الدراما العربية وربيع العرب!
لــــســــت بــــنــــاقــــد فــــنــــي كــــــي أطــــل بـاحـتـرافـيـة عـلـى مــا قـدمـتـه الــدرامــا العربية فـي مـوسـم رمـضـان الفائت، لـكـنـي نــظــرت إلـــى مــا شــاهــدت بعين المراقب الاجتماعي، وهالني ما رأيت مــــن مــــا يــمــكــن مــلاحــظــتــه بــوضــوح وهــو تـأثـيـر »الــربــيــع الــعــربــي« الــذي اجتاح المنطقة منذ مطلع هذا العقد، عــلــى الـــــدرامـــــا الـــعـــربـــيـــة، وبــخــاصــة المــســلــســلات. انــحــســار الــنــقــد الــجــاد لــهــذه الأعـــمـــال »الــفــنــيــة« يـجـعـل من منتجيها والمـشـاركـين فيها يهنئون أنفسهم! والمطلوب لفت النظر إلى أن ما يقدم يجب إعـادة النظر فيه؛ لأنه لا يـقـدم مـعـالـجـة يستحقها الشعب العربي في هـذه الفترة المفصلية من تاريخه. وكما كان الربيع في طبعته السياسية درامـيـاً وفشل فـي تحقيق مـا تصبو إليه الشعوب العربية من آمال، فشلت المسلسلات بدرجة »مرتبة الـشـرف« فـي رسـم صــورة سينمائية لمشكلات العرب المتفاقمة. بداية، ليس هذا التعليق على كل المسلسلات التي تم عرضها، لكن يمكن التعميم دون الكثير مـن القلق على ارتـكـاب خطأ، كثير من هذه المسلسلات التي عرضت تـأثـرت بـشـيء مـا مـن أحــداث الربيع، وجـــاءت كـمـا الـربـيـع مـجـهـضـة! وفـي بعضها مستفزة أو سطحية، نتيجة ضمور خيال المخرج، وربما المنتج في الـوقـت نفسه، أمـا الممثل فـلا حـول له ولا قـوة، فهو مـؤدٍ لا غير، وحتى لو كان محترفاً فإن النص يخذله بشدة، كما خذلنا كمشاهدين! في واحد من تـلـك المـسـلـسـلات انـتـهـت الـقـصـة التي بدأت طول الوقت أنها تروي مطاردة سيدة لقاتل ابنتها بعد اغتصابها، بالقبض على القاتل من خلال عصابة اسـتـأجـرتـهـا الـبـطـلـة، وانـتـقـمـت من القاتل بنفسها، دون تدخل القانون، لـكـن طـريـقـة الانــتــقــام لافــتــة لـلـغـايـة، مـن خـلال وضـع القاتل فـي قفص في الــصــحــراء، وهــو فــي مـلابـس حـمـراء »مــلابــس الإعـــــدام« ثــم صُــب عـلـيـه ما يشبه البنزين وتم حرقه حياً، المشاهد يستدعي مباشرة منظر إعدام الشهيد الطيار الأردنـي معاذ الكساسبة، من قبل تنظيم إرهابي هو »داعش«، هذه المقارنة الـصـارخـة، تثير العجب، بل تدعو إلى الاحتجاج، لا يستطيع عاقل أن يبرر هذا النوع من الانتقام إلا من خلال الإفلاس التام في مخيلة صناع المسلسل، دون أي شعور بما يستدعيه منظر الحرق حياً في قفص من الآلام، أو ما يتركه لـدى المشاهد من غثيان يذكّره بأهوال إعدامات »داعـش«، أما المسلسل الثاني فإنه يحط من الأنظمة السابقة، ويجعل معظم وزراء السلطة »الـسـابـقـة« مرتشين وفـاسـديـن، وكل من يعمل معهم، إلى درجة أن رئيس الوزراء، في المسلسل، هدد الصحافي الــــذي يـكـشـف الــفــســاد، بــأنــه يسعى لــــ »إســـقـــاط وزارتـــــــــه«! طـبـعـاً كـــل ذلــك الـفـسـاد فـي العصر الـسـابـق! مـن بيع الأعـضـاء البشرية »تـم التطرق إليها في أكثر من مسلسل« إلى المتاجرة في الممنوع، إلى انتشار المثلية الجنسية، بل واستخدام المال السياسي القادم من الخارج للتأثير في انتخابات الرئاسة! أما الثالث، فإنه من جديد يقحم حرب الإرهاب على موضوع المسلسل، وهو اجــتــمــاعــي، هـــذا الإقـــحـــام يــبــدو فيه استخفاف بحرب الإرهاب في المجتمع العربي، المشتبك حالياً من أقصاه إلى أقصاه بتلك الحروب المدمرة، مشكلة عميقة متعددة الرؤوس يتعامل معها ذلك المسلسل بسطحية، بل يجعل من قـوى الإرهــاب القدرة على النفاذ إلى المـسـاجـد والتجمعات، دون معالجة حقيقية للبثور التي يسببها الإرهاب فــي المـجـتـمـعـات الـعـربـيـة، وآخــــر من المسلسلات يسير في السياق نفسه، مـن خـلال عصابة تتجر مـن عمليات الإرهــاب، بل إن تلك العصابة تجمع كل خلق الله »الخارجين على القانون « فــي مــكــان واحـــــد، يــمــولــون مــن دولــة غامضة أيضاً، ويتبعون تعليمات من الخارج، أي خـارج لا يعرف المشاهد، عليه أن يختار خارجه! في واحد آخر مـن المسلسلات التي تعالج افتراضاً مـا حـدث فـي سـوريـا، يخرج المشاهد بـانـطـبـاع أن مــن خـــرج عـلـى الـنـظـام هــم جـمـيـعـاً إرهــابــيــون، وأن الـنـظـام نفسه هـو أقـرب إلـى امــرأة قيصر في البراءة والعطف على الشعب والدفاع عنه! عدا أن كثيراً من تلك المسلسلات تـسـتـخـدم لـغـة ثـقـيـلـة، وفـــي بعضها خـادش للحياء. على مستوى بعض مسلسلات التي صدرت من الخليج، تم نقد تلك الأعمال بشدة؛ لأنها تعرضت في شكل فكاهي ممجوج لآخرين من منظور فوقي وسطحي، حتى اضطر بـعـض الـقـائـمـين عليها إلــى الاعـتـذار للجمهور. واضــح أن أسـلـوب البناء الــدرامــي، وتـركـيـب تسلسل الأحــداث يخضع في أغلب الأحوال إلى قناعات ســـاذجـــة واجـــتـــهـــادات فــــرديــــة، عـلـى افــــتــــراض أن الــجــمــهــور يــطــلــب ذلــك الـغـث ويتقبله، كما أنـه مـن الـواضـح أن هناك »تصحراً ثقافياً« لدى الكثير من القائمين على تلك الصناعة المهمة والأداة الأولــــى فــي تـوجـيـه المجتمع وإفادته.
تـلـك بـعـض المـلامـح الـتـي يخرج مـنـهـا المــتــابــع فــيــرى بــوضــوح كيف
ُ أقـــحـــمـــت أحــــــــــداث الــــربـــيـــع الــعــربــي السابقة، وهـي إشكالية بحد ذاتها، بـشـكـل مـبـاشـر أو غـيـر مــبــاشــر، في سيرة قصص مسلسلات العرب التي عـرضـت عليهم فـي الـشـهـر الفضيل، وقـد تابعها ملايين من البشر، كثير منهم مقتنع أو يمكن أن يقتنع بالرؤية المـشـوهـة الـتـي تـعـرض أمـامـهـم على أنها حقيقية أو قريبة منها، والسؤال هـل هــذا الـنـوع مـن المـعـالـجـة يـنـمّ عن فقدان خيال، أم هو استجابة طبيعية مشوهة لأحــداث لم تنضج بعد؟ لأن الـروايـات التي قدمت فـي معظم هذه المسلسلات هي انطباعية، وقريبة إلى السرد الساذج، ودون هدف يستطيع الإنـسـان أن يفكر فيه أو يستخلصه من المشاهدة، من الطبيعي أن يقال، إن مثل هذه الأعمال هي للترفيه، لكن حـتـى الـتـرفـيـه لــه هـــدف، غـيـر ضـيـاع الـــوقـــت وتــبــديــد المـــــال! يــصــرف على هــذه الأعــمــال مـلايـين مـن الــــدولارات، وتباع لعدد كبير من محطات التلفزة فـي عـالمـنـا الـعـربـي، ويتسمر أمامها مــلايـــين مـــن الــبــشــر، فـــلا هـــي قـدمـت سرداً معقولاً للأحدث، ولا هي قدمت الـتـاريـخ بــقــراءة تـأخـذ المـشـاهـد إلـى نتيجة إيجابية، تجعله يتبصر في حاضره. ترك الفن السينمائي لفترة طويلة إما للتجارة السريعة، أو لغير المحترفين من تجار الشنطة، فكانت الوصفة هي »جريمة غامضة، وحكاية حــب مـسـتـحـيـلـة، وســجــون ونـصـب، وانحراف«، تلك الوصفة تمثل تركيبة نــاجــحــة لـبـيـع الــعــمــل حــتــى تـصـبـح مسلسلاً يعرض على الـنـاس، تغيب الـفـكـرة الأســـــاس. إن اســتــخــدام هـذه الوسيلة (السينما والمسلسلات) وجب أن يكون استخداماً تنموياً، بمعنى من المعاني، فهي تعرض لكل طوائف المـجـتـمـع، لكنها تفتقر إلــى التفكير الأعمق في الرسالة. الجيد من الأعمال الدرامية العربية يشكل جزراً منعزلة، ولا يــجــد الــــســــوق الـــتـــي تـسـتـقـبـلـه، فيبقى في دوائــره الضيقة، وربما لا يعاد إنتاج مثله. افتقدت مسلسلات رمضان المضامين الثقافية والنماذج القيمية والأسـالـيـب والـغـايـات التي تـرقـى إلـى التحديات الـتـي يواجهها العرب اليوم، والمشتبكة مجتمعاتهم بحروب واسعة مع الإرهاب والتخلف. خــيــارات تـلـك الأعــمــال الــدرامــيــة هي خـيـارات تكرس بقاء الأزمــة ولا تقدم بصيص حلول للخروج منها! في وقت ينتج الروائيون العرب أفضل الأعمال، لكنها تبقى حبيسة الكتب! آخر الكلام: هـــل فــشــل الــربــيــع ســبــب إعــــادة إنــتــاج الـثـقـافـة الـسـطـحـيـة؟ إن فعل ذلك، فإنها نتيجة مخيبة للآمال أكثر بكثير من الفشل ذاته، حيث إن تراجع الأمـم أو نهوضها، يبدأ دون شك من نوع الثقافة التي تسود!
كثير من المسلسلات التي عرضت تأثرت بشيء ما من أحداث الربيع وجاءت كما الربيع مجهضة وفي بعضها مستفزة أو سطحية