻖ اﻟﻐﻮر ﺷﺪﻳﺪ اﻹﺻـــﺮار. رﺳﺎﻟﺔ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻫﻲ ﺗﺄﺳﻴﺲ ﺛﻘﺎﻓﺔ ﺟﺪﻳﺪة »ﺗﻘﻮم ﻋﻠﻰ اﻹﻗﻨﺎع ﺑـﺪل اﻹﺧـﻀـﺎع«. اﻹﻗﻨﺎع ﻓﻌﻞ اﳌﺆﻣﻨﲔ ﺑﻘﺪرة آراﺋﻬﻢ ﻋﻠﻰ اﻟﺼﻤﻮد ﻓـــﻲ اﺧــﺘــﺒــﺎر اﻟـــﺤـــﻴـــﺎة. أﻣــــﺎ اﻹﺧــﻀــﺎع ﻓــﻬــﻮ ﻓــﻌــﻞ اﻷﻗــــﻮﻳــــﺎء اﻟـــﺬﻳـــﻦ ﻳــﻌــﺮﻓــﻮن ﻓـــﻜـــﺮة واﺣـــــــﺪة ﻓــﺤــﺴــﺐ، ﻫـــﻲ ﻋــﻨــﺪﻫــﻢ ﻋـﲔ اﻟـﺤـﻖ. ﻛـﻞ اﳌﺠﺘﻤﻌﺎت - ﻓـﻲ رأي اﻟـﺒـﻠـﻴـﻬـﻲ - ﻣـﺜـﻘـﻔـﺔ ﺑـﻤـﻌـﻨـﻰ ﻣــــﺎ. ﻓﻬﻲ ﺗﻤﻠﻚ ﻣﻨﻈﻮﻣﺎت ﻗﻴﻢ وأﻋﺮاﻓﴼ وﻣﻌﺎﻳﻴﺮ ﻟﻠﺘﺼﺤﻴﺢ واﻟﺘﺨﻄﺌﺔ، ﺗﺘﻮارﺛﻬﺎ ﻋﺒﺮ اﻟــﺰﻣــﻦ. ﺗﺘﻤﻴﺰ اﳌﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺤﻴﺔ ﻋﻦ ﻧﻈﻴﺮﺗﻬﺎ اﻟﺨﺎﻣﻠﺔ، ﺑﺄن اﻷوﻟﻰ ﺗﺮاﺟﻊ ﻣﻮروﺛﺎﺗﻬﺎ ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار. ﺗﺼﺤﺢ ﺷﻴﺌﴼ وﺗــﻠــﻐــﻲ ﺷــﻴــﺌــﴼ، وﺗــﺴــﺘــﺤــﺪث أﻋـــﺮاﻓـــﴼ ﺟﺪﻳﺪة.
أﻣــﺎ اﳌﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺨﺎﻣﻠﺔ ﻓﺘﻨﻈﺮ ﻟﻠﻤﻮروث ﻛﻤﻘﺪس، ﺗﺨﺸﻰ اﳌﺴﺎس ﺑﻪ أو ﻓﺘﺢ أﻗﻔﺎﻟﻪ. ﺗﻨﺘﻘﻞ ﻫﺬه اﳌﻮروﺛﺎت ﺑــــــﲔ اﻷﺟــــــﻴــــــﺎل ﻣــــــﻦ ﺧـــــــﻼل اﻟــﺘــﻠــﻘــﲔ اﳌــﺘــﻮاﺻــﻞ ﻟــﻸﺑــﻨــﺎء، ﺣــﺘــﻰ ﻳـﺘـﺤـﻮﻟـﻮا إﻟـﻰ ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﻛﺎﺋﻨﺎت آﻟﻴﺔ، ﺗﻌﻤﻞ أو ﺗﺘﻮﻗﻒ ﺑﺤﺴﺐ ﻣﻌﻄﻴﺎت اﻟﺒﺮﻧﺎﻣﺞ اﳌﺜﺒﺖ ﻓﻴﻬﺎ.
ﻗﺪ ﺗﻜﻮن آراء اﻟﺒﻠﻴﻬﻲ رادﻳﻜﺎﻟﻴﺔ أو ﻣﻔﺮﻃﺔ ﻓﻲ اﻟﺘﺸﺎؤم. ﻟﻜﻨﻪ ﻳﺒﻨﻴﻬﺎ ﻋﻠﻰ أرﺿﻴﺔ ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ ﻣﺘﻴﻨﺔ، وﻳﻤﻜﻦ رؤﻳــــــــﺔ ﺗـــﺠـــﺴـــﻴـــﺪاﺗـــﻬـــﺎ ﺑـــــﻮﺿـــــﻮح ﻓــﻲ ﺣــﻴــﺎﺗــﻨــﺎ اﻟــﻴــﻮﻣــﻴــﺔ، ﻓـــﻲ ﻛــــﻼم اﻟــﻨــﺎس وﻣــﻮاﻗــﻔــﻬــﻢ، وﻓـــﻲ وﺻــﻔــﻬــﻢ ﻟـﺬواﺗــﻬــﻢ وﻣﻦ ﻳﺨﺎﻟﻔﻬﻢ أو ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻋﻨﻬﻢ. وﻫﻲ ﺗﻈﻬﺮ ﺑﻮﺿﻮح أﻛﺒﺮ ﻓﻲ اﻟﻔﺘﺮات اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺼﺎﻋﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﺻﺮاع اﻷﻓﻜﺎر.
اﻟـــﺜـــﻘـــﺎﻓـــﺔ - ﺑـــﺤـــﺴـــﺐ اﻟـــﺒـــﻠـــﻴـــﻬـــﻲ - ﻣﺠﻤﻮع اﳌﻌﻄﻴﺎت اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺸﻜﻞ ذﻫﻨﻴﺔ ﺷﺨﺺ ﻣﺎ. وﺣﲔ ﺗﻜﻮن ﻣﺤﻞ اﺗـــﻔـــﺎق ﻓـــﻲ ﺟــﻤــﺎﻋــﺔ ﻣـــﺎ، ﻓــﺈﻧــﻬــﺎ ﺗﺸﻜﻞ ﻣـﺎ ﻧﺴﻤﻴﻪ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺠﻤﻌﻲ أو اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ. ﻧﻌﻠﻢ ﻃﺒﻌﴼ أن اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ، أي ﻣﻜﻮﻧﺎت اﻟﺬﻫﻦ وﻣﺎ ﻳﻨﺒﻌﺚ ﻋﻨﻪ ﻣﻦ ﺳﻠﻮﻛﻴﺎت وﻣـﻮاﻗـﻒ ﻳﻮﻣﻴﺔ، ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻴﺰ ﻣﺠﺘﻤﻌﴼ ﻋﻦ اﻵﺧــﺮ. ﺣﲔ ﻧﺼﻒ ﻣﺠﺘﻤﻌﴼ ﺑﺄﻧﻪ ﻣﺘﻘﺪم أو ﻣﺘﺨﻠﻒ، ﻓﺈن اﻟــﺬي ﻳﻠﻔﺖ اﻧﺘﺒﺎﻫﻨﺎ ﻓـﻲ اﻟــﻌــﺎدة، ﻫﻮ اﳌﺘﻮﺳﻂ اﻟﻌﺎم ﻷﻓﻌﺎل اﻟﻨﺎس ﻓﻲ ﻫﺬا اﳌﺠﺘﻤﻊ. ﻧﺤﻦ ﻣﺜﻼ ﻧﻨﻈﺮ ﺑﺘﻘﺪﻳﺮ أﻛﺒﺮ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻌﺎﻣﻞ أﻓﺮادﻫﺎ ﺑﻠﲔ وﺗﻬﺬﻳﺐ، أو ﻳﺤﺘﺮﻣﻮن أﻧﻈﻤﺔ اﳌﺮور، أو ﻳﺤﺎﻓﻈﻮن ﻋﻠﻰ ﻧﻈﺎﻓﺔ اﻟﻄﺮﻳﻖ أو ﻳﻬﺘﻤﻮن ﺑﺎﻟﻘﺮاء ة واﳌﻌﺮﻓﺔ.. اﻟﺦ. ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻧﺼﻒ ﺑﺎﻟﺘﺨﻠﻒ ﻛﻞ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻳﻔﺘﻘﺮ إﻟﻰ أﻣﺜﺎل ﺗﻠﻚ اﻟﺼﻔﺎت.
ﺳﻠﻮﻛﻨﺎ اﻟﻴﻮﻣﻲ ﻋﻔﻮي ﻓﻲ اﻷﻋﻢ اﻷﻏﻠﺐ. ﻧﺤﻦ ﻻ ﻧﻔﻜﺮ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻓﻌﻞ ﻗﺒﻞ اﻟﻘﻴﺎم ﺑﻪ، وﻻ ﻧﻔﻜﺮ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻗﻮل ﻗﺒﻞ أن ﻧﻨﻄﻘﻪ. ﻣﻌﻈﻢ أﻓﻌﺎﻟﻨﺎ ﻋﻘﻼﻧﻴﺔ ﺑﻤﻌﻨﻰ ﻣﺎ، أي إﻧﻬﺎ ﺛﻤﺮة ﻟﻨﺸﺎط ذﻫﻨﻲ، ﻣﺒﻨﻲ ﻋﻠﻰ ﺑﺮﻣﺠﺔ ﻣﺴﺒﻘﺔ. ﻓﻲ ﻫـﺬه اﻟﻨﻘﻄﺔ ﺑــﺎﻟــﺘــﺤــﺪﻳــﺪ ﺗــﻜــﻤــﻦ اﻟـــﺤـــﺎﺟـــﺔ ﳌــﺮاﺟــﻌــﺔ ﻣــﺤــﺘــﻮى اﻟــﺬﻫــﻦ وﻣــﺴــﺎءﻟــﺘــﻪ. ذﻟـــﻚ أن ﻣﺤﺘﻮى اﻟﺬﻫﻦ ﻳﺘﺸﻜﻞ - ﻋﺎدة – ﺑﺸﻜﻞ ﺗﻠﻘﺎﺋﻲ. اﳌﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﺸﻴﻊ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻘﺴﺮ، ﺗﺤﻮل ﻗﻨﺎﻋﺎﺗﻬﺎ إﻟﻰ ﻣﺴﻠﻤﺎت أو ﺣـــﻘـــﺎﺋـــﻖ ﻣــﻄــﻠــﻘــﺔ، ﺗــﺸــﻜــﻞ أﺳـــﺎﺳـــﴼ ﻟــﻜــﻞ اﻷﻓـــــﻌـــــﺎل، وﺗــــﻘــــﺎوم ﻛــــﻞ ﻣــﺤــﺎوﻟــﺔ ﳌﺴﺎء ﻟﺘﻬﺎ أو اﻟﺘﺸﻜﻴﻚ ﻓﻲ ﺻﻼﺣﻴﺘﻬﺎ أو ﻋﻤﻮﻣﻴﺘﻬﺎ. ﻫــﺬا ﻳـــﺆدي ﻓــﻲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﳌﻄﺎف إﻟﻰ ﻣﺎ ﻳﺼﻔﻪ اﻟﺒﻠﻴﻬﻲ ﺑﺘﻌﻤﻴﻢ اﻟﺠﻬﻞ، وﺗﺤﻮﻳﻞ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺠﻤﻌﻲ إﻟﻰ ﻣﻮﻟﺪ ﻟﻠﺠﻬﻞ اﻟﺠﻤﻌﻲ، اﻟــﺬي ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﳌــﻌــﻈــﻢ اﻟـــﻨـــﺎس اﻟــﺘــﺤــﺮر ﻣــﻨــﻪ أو ﺣﺘﻰ ﻛﺸﻒ آﺛﺎره اﻟﻀﺎرة.
ﻧﺤﻦ ﺑﺤﺎﺟﺔ إﻟﻰ ﺗﻔﻜﻴﻚ اﳌﺴﻠﻤﺎت اﻟﻘﺒﻠﻴﺔ اﻟـﺘـﻲ ﺗﻬﻴﻤﻦ ﻋـﻠـﻰ أذﻫـﺎﻧـﻨـﺎ. ﻟﻴﺲ ﺑﺎﻟﻀﺮورة إﻟﻐﺎؤﻫﺎ أو اﻟﺘﺨﻠﺺ ﻣﻨﻬﺎ. رﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮن ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺟﻴﺪﴽ. ﻟﻜﻦ ﻋـﻠـﻴـﻨـﺎ أن ﻧــﻤــﻴــﺰ ﺑــﺪﻗــﺔ ﺑـــﲔ ﺣﺴﻨﻬﺎ وﻗﺒﻴﺤﻬﺎ. ﻗﺪ ﻧﻜﺘﺸﻒ أن ﻋﻘﻠﻨﺎ اﻟﺬي ﻧـﻌـﻮل ﻋﻠﻴﻪ ﻓــﻲ اﻻﻫــﺘــﺪاء إﻟــﻰ ﻃﺮﻳﻖ اﳌﺴﺘﻘﺒﻞ، ﻳـﺄﺧـﺬﻧـﺎ ﻓــﻲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣــﺮ إﻟﻰ ﺟﺴﺮ ﻧﻬﺎﻳﺘﻪ ﻣﻐﻠﻘﺔ.
ﻫﻞ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ - ﻛﺄﻓﺮاد – ﻣﺒﺮﻣﺠﲔ ﺑﺸﻜﻞ ﻣـﺎ، أن ﻧﺨﺘﺮق ﻫـﺬه اﻟﺒﺮﻣﺠﺔ، وﻧـﺴـﺘـﻌـﻴـﺪ اﻟـﺴـﻴـﻄـﺮة ﻋـﻠـﻰ ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ؟ أﻋﺘﻘﺪ أن ﻫﺬا ﻣﻤﻜﻦ، ﻷن اﻹﻧﺴﺎن – ﻓﻲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﳌﻄﺎف – ﻛﺎﺋﻦ ﻋﺎﻗﻞ ﻗﺎدر ﻋﻠﻰ اﻻﺧﺘﻴﺎر وﻟﻴﺲ ﺟﻬﺎز ﻛﻮﻣﺒﻴﻮﺗﺮ.