ﻛﻤﺎ ﻳﺆﻛﺪ اﳌﻜﺎن ﻛﺮوﻳﺔ اﻷرض ﻳﺆﻛﺪ اﻟﺰﻣﺎن ﻣﻦ ﺟﻬﺘﻪ ﻛﺮوﻳﺔ اﻟﻌﻴﺶ ﻓﻮﻗﻬﺎ
ﻻ ﻳــﺤــﺘــﺎج اﻟــﺒــﺸــﺮ إﻟـــﻰ اﻟﻌﻠﻢ وﺣــــﺪه ﻟــﻜــﻲ ﻳــﺘــﺄﻛــﺪوا ﻣـــﻦ ﻛــﺮوﻳــﺔ اﻷرض أو ﻣﻦ ﻋﻮدﺗﻬﻢ داﺋﻤﴼ إﻟﻰ اﻟــﻨــﻘــﻄــﺔ اﻟـــﺘـــﻲ ﻳــﻨــﻄــﻠــﻘــﻮن ﻣــﻨــﻬــﺎ، ﺑـــﻞ ﻫـــﻢ ﻳـﻜـﺘـﺸـﻔـﻮن ﺗــﻠــﻚ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺑـﺎﳌـﻠـﻤـﻮس ﻋـﻨـﺪ اﳌـﻘـﻠـﺐ اﻵﺧـــﺮ ﻣﻦ ﺣـﻴـﻮاﺗـﻬـﻢ اﳌــﺘــﺴــﺎرﻋــﺔ. وﻣـــﺎ ﻳﺒﺪو ﻓــﻲ اﻟـﻨـﺼـﻒ اﻷول ﻣــﻦ اﻟــﻌــﻤــﺮ، أو ﻓــﻲ ﺛﻠﺜﻴﻪ اﻷوﻟـــــﲔ، اﻧــﺴــﻼﺧــﴼ ﻋﻦ اﳌــﻬــﺪ وﺗــﻮﻗــﴼ ﺷــﺪﻳــﺪ اﻹﻟــﺤــﺎح إﻟـﻰ ﺗــﻨــﻜــﺐ اﳌــــﺠــــﻬــــﻮل، ﻳــﺼــﺒــﺢ ﻓـﻴـﻤـﺎ ﺑﻌﺪ ﻧﻜﻮﺻﴼ إﻟــﻰ اﻟـــﻮراء وﺣﻨﻴﻨﴼ ﺟﺎرﻓﴼ ﻻﺳﺘﻌﺎدة اﳌﻜﺎن اﻷول اﻟﺬي ﺧﺴﺮوه. ﻓﻜﻤﺎ ﻳﺆﻛﺪ اﳌﻜﺎن ﻛﺮوﻳﺔ اﻷرض ﻳــﺆﻛــﺪ اﻟـــﺰﻣـــﺎن ﻣـــﻦ ﺟﻬﺘﻪ ﻛـــﺮوﻳـــﺔ اﻟــﻌــﻴــﺶ ﻓــﻮﻗــﻬــﺎ. واﳌـــﻜـــﺎن اﻷول ﻳـــﺒـــﺪو ﻟـــﺸـــﺪة وﺿـــﻮﺣـــﻪ أو اﻟﺘﺼﺎﻗﻨﺎ ﺑـﻪ ﻋـﺎدﻳـﴼ وﺑﺎﻋﺜﴼ ﻋﻠﻰ اﻟﻀﺠﺮ واﻟﺘﻤﻠﻤﻞ، ﺑﺤﻴﺚ ﻧﻨﺸﺪ ﻓـﺮادﻳـﺴـﻨـﺎ اﳌـــﻮﻋـــﻮدة ﻓــﻲ اﻷﻣــﺎﻛــﻦ اﻟــﺒــﻌــﻴــﺪة وﻏـــﻴـــﺮ اﳌـــــﻮﻃـــــﻮء ة. ﻟـﻜـﻦ ذﻟﻚ اﳌﻜﺎن ﺳﺮﻋﺎن ﻣﺎ ﻳﺘﺤﻮل إﻟﻰ ﻓﺮدوس ﻣﻔﻘﻮد، ﺣﺘﻰ ﻗﺒﻞ أن ﻧﺼﻞ إﻟﻰ ﺿﺎﻟﺘﻨﺎ اﳌﻨﺸﻮدة. وﻟﻌﻞ ذﻟﻚ اﻟﺠﺪل اﻟﺪاﺋﻢ واﻟﺤﺎﻓﻞ ﺑﺎﳌﻔﺎرﻗﺎت ﺑــﲔ اﻟــﻄــﺮﻓــﲔ ﻫــﻮ ﻣــﺎ أﻣــــﺪ اﻟﺸﻌﺮ ﺑﺄﻋﺘﻰ اﻟﺼﻮر واﻷﺧﻴﻠﺔ وأﻟﺼﻘﻬﺎ ﺑــﺎﻟــﻌــﻮاﻃــﻒ اﻟــﺠــﻴــﺎﺷــﺔ. ﻓـﺎﻷﻣـﺎﻛـﻦ واﻟــــﺒــــﻴــــﻮت اﻟــــﺘــــﻲ ﻳـــﺘـــﻢ إﺧــــﻼؤﻫــــﺎ ﺗﺘﺤﻮل ﻋﻨﺪ اﻟﺸﺮﻳﻒ اﻟﺮﺿﻲ إﻟﻰ ﻣﺮﺗﻊ ﻟﻠﺤﺴﺮات، وإﻟﻰ ﻃﻠﻞ ﻣﻜﺎﻧﻲ ﻧـﺴـﻌـﻰ إﻟـــﻰ اﺳــﺘــﻌــﺎدﺗــﻪ ﺑﺎﻟﺤﻨﲔ واﻟﺘﻠﻔﺖ اﻟﻘﻠﺒﻲ »وﺗﻠﻔﺘﺖ ﻋﻴﻨﻲ ﻓــﻤــﺬ ﺧــﻔــﻴــﺖ ﻋــﻨــﻲ اﻟــﻄــﻠــﻮل ﺗـﻠـﻔـﺖ اﻟﻘﻠﺐ«. وﻫـﻲ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺗﺒﻠﻮر ﻋﻨﺪ اﺑﻦ اﻟﺮوﻣﻲ ﻓﻜﺮة اﻟﻮﻃﻦ وﻣﻔﻬﻮﻣﻪ »وﺣـــﺒـــﺐ أوﻃـــــــﺎن اﻟــــﺮﺟــــﺎل إﻟــﻴــﻬــﻢ ﻣــﺂرب ﻗـﻀـﺎﻫـﺎ اﻟـﺸـﺒـﺎب ﻫﻨﺎﻟﻜﺎ«. أﻣـــﺎ ﻏــﺎﺳــﺘــﻮن ﺑــﺎﺷــﻼر ﻓــﻴــﺮى ﻣﻦ ﺟــﻬــﺘــﻪ أن اﳌـــﻜـــﺎن اﻷول ﻳـﺤـﺘـﻮي ﻓــﻲ ﺑــﻴــﻮﺗــﻪ وﻣــﻘــﺼــﻮراﺗــﻪ اﳌﻐﻠﻘﺔ ﻋﻠﻰ اﻟﺰﻣﻦ ﻣﻜﺜﻔﴼ. وﻳﻀﻴﻒ ﻋﻠﻰ ﻃﺮﻳﻘﺘﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﻓﻲ اﳌﺰج اﻟﺤﺎذق ﺑﲔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ واﻟﺸﻌﺮ »ﺣﲔ ﻧﺤﻠﻢ ﺑﺎﻟﺒﻴﺖ اﻟــﺬي وﻟـﺪﻧـﺎ ﻓﻴﻪ، وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻧــــﺤــــﻦ ﻓـــــﻲ أﻋـــــﻤـــــﺎق اﻻﺳــــﺘــــﺮﺧــــﺎء اﻷﻗـﺼـﻰ، ﻧﻨﺨﺮط ﻓـﻲ ذﻟــﻚ اﻟــﺪفء اﻷﺻﻠﻲ، وﻓﻲ ذﻟﻚ اﻟﻨﺴﻎ اﻟﻬﻼﻣﻲ ﻟﻔﺮادﻳﺴﻨﺎ اﳌﺎدﻳﺔ«.
وﻣـــــﻊ ذﻟـــــﻚ ﻓـــــﺈن اﻟــــﻌــــﻮدة إﻟــﻰ اﻷﻣﺎﻛﻦ اﻟﺘﻲ أﺧﻠﻴﻨﺎﻫﺎ ﻗﺒﻞ ﻋﺸﺮات اﻟــﺴــﻨــﲔ ﻫــﻲ ﻓــﻲ ﻣـﻌـﻈـﻢ ﺣـﺎﻻﺗـﻬـﺎ ﻋـــــﻮدة ﻧــﺎﻗــﺼــﺔ وﻣــﺜــﻠــﻮﻣــﺔ ﺑــﻬــﻮاء اﻟــﻐــﻴــﺎب. ذﻟـــﻚ أن اﻋــﺘــﻴــﺎدﻧــﺎ ﻋﻠﻰ اﻹﻳﻘﺎع اﻟﺴﺮﻳﻊ ﻟﻠﻤﺪن واﻟﻌﻮاﺻﻢ اﻟﺘﻲ ﻗﻀﻴﻨﺎ ﺑﲔ ﻇﻬﺮاﻧﻴﻬﺎ وﻓﻲ ﻛﻨﻒ ﺿﻮﺿﺎﺋﻬﺎ اﻟﻘﺴﻢ اﻷﻛﺒﺮ ﻣﻦ ﺣﻴﻮاﺗﻨﺎ اﳌﻨﺼﺮﻣﺔ، ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻏﻴﺮ ﻗﺎدرﻳﻦ ﻋﻠﻰ اﻟﺘﻜﻴﻒ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﻣﻊ »ﺑــﻼدة« اﻟﺰﻣﻦ اﻟﺮﻳﻔﻲ ورﺧﺎوﺗﻪ، ودوراﻧﻪ ﺣﻮل ذاﺗﻪ ﺑﻮﺗﻴﺮة واﺣﺪة. ﻛﻤﺎ أن ﻛﻞ ﺷﻲء ﺣﻮﻟﻨﺎ ﻳﺸﻌﺮﻧﺎ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ أﺧﺮى ﺑﺄﻧﻨﺎ ﻏﺮﺑﺎء ﺗﻤﺎﻣﴼ ﻋﻦ ذﻟﻚ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺬي أﺧﻠﻴﻨﺎه ﻟﻶﺧﺮﻳﻦ. ﻛﻞ ﺷﻲء ﻓﻲ ذﻟﻚ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺗﺪﺑﺮ ﻣﻦ دوﻧـــﻨـــﺎ ﺷـــﺆوﻧـــﻪ وأﺣــــﻮاﻟــــﻪ وﻃـــﺮق ﻋﻴﺸﻪ. واﻟـﻨـﺎس ﺑﻤﻦ ﻓﻴﻬﻢ اﻷﻫـﻞ واﻷﻗﺮﺑﻮن رﺗﺒﻮا ﻓﻲ ﺿﻮء ﻏﻴﺎﺑﻨﺎ ﻋﻼﻗﺎﺗﻬﻢ وﻋﺎداﺗﻬﻢ وﻣﺼﺎﺋﺮﻫﻢ اﳌﺘﺒﺎﻳﻨﺔ. واﻟﺸﺠﺮ ﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﻳﻨﺘﻈﺮﻧﺎ ﻟﻴﺜﻤﺮ، وﻻ اﻟــﻮرد ﻛﻲ ﻳﺘﻔﺘﺢ، وﻻ اﻟــﺮﻳــﺢ ﻛــﻲ ﺗــﻬــﺐ. وﻗـــﺪ ﻳــﻜــﻮن أﺑــﻮ ﺗﻤﺎم ﻗﺪ ﻗﺼﺪ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﻐﺮﺑﺔ ﺣﲔ ﻛﺘﺐ ذات ﻋـﻮدة ﻣﺸﺎﺑﻬﺔ »ﻻ أﻧﺖ أﻧﺖ وﻻ اﻟﺪﻳﺎر دﻳﺎر«. وﺑﻌﺪه ﺑﻘﺮون ﻋﺪﻳﺪة ﻋﺒﺮ ﻣﻴﻼن ﻛﻮﻧﺪﻳﺮا ﻓــﻲ رواﻳــﺘــﻪ »اﻟــﺠــﻬــﻞ« ﻋــﻦ ﻣـﺄﺳـﺎة اﳌﻬﺎﺟﺮﻳﻦ اﻟﺘﺸﻴﻚ اﻟﺬﻳﻦ ﻏـﺎدروا إﻟﻰ ﻓﺮﻧﺴﺎ وإﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ودول أوروﺑﺎ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﻫﺮﺑﴼ ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺸﻤﻮﻟﻲ، وﻟــﻜــﻨــﻬــﻢ ﺣـــﲔ ﻋـــــﺎدوا ﻛـــﻬـــﻮﻻ إﻟــﻰ وﻃــــﻨــــﻬــــﻢ اﻷم ﻟــــــﻢ ﻳـــﺴـــﺘـــﻄـــﻴـــﻌـــﻮا اﻟــﺒــﻘــﺎء ﻃـــﻮﻳـــﻼ، ﺣـﻴـﺚ ﻟــﻢ ﻳﺘﻌﺮف إﻟـﻴـﻬـﻢ أﺣــــﺪ، وﻟـــﻢ ﻳــﺠــﺪوا ﻣـﻮاﻃـﺊ ﻷرواﺣـﻬـﻢ وأﻗـﺪاﻣـﻬـﻢ ﻋﻠﻰ اﻷرض اﻟﺘﻲ ﻧﺴﻴﺘﻬﻢ ﺗﻤﺎﻣﴼ. وﻫﺬه اﻟﻔﺠﻮة اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﻮﺟﺪاﻧﻴﺔ اﳌﺘﻮﻟﺪة ﻋﻦ »ﺟﻬﻠﻬﻢ« اﳌﻄﺒﻖ ﺑﺪورة اﻟﺰﻣﻦ اﻷول، ﻣﺎ ﻟﺒﺜﺖ أن دﻓﻌﺖ ﻛﺜﺮﺗﻬﻢ اﻟﻜﺎﺛﺮة إﻟﻰ اﻻﻧﻜﻔﺎء ﺛﺎﻧﻴﺔ ﺑﺎﺗﺠﺎه اﳌﻬﺎﺟﺮ اﻟﺒﺪﻳﻠﺔ. ﻋــــﻠــــﻰ أن ﺻــــــــــﻮرة اﻷﻣـــــﺎﻛـــــﻦ واﻷرﻳــــــــــﺎف اﻟـــﺘـــﻲ ﻏــــﺎدرﻧــــﺎﻫــــﺎ ﻓـﻲ ﻣﻄﺎﻟﻊ اﻟﺼﺒﺎ ﻟﻨﻌﻮد إﻟﻴﻬﺎ ﻛﻬﻮﻻ وﻣﺴﻨﲔ ﻻ ﺗﻤﻠﻚ ﺑﻌﺪﴽ واﺣــﺪﴽ، ﺑﻞ ﺗـﻨـﻔـﺘـﺢ ﻋــﻠــﻰ ﻣــﻔــﺎرﻗــﺎت ﻣـﺘـﻐـﺎﻳـﺮة اﻟـــﺪﻻﻻت. ﻓﺎﻷﻣﺎﻛﻦ ﺗﻠﻚ ﺗﻘﻊ ﻋﻠﻰ اﻟـﺤـﺪود اﻟﻔﺎﺻﻠﺔ ﺑـﲔ اﻟﻄﻤﺄﻧﻴﻨﺔ واﻟﻘﻠﻖ، وﺑـﲔ اﻟﺴﻌﺎدة واﻟﺸﻘﺎء. ﺻﺤﻴﺢ أﻧﻨﺎ ﻣﻦ ﺑﻌﺾ اﻟﺠﻮاﻧﺐ ﻻ ﻧــﻜــﺎد ﻧــﺘــﻌــﺮف ﻓــﻲ ﻛـﻨـﻔـﻬـﺎ ﻋﻠﻰ ذواﺗـــﻨـــﺎ اﻟــﻘــﺪﻳــﻤــﺔ، ﻟــﻜــﻦ اﻟﺼﺤﻴﺢ أﻳـﻀـﴼ أن ﺑـﻴـﻮت اﳌـﻘـﻠـﺐ اﻵﺧـــﺮ ﻣﻦ اﻷﻋــﻤــﺎر ﺗــﺒــﺪو ﺷﺒﻴﻬﺔ ﺑﻤﺤﻄﺎت أﺧــﻴــﺮة ﻟﻀﻐﻀﻐﺔ ﺣــﻠــﻮى اﻟـﺰﻣـﻦ وﻓﺘﺎﺗﻪ اﳌﺘﺒﻘﻲ. وﻟﻌﻞ ﺑﻌﺾ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻨﻔﺲ واﻻﺟــﺘــﻤــﺎع اﻟــﺬﻳــﻦ ذﻫﺒﻮا إﻟﻰ اﻟﻘﻮل ﺑﺄن اﻟﺴﻌﺎدة اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﺗـــﺒـــﺪأ ﺑــﻌــﺪ اﻟــﺴــﺘــﲔ أو اﻟـﺴـﺒـﻌـﲔ ﻟﻴﺴﻮا ﻣﺨﻄﺌﲔ ﺗﻤﺎﻣﴼ، ﺑﺎﻋﺘﺒﺎر أن ﺳـﻘـﻒ اﻵﻣــــﺎل واﻟـﺘـﻄـﻠـﻌـﺎت ﻓﻲ ﻫــﺬا اﻟﻌﻤﺮ ﻳﺼﺒﺢ ﻣﻨﺨﻔﻀﴼ إﻟﻰ ﺣـــﺪ ﺑــﻌــﻴــﺪ، ﺑــﻤــﺎ ﻳــﻘــﻠــﺺ اﳌــﺴــﺎﻓــﺔ ﺑــﲔ اﳌــﺘــﺎح واﳌــﺤــﻠــﻮم ﺑـــﻪ، أو ﺑﲔ اﳌﺘﺨﻴﻞ واﳌﺘﺤﻘﻖ. ﻓﺎﻟﺴﻌﺎدة ﻫﻨﺎ ﻟـﻴـﺴـﺖ ﻧـﺎﺟـﻤـﺔ ﻋــﻦ ﻛـﺴـﺐ اﻟــﺮﻫــﺎن ﻓــﻲ اﻟﻠﻌﺐ ﻣــﻊ اﻷﻋــﺎﺻــﻴــﺮ، ﺑــﻞ ﻓﻲ اﻟــﺘــﻠــﺬذ ﺑـﺎﻟـﻨـﺴـﻴـﻢ اﻟــﺨــﻔــﻴــﻒ اﻟـــﺬي ﻳﻬﺐ ﻋﻠﻰ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻜﺴﻠﻰ. وﻫﻲ ﻟــﻴــﺴــﺖ ﻣــﺘــﺄﺗــﻴــﺔ ﻣـــﻦ ﺟــﻤــﻮح اﻟـــﺪم واﻧﺪﻓﺎﻋﺎﺗﻪ اﻟﻀﺎرﻳﺔ، ﺑﻞ ﻣﻦ ﻣﺘﻌﺔ اﻟـﺨـﺪر اﻟﺠﺴﺪي وﺳـﺮﻳـﺎن اﻟﺪﻣﺎء اﻟﺒﻄﻲء ﻓﻲ اﻟـﻌـﺮوق. واﻟـﻨـﺎس ﻓﻲ ﻣـــﺎ ﺗــﺴــﻤــﻰ ﺣــﻘــﺒــﺔ اﻟــﻌــﻤــﺮ اﻟـﺜـﺎﻟـﺜـﺔ ﻳــﺘــﺤــﻮﻟــﻮن إﻟــــﻰ ﻋـــﻤـــﺎل ﻣــﻴــﺎوﻣــﲔ ﻋﻨﺪ اﻟـﺤـﻴـﺎة، وﻳــﺤــﻮﻟــﻮن ﺑﻴﻮﺗﻬﻢ اﻟـــﺠـــﺪﻳـــﺪة إﻟــــﻰ أﻣـــﺎﻛـــﻦ ﻟـﺘـﺼـﺮﻳـﻒ اﻷﻋﻤﺎر وﺗﺰﺟﻴﺔ »ﻓﺎﺋﺾ« اﻟﻮﻗﺖ ﻋﺒﺮ ﻣﺸﺎﻫﺪة اﻟﺘﻠﻔﺎز أو اﻟﻘﺮاء ة أو ﻟﻌﺐ اﻟﻮرق أو اﻟﺘﻨﺰه ﻓﻲ اﻟﺤﺪاﺋﻖ ورﻋﺎﻳﺔ ورودﻫــﺎ وﻧﺒﺎﺗﺎﺗﻬﺎ. وإذا ﻛﻨﺎ ﻧﺄﺧﺬ وﻗﺘﴼ ﻃﻮﻳﻼ ﻓﻲ ﺑﻨﺎء ﺗﻠﻚ اﻟﺒﻴﻮت ﻓﺮﺑﻤﺎ ﻳﻌﻮد اﻟﺴﺒﺐ، ﻋﻦ ﻗﺼﺪ أو ﻏﻴﺮ ﻗـﺼـﺪ، إﻟــﻰ رﻏﺒﺘﻨﺎ ﻓـــﻲ ﺗـﺸـﺘـﻴـﺖ اﻧــﺘــﺒــﺎﻫــﻨــﺎ ﻋـــﻦ ﻓـﻜـﺮة اﳌــﻮت أو ﻓـﻲ إﻗﻨﺎﻋﻪ ﺑــﺄن ﻳﻌﻄﻴﻨﺎ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻧﺤﺘﺎج إﻟﻴﻪ ﻟﻼﻧﺘﻬﺎء ﻣــﻦ ﺗﺸﻴﻴﺪﻫﺎ. وﻷن اﻟﺸﻴﺨﻮﺧﺔ ﻫــﻲ ﺑـﻤـﺜـﺎﺑـﺔ ﻃــﻔــﻮﻟــﺔ ﺛــﺎﻧــﻴــﺔ، ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻳﺮى اﻟﺒﻌﺾ، ﻓﻨﺤﻦ ﻧﺤﺎول أن ﻧﻮﻓﺮ ﻷﻧﻔﺴﻨﺎ اﳌـﺴـﺮح ذاﺗــﻪ اﻟـﺬي وﻓﺮﺗﻪ ﻟﻨﺎ أزﻣﻨﺔ اﻟﻄﻔﻮﻟﺔ اﻟﻐﺎﺑﺮة، ﻓﻨﺠﻌﻞ ﻣﻦ ﺣﺪاﺋﻖ ﺑﻴﻮﺗﻨﺎ ﺻﻮرﴽ أﺧــــــــﺮى ﻋـــــﻦ ﻓــــــﺮادﻳــــــﺲ اﻟـــﻄـــﻔـــﻮﻟـــﺔ اﻟــﺘــﻲ ﺧــﺴــﺮﻧــﺎﻫــﺎ، وﻧــﺴــﺘــﻌــﻴــﺪ ﻣﺎ أﻣﻜﻨﻨﺎ ﻓـﻀـﺎء اﳌـﺎﺿـﻲ وأﺷـﺠـﺎره وأراﺟﻴﺤﻪ اﳌﺸﺮﻋﺔ ﻋﻠﻰ اﻟﻨﻌﺎس.
ﻟــﻴــﺲ ﺻـــﺪﻓـــﺔ إذن أن ﻳـﻌـﻤـﺪ اﻟﻜﺜﻴﺮ ﻣﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﻏــﺎدروا ﻣﺴﺎﻗﻂ رؤوﺳــــﻬــــﻢ ﻓـــﻲ ﺳـــﻨـــﻮات اﻟــﻄــﻔــﻮﻟــﺔ واﻟــﺼــﺒــﺎ، وﺑﻴﻨﻬﻢ ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻛﺘﺎب وﻣـــﺒـــﺪﻋـــﻮن، إﻟـــﻰ اﻻﻧــﻜــﻔــﺎء ﺛـﺎﻧـﻴـﺔ ﻧﺤﻮ اﻟﻘﺮى واﻟﺒﻠﺪات اﻟﺘﻲ ﺣﺴﺒﻮا ذات ﻳـﻮم أﻧﻬﻢ ﻏـﺎدروﻫـﺎ إﻟـﻰ ﻏﻴﺮ رﺟﻌﺔ. وﻫﻢ ﻻ ﻳﻔﻌﻠﻮن ذﻟﻚ إﻻ ﻟﻜﻲ ﻳﺴﺘﻌﻴﺪوا اﻟﻈﻬﻴﺮ اﻷﻛﺜﺮ ﺻﻼﺑﺔ ﻷﻗــــﺪاﻣــــﻬــــﻢ وﻣــــــﻮاﻃــــــﺊ أرواﺣـــــﻬـــــﻢ وﻣﺨﻴﻼﺗﻬﻢ اﻟـﻔـﺎﺋـﺮة، وﻳﺘﻠﻤﺴﻮا ﺑــــﺎﻟــــﺤــــﻮاس اﳌــــــﺠــــــﺮدة ﺟــﻐــﺮاﻓــﻴــﺎ اﻟـﺒـﺪاﻳـﺎت اﻟﺘﻲ ﻛــﺎن ﻻ ﺑـﺪ ﻟﻬﻢ ﻣﻦ ﻣـﻐـﺎدرﺗـﻬـﺎ ﻟﻜﻲ ﻳﻜﺴﺒﻬﺎ اﻟﻔﻘﺪان ﻃﺎﺑﻌﻬﺎ اﻷﺳـﻄـﻮري. ورﻏــﻢ إدراك اﻟــﻌــﺎﺋــﺪﻳــﻦ، ﻣــﺴــﻨــﲔ وﻛــــﻬــــﻮﻻ، أن اﻟﺒﻴﻮت اﻟﺘﻲ ﺗﺄﺧﺮوا ﻓﻲ ﺑﻨﺎﺋﻬﺎ ﻟﻦ ﺗﻈﻠﻠﻬﻢ ﺳﻘﻮﻓﻬﺎ إﻟﻰ زﻣﻦ ﻃﻮﻳﻞ، ﻓﻬﻢ ﻳﺸﻴﺪوﻧﻬﺎ ﺑﺤﻤﺎس وﻧﺸﻮة ﺑﺎﻟﻐﲔ ﻷﻧﻬﻢ ﻳﻄﻠﻮن ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﻮه ﻣﻦ ﺟﻬﺔ، وﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺳــﻴــﺆوﻟــﻮن إﻟــﻴــﻪ ﻣــﻦ ﺟـﻬـﺔ أﺧــﺮى. ﻛـــﺄن ﺑــﻴــﻮت اﻟـﻜـﻬـﻮﻟـﺔ ﻫــﻲ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﺗﻤﺮﻳﻦ ﻳﻮﻣﻲ ﻋﻠﻰ ﻓﻜﺮة اﳌﻮت، أو ﻫﻲ ﺷﻜﻞ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﳌﻘﺎﺑﺮ اﻟﻌﻠﻮﻳﺔ اﻟــﺘــﻲ ﻻ ﻳـﻔـﺼـﻠـﻬـﺎ ﻋـــﻦ ﻣـﺜـﻴـﻼﺗـﻬـﺎ اﻟـﺴـﻔـﻠـﻴـﺔ ﺳـــﻮى أﻣــﺘــﺎر ﻗـﻠـﻴـﻠـﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﺮاب. وﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﳌﺴﺘﻐﺮب ﺗﺒﻌﴼ ﻟﺬﻟﻚ أن ﻳﺨﺘﺎر اﻟﺒﻌﺾ ﺑﺄﻧﻔﺴﻬﻢ اﻷﻣــﺎﻛــﻦ اﻟــﺘــﻲ ﻳــــﻮدون أن ﻳـﺪﻓـﻨـﻮا ﺗﺤﺘﻬﺎ. وﻫﻢ ﺣﲔ ﻳﻨﺘﻘﻮﻧﻬﺎ ﻇﻠﻴﻠﺔ وﻣــﻐــﻄــﺎة ﺑــﺎﻷﺷــﺠــﺎر ﻋـﻨـﺪ أﻃـــﺮاف ﺣﺪاﺋﻘﻬﻢ اﳌﻨﺰﻟﻴﺔ، ﻓﻠﻜﻲ ﻳﺨﻔﻔﻮا ﻣﻦ وﺣﺸﺔ اﻟﺮﺣﻴﻞ ووﻃـﺄة اﻟﻌﺪم، وﻟﻜﻲ ﻳﺘﺼﻠﻮا ﺑﻨﺴﻎ اﻟﻨﺒﺎت اﻟﺤﻲ اﻟـﺬي ﻳﻤﻜﻨﻬﻢ ﺑﺸﻜﻞ أو ﺑﺂﺧﺮ ﻣﻦ اﻟﻌﻮدة إﻟﻰ ﺿﻮء اﻟﺸﻤﺲ.