اﳌﻌﺮﻓﺔ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻛﻤﻮﺿﻮع ﺗﺨﺼﺺ
ﻛﺎن اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻷﻧﺪﻟﺴﻲ أﺑـﻮ اﻟﻮﻟﻴﺪ اﺑـﻦ رﺷـﺪ )٦٢١١ - ٨٩١١م( ﻣﻦ أواﺋﻞ اﻟﺬﻳﻦ اﻟﺘﻔﺘﻮا إﻟــــــــﻰ ﺗــــــﺪاﺧــــــﻞ اﻻﺧــــﺘــــﺼــــﺎص ﺑــﲔ ﻋـﻠـﻮم اﻟـﺸـﺮﻳـﻌـﺔ واﻟـﻌـﻠـﻮم اﳌـــﻮازﻳـــﺔ. ﻓـﻘـﺪ ﻛــــﺮس رﺳـﺎﻟـﺘـﻪ اﻟـﺸـﻬـﻴـﺮة »ﻓــﺼــﻞ اﳌــﻘــﺎل ﻓﻴﻤﺎ ﺑـــﲔ اﻟــﺤــﻜــﻤــﺔ واﻟــﺸــﺮﻳــﻌــﺔ ﻣﻦ اﻻﺗـــــــﺼـــــــﺎل« ﻟـــــﻮﺿـــــﻊ ﺗـــﺼـــﻮر ﻟﻠﺘﺮاﺗﺐ اﳌﻨﻬﺠﻲ ﺑﲔ ﻣﻨﺎﻫﺞ وﻣــــــــﻮﺿــــــــﻮﻋــــــــﺎت اﻟـــﻔـــﻠـــﺴـــﻔـــﺔ واﻟــﺸــﺮﻳــﻌــﺔ، واﻟـــﺤـــﺪ اﻟـﻔـﺎﺻـﻞ ﺑﻴﻨﻬﺎ.
وﻧﺸﻬﺪ ﺑﲔ ﻓﺘﺮة وأﺧﺮى ﺑﺮوزﴽ ﻟﻠﺠﺪل ﻧﻔﺴﻪ. وﻳﺸﻌﺮ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﺸﺮﻳﻌﺔ ﺑﺎﳌﺮارة إزاء ﻛﺜﺮة اﳌﻌﺘﺮﺿﲔ ﻋﻠﻰ اﻷﺣـﻜـﺎم اﻟﻔﻘﻬﻴﺔ، ﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﻣﻦ أوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻢ ﻳﺪرﺳﻮا ﻫﺬا اﻟﻌﻠﻢ وﻓﻖ اﳌﻨﻬﺞ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي اﳌﻌﺮوف. اﺣﺘﺠﺎﺟﻬﻢ ﻟـــﻴـــﺲ ﺑــــﻼ أﺳـــــــﺎس. ﻓـــﻬـــﻢ ﻳـــﻘـــﻮﻟـــﻮن إن ﻋـﻠـﻢ اﻟﺸﺮﻳﻌﺔ ﻣﺜﻞ ﻛﻞ ﻋﻠﻢ آﺧﺮ، ﻛﺎﻟﻄﺐ واﻟﻔﻴﺰﻳﺎء وﻏﻴﺮﻫﻤﺎ، ﻟﻪ ﻣﻨﺎﻫﺠﻪ وﻟﻐﺘﻪ وﻣﻌﺎﻳﻴﺮه. ﻓﻼ ﻳﺼﺢ اﻟﺠﺪل ﻓﻲ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎﺗﻪ ﻟﻐﻴﺮ اﳌﺆﻫﻠﲔ ﻓﻴﻪ، وﻻ ﻳﺼﺢ رد اﻟﺨﺒﻴﺮ ﺑﻘﻮل اﻟﻌﺎﻣﻲ اﻟﺬي ﻻ ﻳﻌﺮف ﺳﻮى ﻇﺎﻫﺮ اﻷﺣﻜﺎم وأﻣﺜﻠﺘﻬﺎ.
ﻳﺘﺼﻞ ﻫﺬا اﻟﺠﺪل ﺑﻘﻀﻴﺔ أﺳﺒﻖ ﺣﻮل ﻋﻼﻗﺔ اﻟﺸﺮﻳﻌﺔ ﺑﺎﻟﻌﻠﻮم اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ. إن اﻟﺴﺆال اﳌﻄﺮوح ﻫﻨﺎ: ﻫﻞ أﻗﺎﻣﺖ اﻟﺸﺮﻳﻌﺔ ﻋﻠﻤﴼ ﺧﺎﺻﴼ ﺑﻬﺎ، ﻣﻦ أﺟﻞ ﻓﻬﻤﻬﺎ وﺗﻔﺴﻴﺮ ﻧﺼﻮﺻﻬﺎ؟ أم أن اﻟﺒﺸﺮ ﻫﻢ اﻟﺬﻳﻦ أﻗﺎﻣﻮا ﻋﻠﻢ اﻟﺸﺮﻳﻌﺔ؟ وإذا ﻛﺎن اﻟﺠﻮاب ﻫﻮ اﻟﺜﺎﻧﻲ، ﻓﻬﻞ أﻗﻴﻢ ﻫﺬا اﻟﻌﻠﻢ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺮ؟ أم ﺟﺎء اﻣﺘﺪادﴽ ﳌﺠﻤﻮع اﳌﻌﺎرف اﻟﺒﺸﺮﻳﺔ ﻓﻲ ﻣﺨﺘﻠﻒ اﳌﺠﺎﻻت؟
ﻛـﺎن ﻫـﺬا أﺣـﺪ اﳌﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺣﺎول اﺑــــﻦ رﺷــــﺪ ﻣــﻌــﺎﻟــﺠــﺘــﻬــﺎ ﻓـــﻲ ﻛــﺘــﺎﺑــﻪ اﳌـــﺬﻛـــﻮر أﻋــــــﻼه. ﻟــﻜــﻨــﻲ أﻇــــﻦ أن ﺗــﻄــﻮر اﳌـــﻌـــﺎرف ﻓﻲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﺸﺮﻳﻦ، ﻳﺴﻤﺢ ﺑﺘﺠﺎوز رؤﻳﺘﻪ، رﻏﻢ ﺟﻮدﺗﻬﺎ ﻳﻮﻣﺌﺬ.
ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻨﻈﺮ إﻟﻰ اﻟﺨﻄﺎب اﻟﺪﻳﻨﻲ ﺗﻌﺒﻴﺮﴽ ﻋﻦ أﺣﺪ ﻣﺼﺪرﻳﻦ: șDŽǰǧƕ ǺǛ ƱƵǵ Ɩǫ ǹƋ ɚǂǰǧƕ ǝǶnjǰǫ r اﻟﻘﺮآﻧﻲ واﻟﻨﺒﻮي ﺣﺮﻓﴼ ﺑﺤﺮف. ǂǰǨǧ ƶǀƚǧƕ ǪǴǛ ǹƋ ɚǂǰǧƕ ǩǶǴǜǫ r ﻓــﻲ ﻇـــﺮف ﻣــﻌــﲔ، اﻟــــﺬي ﻳـﺘـﺸـﻜـﻞ ﻓــﻲ ﺳـﻴـﺎق ﻋﻼﻗﺔ دﻳﻨﺎﻣﻴﻜﻴﺔ ﺑﲔ اﻟﻨﺺ وﻗﺎﺑﻠﻴﺎت اﻟﺒﺸﺮ اﻟــﺬﻫــﻨــﻴــﺔ واﻟـــﺮوﺣـــﻴـــﺔ، إﺿــﺎﻓــﺔ إﻟﻰ ﻗﻴﻮد اﻟﻨﻈﺎم اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ. ﻓﻲ ﻫﺬا اﻟﺠﺎﻧﺐ ﻳﺘﺪﺧﻞ ﻋﺮف اﳌـــﺠـــﺘـــﻤـــﻊ ﺻـــﺎﻧـــﻌـــﴼ ﳌـــﻮﺿـــﻮع اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ وﺗﻄﺒﻴﻘﺎﺗﻬﺎ، أي ﻓﺮض ﺣﺪود اﻟﻨﺺ.
ﻓﻲ اﻹﻃـﺎر اﻷول )ﻣﻨﻄﻮق اﻟﻨﺺ( ﺗﺠﺪ ﻟﻌﻠﻤﺎء اﻟﺸﺮﻳﻌﺔ دورﴽ ﻣــﺤــﻮرﻳــﴼ. ﻓـﻌـﻠـﻰ اﻣــﺘــﺪاد اﻟـــﺘـــﺎرﻳـــﺦ وﺣـــﺘـــﻰ اﻟــــﻴــــﻮم، ﻗــﺪم اﻟــﻔــﻘــﻬــﺎء واﳌــﻔــﺴــﺮون واﻟـــــﺮواة رأﻳـــــﻬـــــﻢ، ﺑـــﺎﻋـــﺘـــﺒـــﺎره ﻣــﻄــﺎﺑــﻘــﴼ ﻟﻠﻨﺺ. ﻟﻜﻨﻨﺎ ﻧﻌﻠﻢ أن رأﻳﻬﻢ ﻫﻮ أﺣﺪ اﻷﻓﻬﺎم اﳌﺤﺘﻤﻠﺔ، وﻟﻴﺲ اﻟﻨﺺ ذاﺗﻪ أو ﺣﺘﻰ اﻟﻔﻬﻢ اﻷﺧﻴﺮ.
ﻓﻲ اﻹﻃﺎر اﻟﺜﺎﻧﻲ )ﻣﻔﻬﻮم اﻟﻨﺺ( ﻳﺸﺎرك اﳌﺠﺘﻤﻊ ﺑــﺪور أوﺳــﻊ ﻓـﻲ ﺻﻴﺎﻏﺔ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ اﻟــﺪﻳــﻨــﻴــﺔ، اﻟــﺘــﻲ ﺗـﺘـﺸـﻜـﻞ ﻓـــﻲ ﺳــﻴــﺎق ﺗـﻔـﺎﻋـﻞ ﺑﲔ ﻣﺠﻤﻮع اﳌﻨﻈﻮرات اﳌﺘﻮﻓﺮة ﻓﻲ وﻗﺘﻪ: ﻣـﻨـﻈـﻮر اﻟﻔﻘﻴﻪ واﻟـﻔـﻴـﻠـﺴـﻮف واﻻﻗــﺘــﺼــﺎدي وﻋـﺎﻟـﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎع واﳌـﻌـﻤـﺎري واﻟﺴﻴﺎﺳﻲ... إﻟــﺦ. إن اﻷﻋــﺮاف واﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ اﳌﻠﺤﻘﺔ ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ أو اﻟﺘﻲ ﻟﻬﺎ ﻇﻼل دﻳﻨﻴﺔ، ﺗﺘﺸﻜﻞ ﻏﺎﻟﺒﴼ ﻓﻲ اﻹﻃﺎر اﻟﺜﺎﻧﻲ وﻟﻴﺲ اﻷول.
ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﺘﻤﺎﻳﺰ ﻣﻠﺤﻮﻇﴼ ﻓﻲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻹﺳــــــﻼم اﳌــﺒــﻜــﺮ. وﻟــــﻢ ﺗــﻜــﻦ ﻓــﻜــﺮة اﺳــﺘــﻘــﻼل اﻟﻌﻠﻮم ﻣﻬﻴﻤﻨﺔ، ﻛﻤﺎ ﻫـﻲ اﻟــﻴــﻮم. وﻟــﺬا ﻛﺎن اﻟـﻔـﻘـﻴـﻪ ﻣــﻔــﺴــﺮﴽ وﻃـﺒـﻴـﺒـﴼ وﻗــﺎﺿــﻴــﴼ وﻓـﻠـﻜـﻴـﴼ، ورﺑـــﻤـــﺎ أﺿــــﺎف إﻟــﻴــﻪ ﻋـﻠـﻤـﴼ آﺧـــﺮ ﻛـﺎﻟـﻔـﻴـﺰﻳـﺎء واﻟﻜﻴﻤﻴﺎء أو ﻏﻴﺮﻫﻤﺎ.
ﻧﻌﺮف ﻃﺒﻌﴼ أن ﻫﺬه اﻟﺤﺎل اﺧﺘﻠﻔﺖ اﻵن، وﺑﺎت ﻟﻜﻞ ﻋﻠﻢ رﺟﺎﻟﻪ وﻣﻮﺿﻮﻋﻪ وﻣﻌﺎﻳﻴﺮه اﻟﺨﺎﺻﺔ، ﺑﻞ وﻟﻐﺘﻪ اﳌﺘﻤﺎﻳﺰة أﻳﻀﴼ.
ﻟﻜﻦ رﻏـﻢ اﻻﺗـﺠـﺎه اﻟﺸﺪﻳﺪ ﻟﻠﺘﺨﺼﺺ، ﻓـﺈن ﻛﻞ ﻋﻠﻢ ﻳﺴﺘﻬﻠﻚ ﻣﻨﺘﺠﺎت اﻟﻌﻠﻢ اﻵﺧﺮ وﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﻠﻴﻪ. وﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻋﻠﻢ ﻣﻨﻔﺼﻞ ﺗﻤﺎﻣﴼ ﻋﻦ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﻌﻠﻮم. وﻫﺬا ﻳﻌﻴﺪﻧﺎ إﻟﻰ اﻟﻨﻘﺎش ﺣـــﻮل اﻟـﺘـﺨـﺼـﺺ ﻓــﻲ ﻋــﻠــﻢ اﻟــﺸــﺮﻳــﻌــﺔ. ﻓﻬﻞ ﻧــﺮﻳــﺪه ﻣﺴﺘﻘﻼ ﺑـﻤـﻮﺿـﻮﻋـﻪ، ﻟﻜﻨﻪ ﻣﺘﻔﺎﻋﻞ وﻣﺴﺘﻬﻠﻚ ﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﺑﻘﻴﺔ اﻟـﻌـﻠـﻮم؟ أم ﻧﺮﻳﺪه ﻣﻨﻔﺼﻼ ﻋﻦ ﻛﻞ ﻋﻠﻢ آﺧﺮ، ﺑﺮﺟﺎﻟﻪ وﻗﻀﺎﻳﺎه وﻣﻌﺎﻳﻴﺮه؟ وإذا ﻛﺎن اﻟﺠﻮاب ﻫﻮ اﻷول، ﻓﻬﻞ ﻟﻠﺨﺒﺮاء ﻓﻲ اﻟﻌﻠﻮم ذات اﻟﻌﻼﻗﺔ، ﺣﻖ ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ﻗﻀﺎﻳﺎ اﻟﺸﺮﻳﻌﺔ اﳌﺘﺼﻠﺔ ﺑﻌﻠﻮﻣﻬﻢ أم ﻻ؟