تركيا مع العرب... التاريخ يعيد نفسه
كــــــان أبـــــــرز مــــا اســـتـــرعـــى انــتــبــاه المتابعين للجريمة الإرهـابـيـة البشعة في مسجدين في مدينة كرايستشيرش بنيوزيلندا، تعمُّد الفاعل إظهار ما تم خطه على سلاح الجريمة. كانت عبارات تحمل وقائع تاريخية، منها الإشـارة إلــــى تــشــارلــز مـــارتـــال قــائــد الـفـرنـجـة الـذي انتصر على المسلمين في معركة بلاط الشهداء بقيادة الأمـوي الشجاع عبد الرحمن الغافقي، بعد أن وصلت الفتوحات الإسلامية إلى أوروبا للمرة الأولى. ثم ذكر الإسكندر بيرغ، الداهية الذي خدع العثمانيين بإظهاره الولاء، ثـم انـقـلـب عـلـيـهـم، إضـافـة إلــى معركة فـيـيـنـا الــتــي انـــهـــزم فـــي الـعـثـمـانـيـون هــزيــمــة غــــيّــــرت مـــجـــرى الـــتـــاريـــخ فـي أوروبا، وكان الجيش العثماني مفككاً أمام حائط الصد النمساوي - المجري، ووقـــعـــت انــشــقــاقــات بـــين قـــادتـــه عـلـى السلطة والمــال، إضافة إلـى غرقهم في السُّكر والعربدة.
يـحـاول الإرهــابــي اليميني الـقـول إن المسلمين غير مرحّب بهم في بلاده وفي الغرب، فاستدعى التاريخ ليوثق هزائم المسلمين أمامهم. ولو افترضنا أنـه اكتفى بعقد نــدوة ثقافية تتناول الــوجــود الإســلامــي فـي أوروبــــا لأمكن عــــــرض مـــعـــلـــومـــات مـــعـــاكـــســـة، وذكــــر قــيــادات لا يـنـسـاهـا الأوروبـــيـــون مثل يـوسـف بــن تـاشـفـين وغــيــره، ومـعـارك عظيمة للأمويين والمرابطين. أما الدولة العثمانية فلم تكن تطمع فـي أوروبــا فقط، بل في العالم العربي كذلك، وبدأت بالعراق، ثم استمرت في احتلال باقي المـنـطـقـة: الــشــام، والــحــجــاز، والـيـمـن، والـكـويـت، والبحرين، وقـطـر، وعمان. لكن ما قامت به الدولة العثمانية في المناطق العربية التي احتلتها لم يكن لنشر الإســلام ولا لطرد المستعمرين، وإن كــانــت هـــذه الأهـــــداف المـعـلـنـة، بل للهيمنة وتوسيع رقعة نفوذها، بدليل أنها امتهنت كرامة العرب في مناطقهم، وحاولت استعبادهم، ومارست عليهم صنوف التعذيب والــقــتــل، وحـتـى خـــطـــف الـــنـــســـاء والأولاد. وليس صـــــحـــــيـــــحـــــاً مـــا يــــذكــــره الـبـعـض أن الـعـثـمـانـيـين اضـطـهـدوا الـعـرب إبــان ضعف الـدولـة العثمانية وفساد حكامها. الصحيح أن الأتراك استخدموا العرب في معاركهم، وقمعوا من يعارضهم، وأحرقوا المدن والمـــــــــــزارع، وقـــتـــلـــوا وشــــــــردوا أهــلــهــا، ومعظم هذه الأحداث كانت قبل سقوط الدولة العثمانية بأكثر من ١٧٠ عاماً.
نــعــيــد الـــتـــذكـــيـــر بـــهـــذه الأحـــــــداث لتوضيح الدعاية المزيفة التي تحاول تــركــيــا بـثـهـا فـــي عــقــول الــعــامــة، بــأن مـسـاجـدهـا لــن تـهـاجـم فــي إسـطـنـبـول كـمـا حـصـل فــي نـيـوزيـلـنـدا، كـمـا جـاء على لسان الرئيس التركي رجب طيب إردوغـان، مستغلاً ما كتب على سلاح الجريمة. الدعاية في هذا الوقت الذي لم يتم فيه بعد دفن جثامين الضحايا ولا تسليمها لأهـالـيـهـم، هـي محاولة لا إنسانية انتهازية لإظهار أن تركيا حامية للمساجد وللمسلمين، وأوفدت أمــام الـعـالـم فريقاً للمساندة والـدعـم، ولـعـلـه يـفـيـد الـتـحـقـيـق فــي كـشـف دور الــــزيــــارات الــتــي قــــام بــهــا المــســلــح إلــى تــركــيــا. وأنــــا هـنـا أكــــرر كـلـمـة دعــايــة؛ لأنـنـا لـم نـنـس قـصـف الـقـوات التركية أتباع أي ديانة. تركيا أصبحت هجيناً بـين خطاب رسمي إسـلامـوي، وحياة اجتماعية وأخلاقية متحررة، ومواقف سياسية متناقضة، واقتصاد جريح. وهذه العوامل المتداخلة وغير المستقرة تعتبر أرضاً خصبة للخلافات الداخلية من جهة، وعقد صفقات سياسية غير بـريـئـة مــن جـهـة أخــــرى مــع جـمـاعـات متطرفة. النظام التركي الحالي وضع الـبـلاد على مفترق طـريـق؛ إمـا العمل عـلـى كـسـب الــشــارع الـعـربـي مــن بـاب الإسلام، بالخطابات الحماسية، لتشق الــصــف الـوطـنـي داخـــل كــل دولـــة، أو أن تـتـبـرأ من الــــــــجــــــــمــــــــاعــــــــات الإســـــــــــلامـــــــــــيـــــــــــة كـلـهـا بــمــا فـيـهـا »الإخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوان المسلمون« لتبرهن لأوروبا أنها مؤهلة لــلانــضــمــام إلــيــهــم. إن كــنــا منصفين فسنقول إن تركيا نجحت إبــان حكم محمد مرسي في مصر في غسل أدمغة الــكــثــيــر مـــن الــــعــــرب، حــتــى أصــبــحــوا مهووسين بعودة الخلافة العثمانية، رغـم التحرر الاجتماعي الهائل الـذي تنامى في عهد إردوغــان. لكن انهيار حكم »الإخــــوان« فـي مصر كـان إيـذانـاً بـــتـــلاحـــق الانـــــهـــــيـــــارات فـــــي تـــونـــس، والـكـويـت، والمـغـرب الـعـربـي؛ وهــذا ما أغضب إردوغان من الدول التي ساعدت