جادة الشانزليزيه تستعجل محو آثار التخريب والعنف
رئيس الحكومة يعرض سلسلة من الإجراءات الجديدة لكبح المشاغبين
منظر جـــادة الـشـانـزلـيـزيـه كـان حــزيــنــاً يــــوم أمـــــس، رغــــم أن بـلـديـة بــاريــس جــهــدت لمــحــو آثــــار الـعـنـف الأعـــمـــى الـــــذي ضــــرب هــــذه الــجــادة الــتــي تــوصــف بــأنــهــا »الأجـــمـــل في الـعـالـم«. فمن سـاحـة الإتـــوال، حيث قوس النصر الذي يخلد انتصارات الإمــبــراطــور نـابـلـيـون الأول، نــزولاً نـــحـــو ســــاحــــة الــــكــــونــــكــــورد حـيـث المــســلّــة الــفــرعــونــيــة، لا يــقــع الــزائــر إلا عـلـى مـحـلات غـالـبـيـتـهـا مقفلة. أكــشــاك الــجــرائــد تــرمــدت. واجـهـات زجاجية مهشمة تـدأب فـرق العمال فــي إزالـتـهـا ووضـــع ألــــواح خشبية مكانها. محل المجوهرات »ألباني«
ُ وجـاره »سواروفسكي« نهبا تماماً وســــــدت واجــهــاتــهــمــا، ولـــــن يــعــود الــنــشــاط إلـيـهـمـا إلا بـعـد أسـابـيـع. الحال نفسها ألمت بمقهى »فوكيه« الــــذي أحــــرق وبــعــثــرت مـحـتـويـاتـه. محل ومقهى »نسبريسو« الشهير الواقع يمين الجادة نزولاً اختفى عن الوجود وسدت واجهاته بالعرائض الـــخـــشـــبـــيـــة. مـــحـــل »ســـامـــســـونـــغ« للحواسيب والهواتف النقالة الذي افتتح منذ شهور قليلة عرف المصير نفسه وهكذا دواليك.
ثــمــة ســيــاحــة جـــديـــدة تـعـرفـهـا جــادة الشانزليزيه، مختلفة تماماً عن التسوق أو الجلوس في مقاهيها والاستمتاع بمناظرها. إنها سياحة الـتـقـاط صــور الـدمـار الــذي حـل بها طيلة يوم كامل، عجزت فيه الأجهزة الأمــنــيــة عــن احـــتـــواء وجــبــة مـوجـة المواجهات التي حولت الشانزليزيه لساحة حـرب بين مجموعات بالغة التنظيم والـحـركـيـة أهمها المسماة »بلاك بلوكس« والقوى الأمنية.
ورغــــــم حــشــد مـــا لا يــقــل عـــن ٥ آلاف رجـــل أمـــن، فـــإن الــوضــع أفـلـت من أيديهم تماماً، الأمر الذي يفسر الــدمــار الكبير وعـمـلـيـات التخريب والنهب والتحطيم التي قامت بها هذه المجموعات المنتمية إلى اليسار المــتــطــرف الـــخـــارج عـــن أي تـنـظـيـم. ومرة أخرى، يجد الرئيس إيمانويل ماكرون ومعه حكومة إدوار فيليب ووزير داخليته كريستوف كاستانير في موضع الاتهام، لـ »عجزهم« عن كف يد المندسين والمخربين الذين قدر الأخير عددهم بـ١٥٠٠ شخص.
كذلك، فإن صورة ماكرون يتزلج في محطة جبلية في سلسلة جبال البيرينيه بينما جادة الشانزليزيه تـحـتـرق كـــان لـهـا أســــوأ الأثــــر على الــفــرنــســيــين الـــذيـــن أغــاظــتــهــم قـبـل أسبوع مقاطع فيديو لوزير الداخلية راقـصـاً فـي أحــد المــرابــع الليلية في بـــاريـــس بــعــد يــــوم مـــن المــظــاهــرات والعنف.
إزاء هــــذه الأوضـــــــــاع، لـــم تـكـف عـودة ماكرون من منتجعه الجبلي المــتــعــجــلــة مـــســـاء الـــســـبـــت وعـــقـــده اجـتـمـاعـات مـتـلاحـقـة بـحـثـاً عــن رد »مناسب« لطمأنة الفرنسيين لجهة ســيــطــرة الــحــكــومــة عــلــى الـــوضـــع. لــذا، فـقـد طـلـب مـن رئـيـس الحكومة والـــــوزراء المـعـنـيـين أن يـقـدمـوا إليه سريعاً اقـتـراحـات جـديـدة تتناسب مع ما عرفته العاصمة وأيضاً لدرء الانتقادات التي انصبت على أدائـه وأداء حكومته مـن اليمين واليسار على السواء.
وذهــبــت بـعـض الأصــــوات مثل الناطقة باسم حزب »الجمهوريون« اليميني، لورانس ساييه، للمطالبة باستقالة وزير الداخلية لفشله في التعامل مع العنف، خصوصاً أن ما حصل يوم السبت كان منتظراً وأن المـظـاهـرات ومـا يرافقها دخلت في شهرها الـرابـع. وفـي تـغـريـدة على »فــيــســبــوك«، اتــهــم رئــيــس الـحـزب لــــــوران فـوكـيـيـه الــرئــيــس مــاكــرون بـ »العجز« وبأنه »لم يكن بمستوى التحدي«، والفشل في إيجاد الردود المـنـاسـبـة عـلـى تـفـجـر الــعــنــف. أمـا أخــطــر اتــهــام مــن الـيـمـين فـقـد جـاء عـلـى لـسـان بــرونــو روتــيــو، رئيس مجموعة أعـضـاء مجلس الشيوخ مــن »الــجــمــهــوريــون«، الـــذي اعتبر ما حصل يـوم السبت بأنه »إجـازة أعــطــيــت لــلــتــخــريــب« لـلـمـشـاغـبـين الذين اندسوا في صفوف السترات الــصــفــراء كـمـا كــل يـــوم ســبــت. ولـم يسلم ماكرون ولا حكومته من سهام اليسار الاشتراكي ولا من انتقادات رئيسة بلدية باريس، آن هيدالغو، ولا من انتقادات عامة الناس وعلى الأخــص أصـحـاب المصالح وسكان هـــذه الـــجـــادة ومـتـفـرعـاتـهـا الـذيـن سـئـمـوا تـكـرار مـشـاهـد الـعـنـف منذ ١٧ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، تاريخ انطلاقة الحركة الاحتجاجية.
فــــــي مـــــواجـــــهـــــة هـــــــــذا الـــفـــيـــض مــن الانـــتـــقـــادات، لــم يــتــردد رئـيـس الحكومة إدوار فيليب في الاعتراف بوجود »اختلالات« في عمل الأجهزة الأمنية، بينما رأى وزير الأمن لوران نوناس أنها وصلت إلى حد »الفشل« ولمح إلى الرغبة في إحداث تغييرات عــلــى رأس مـــديـــريـــة الـــشـــرطـــة فـي باريس، المسؤولة عن أمن العاصمة. ونقل عن رئيس الجمهورية قوله إن طريقة التعامل الوحيدة مع العنف هــو »الــــرد الأمــنــي« وأنـــه »لا مـجـال بـتـاتـاً لــلــحــوار مــع الـــنـــواة الـصـلـبـة المتطرفة« من المحتجين الذين سبق لـــه أن وصــفــهــم بــأبــشــع الــنــعــوت. واستدعى مجلس الشيوخ وزيـري الداخلية والاقتصاد لجلسة استماع الـيـوم فيما تـكـاثـرت الــدعــوات لمنع مظاهرات »الـسـتـرات الـصـفـراء« في كل أنحاء فرنسا.
كــان عـلـى الـحـكـومـة أن تتحرك بــســرعــة وأن تــســتــجــيــب مــــن غـيـر تأخير لما طلبه ماكرون من إجراءات جديدة تمنع تكرار ما حصل السبت المــاضــي. وبـعـد اجـتـمـاعـات مطولة شارك فيها وزراء الداخلية والعدل والأمــــــن الــداخــلــي وقــــــادة الأجــهــزة الأمـــنـــيـــة، بـــلـــور رئـــيـــس الــحــكــومــة مجموعة تدابير عرضها عصراً في مقر رئاسة الحكومة. وأولى التدابير إزاحة مدير شرطة العاصمة »الشبيه بــــالمــــحــــافــــظ« مـــيـــشـــال دلـــبـــويـــش، واستبداله بمحافظ منطقة أكيتانيا »جنوب غربي فرنسا « ديديه لالمون، مما يعني أن الحكومة تحمل الأول مـسـؤولـيـة الـعـجـز عــن الـتـعـامـل مع المتظاهرين.
كذلك أعلن فيليب عن استعداد الحكومة لمنع مظاهرات »السترات الــصــفــراء« فــي الـشـانـزيـلـيـزيـه وفـي مـدن فرنسية أخـرى »منذ أن تتوفر لدينا معلومات عن وجـود عناصر متطرفة، وعـن عزمها على اللجوء إلـــــــى الـــتـــحـــطـــيـــم«. وإضــــــافــــــة إلـــى الشانزليزيه، ذكـر فيليب منطقتين إضافيتين هما حي بي بيرلاند في مدينة بــوردو، وحـي الكابيتول في مدينة تولوز.
إضــافــة إلـــى ذلـــك، أعــلــن رئـيـس الحكومة زيـــادة الـغـرامـة المفروضة على كل من يشارك في مظاهرة غير مرخص لها كما كـان الحال السبت الماضي، بحيث ترتفع من ٣٨ يورو إلى ١٣٥ يـورو. ومن جملة ما أعلنه عزم وزارة الداخلية على طلب تدخل القضاء عند صدور دعوات من قادة السترات الصفراء للجوء إلى العنف. وميدانياً، حث فيليب القوى الأمنية على مزيد من الاعتقالات في صفوف المـحـتـجـين والـلـجـوء إلــى الـطـائـرات المسيرة (درون) لمتابعة المظاهرات وإعادة السماح باستخدام الرصاص المطاطي ضد من يرتكب أعمال عنف.
ويبقى السؤال المطروح هو: هل ستكفي هـذه الإجـــراءات؟ وكثيرون يشككون بفعاليتها. وفـي أي حال، فــإن الأنــظــار تـتـجـه مـنـذ الــيــوم إلـى مـا سيستخلصه الـرئـيـس مـاكـرون مـن »الـحـوار الوطني الكبير« الـذي أطــلــقــه والـــــــذي انــتــهــى رســمــيــاً فـي ١٥ مــن الـشـهـر الـــجـــاري. ويـتـخـوف كــثــيــرون مـــن أن تــكــون »الأجـــوبـــة« الرئاسية على ما طرحه المواطنون خـلال مئات الاجتماعات ومـن آلاف المقترحات دون المستوى المطلوب، مما سيسبب خيبة كبيرة ويقود إلى موجات جديدة من الاحتجاجات.