Asharq Al-Awsat Saudi Edition

الدراما العربية وربيع العرب!

- محمد الرميحي

لــــســــ­ت بــــنــــ­اقــــد فــــنــــ­ي كــــــي أطــــل بـاحـتـراف­ـيـة عـلـى مــا قـدمـتـه الــدرامــ­ا العربية فـي مـوسـم رمـضـان الفائت، لـكـنـي نــظــرت إلـــى مــا شــاهــدت بعين المراقب الاجتماعي، وهالني ما رأيت مــــن مــــا يــمــكــن مــلاحــظـ­ـتــه بــوضــوح وهــو تـأثـيـر »الــربــيـ­ـع الــعــربـ­ـي« الــذي اجتاح المنطقة منذ مطلع هذا العقد، عــلــى الـــــدرا­مـــــا الـــعـــر­بـــيـــة، وبــخــاصـ­ـة المــســلـ­ـســلات. انــحــســ­ار الــنــقــ­د الــجــاد لــهــذه الأعـــمــ­ـال »الــفــنــ­يــة« يـجـعـل من منتجيها والمـشـارك­ـين فيها يهنئون أنفسهم! والمطلوب لفت النظر إلى أن ما يقدم يجب إعـادة النظر فيه؛ لأنه لا يـقـدم مـعـالـجـة يستحقها الشعب العربي في هـذه الفترة المفصلية من تاريخه. وكما كان الربيع في طبعته السياسية درامـيـاً وفشل فـي تحقيق مـا تصبو إليه الشعوب العربية من آمال، فشلت المسلسلات بدرجة »مرتبة الـشـرف« فـي رسـم صــورة سينمائية لمشكلات العرب المتفاقمة. بداية، ليس هذا التعليق على كل المسلسلات التي تم عرضها، لكن يمكن التعميم دون الكثير مـن القلق على ارتـكـاب خطأ، كثير من هذه المسلسلات التي عرضت تـأثـرت بـشـيء مـا مـن أحــداث الربيع، وجـــاءت كـمـا الـربـيـع مـجـهـضـة! وفـي بعضها مستفزة أو سطحية، نتيجة ضمور خيال المخرج، وربما المنتج في الـوقـت نفسه، أمـا الممثل فـلا حـول له ولا قـوة، فهو مـؤدٍ لا غير، وحتى لو كان محترفاً فإن النص يخذله بشدة، كما خذلنا كمشاهدين! في واحد من تـلـك المـسـلـسـ­لات انـتـهـت الـقـصـة التي بدأت طول الوقت أنها تروي مطاردة سيدة لقاتل ابنتها بعد اغتصابها، بالقبض على القاتل من خلال عصابة اسـتـأجـرت­ـهـا الـبـطـلـة، وانـتـقـمـ­ت من القاتل بنفسها، دون تدخل القانون، لـكـن طـريـقـة الانــتــق­ــام لافــتــة لـلـغـايـة، مـن خـلال وضـع القاتل فـي قفص في الــصــحــ­راء، وهــو فــي مـلابـس حـمـراء »مــلابــس الإعـــــد­ام« ثــم صُــب عـلـيـه ما يشبه البنزين وتم حرقه حياً، المشاهد يستدعي مباشرة منظر إعدام الشهيد الطيار الأردنـي معاذ الكساسبة، من قبل تنظيم إرهابي هو »داعش«، هذه المقارنة الـصـارخـة، تثير العجب، بل تدعو إلى الاحتجاج، لا يستطيع عاقل أن يبرر هذا النوع من الانتقام إلا من خلال الإفلاس التام في مخيلة صناع المسلسل، دون أي شعور بما يستدعيه منظر الحرق حياً في قفص من الآلام، أو ما يتركه لـدى المشاهد من غثيان يذكّره بأهوال إعدامات »داعـش«، أما المسلسل الثاني فإنه يحط من الأنظمة السابقة، ويجعل معظم وزراء السلطة »الـسـابـقـ­ة« مرتشين وفـاسـديـن، وكل من يعمل معهم، إلى درجة أن رئيس الوزراء، في المسلسل، هدد الصحافي الــــذي يـكـشـف الــفــســ­اد، بــأنــه يسعى لــــ »إســـقـــا­ط وزارتـــــ­ــــه«! طـبـعـاً كـــل ذلــك الـفـسـاد فـي العصر الـسـابـق! مـن بيع الأعـضـاء البشرية »تـم التطرق إليها في أكثر من مسلسل« إلى المتاجرة في الممنوع، إلى انتشار المثلية الجنسية، بل واستخدام المال السياسي القادم من الخارج للتأثير في انتخابات الرئاسة! أما الثالث، فإنه من جديد يقحم حرب الإرهاب على موضوع المسلسل، وهو اجــتــمــ­اعــي، هـــذا الإقـــحــ­ـام يــبــدو فيه استخفاف بحرب الإرهاب في المجتمع العربي، المشتبك حالياً من أقصاه إلى أقصاه بتلك الحروب المدمرة، مشكلة عميقة متعددة الرؤوس يتعامل معها ذلك المسلسل بسطحية، بل يجعل من قـوى الإرهــاب القدرة على النفاذ إلى المـسـاجـد والتجمعات، دون معالجة حقيقية للبثور التي يسببها الإرهاب فــي المـجـتـمـ­عـات الـعـربـيـ­ة، وآخــــر من المسلسلات يسير في السياق نفسه، مـن خـلال عصابة تتجر مـن عمليات الإرهــاب، بل إن تلك العصابة تجمع كل خلق الله »الخارجين على القانون « فــي مــكــان واحـــــد، يــمــولــ­ون مــن دولــة غامضة أيضاً، ويتبعون تعليمات من الخارج، أي خـارج لا يعرف المشاهد، عليه أن يختار خارجه! في واحد آخر مـن المسلسلات التي تعالج افتراضاً مـا حـدث فـي سـوريـا، يخرج المشاهد بـانـطـبـا­ع أن مــن خـــرج عـلـى الـنـظـام هــم جـمـيـعـاً إرهــابــي­ــون، وأن الـنـظـام نفسه هـو أقـرب إلـى امــرأة قيصر في البراءة والعطف على الشعب والدفاع عنه! عدا أن كثيراً من تلك المسلسلات تـسـتـخـدم لـغـة ثـقـيـلـة، وفـــي بعضها خـادش للحياء. على مستوى بعض مسلسلات التي صدرت من الخليج، تم نقد تلك الأعمال بشدة؛ لأنها تعرضت في شكل فكاهي ممجوج لآخرين من منظور فوقي وسطحي، حتى اضطر بـعـض الـقـائـمـ­ين عليها إلــى الاعـتـذار للجمهور. واضــح أن أسـلـوب البناء الــدرامــ­ي، وتـركـيـب تسلسل الأحــداث يخضع في أغلب الأحوال إلى قناعات ســـاذجـــ­ة واجـــتـــ­هـــادات فــــرديــ­ــة، عـلـى افــــتـــ­ـراض أن الــجــمــ­هــور يــطــلــب ذلــك الـغـث ويتقبله، كما أنـه مـن الـواضـح أن هناك »تصحراً ثقافياً« لدى الكثير من القائمين على تلك الصناعة المهمة والأداة الأولــــى فــي تـوجـيـه المجتمع وإفادته.

تـلـك بـعـض المـلامـح الـتـي يخرج مـنـهـا المــتــاب­ــع فــيــرى بــوضــوح كيف

ُ أقـــحـــم­ـــت أحــــــــ­ــداث الــــربــ­ـيـــع الــعــربـ­ـي السابقة، وهـي إشكالية بحد ذاتها، بـشـكـل مـبـاشـر أو غـيـر مــبــاشــ­ر، في سيرة قصص مسلسلات العرب التي عـرضـت عليهم فـي الـشـهـر الفضيل، وقـد تابعها ملايين من البشر، كثير منهم مقتنع أو يمكن أن يقتنع بالرؤية المـشـوهـة الـتـي تـعـرض أمـامـهـم على أنها حقيقية أو قريبة منها، والسؤال هـل هــذا الـنـوع مـن المـعـالـج­ـة يـنـمّ عن فقدان خيال، أم هو استجابة طبيعية مشوهة لأحــداث لم تنضج بعد؟ لأن الـروايـات التي قدمت فـي معظم هذه المسلسلات هي انطباعية، وقريبة إلى السرد الساذج، ودون هدف يستطيع الإنـسـان أن يفكر فيه أو يستخلصه من المشاهدة، من الطبيعي أن يقال، إن مثل هذه الأعمال هي للترفيه، لكن حـتـى الـتـرفـيـ­ه لــه هـــدف، غـيـر ضـيـاع الـــوقـــ­ت وتــبــديـ­ـد المـــــال! يــصــرف على هــذه الأعــمــا­ل مـلايـين مـن الــــدولا­رات، وتباع لعدد كبير من محطات التلفزة فـي عـالمـنـا الـعـربـي، ويتسمر أمامها مــلايـــي­ن مـــن الــبــشــ­ر، فـــلا هـــي قـدمـت سرداً معقولاً للأحدث، ولا هي قدمت الـتـاريـخ بــقــراءة تـأخـذ المـشـاهـد إلـى نتيجة إيجابية، تجعله يتبصر في حاضره. ترك الفن السينمائي لفترة طويلة إما للتجارة السريعة، أو لغير المحترفين من تجار الشنطة، فكانت الوصفة هي »جريمة غامضة، وحكاية حــب مـسـتـحـيـ­لـة، وســجــون ونـصـب، وانحراف«، تلك الوصفة تمثل تركيبة نــاجــحــ­ة لـبـيـع الــعــمــ­ل حــتــى تـصـبـح مسلسلاً يعرض على الـنـاس، تغيب الـفـكـرة الأســـــا­س. إن اســتــخــ­دام هـذه الوسيلة (السينما والمسلسلات) وجب أن يكون استخداماً تنموياً، بمعنى من المعاني، فهي تعرض لكل طوائف المـجـتـمـ­ع، لكنها تفتقر إلــى التفكير الأعمق في الرسالة. الجيد من الأعمال الدرامية العربية يشكل جزراً منعزلة، ولا يــجــد الــــســـ­ـوق الـــتـــي تـسـتـقـبـ­لـه، فيبقى في دوائــره الضيقة، وربما لا يعاد إنتاج مثله. افتقدت مسلسلات رمضان المضامين الثقافية والنماذج القيمية والأسـالـي­ـب والـغـايـا­ت التي تـرقـى إلـى التحديات الـتـي يواجهها العرب اليوم، والمشتبكة مجتمعاتهم بحروب واسعة مع الإرهاب والتخلف. خــيــارات تـلـك الأعــمــا­ل الــدرامــ­يــة هي خـيـارات تكرس بقاء الأزمــة ولا تقدم بصيص حلول للخروج منها! في وقت ينتج الروائيون العرب أفضل الأعمال، لكنها تبقى حبيسة الكتب! آخر الكلام: هـــل فــشــل الــربــيـ­ـع ســبــب إعــــادة إنــتــاج الـثـقـافـ­ة الـسـطـحـي­ـة؟ إن فعل ذلك، فإنها نتيجة مخيبة للآمال أكثر بكثير من الفشل ذاته، حيث إن تراجع الأمـم أو نهوضها، يبدأ دون شك من نوع الثقافة التي تسود!

كثير من المسلسلات التي عرضت تأثرت بشيء ما من أحداث الربيع وجاءت كما الربيع مجهضة وفي بعضها مستفزة أو سطحية

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia