الإرهاب الأشقر و»الإحلال المقدس«
لا يـزال العالم يعيش صدمته، كل من زاويـتـه، على أثـر مذبحة نيوزيلندا، التي شاء الإرهاب عن قصد أن يخدش صورتها النقية كـثـانـي بـلـد آمــن فـي الـكـوكـب، وفـق التصنيف العالمي، ويقول لنا إنه لا مكان آمناً بعد الآن. صدمة الدول الغربية المثقلة بــأزمــة انـــدمـــاج مـواطـنـيـهـا مــن المـسـلـمـين كبيرة، فما كان يُظن أنه مجرد تصرفات لا مسؤولة لثقافة اليمين المتطرف بات اليوم يقترب من تأسيس موجة تخرج من حيز »ردة الفعل« إلـى التيار الـذي يستند إلى مرجعية فكرية، وهي المرحلة التي عاشتها الــتــنــظــيــمــات الإرهـــابـــيـــة ذات المــرجــعــيــة الإسلامية قبل أن تنتقل من فضاء الأفكار إلى التنظيم والتأطير الحزبي. الإنكار الآن، أو رمـي كـرة اللهب صـوب الـشـرق والعالم الإسلامي، لن يفيد إلا المتاجرين بالإرهاب والمنتفعين من اشتعال جذوته.
مـع كـل حـدث إرهـابـي يترسخ مفهوم أن التطرف والعنف حالة مستقرة تنتظر فـتـيـل انـفـجـار مـسـبـبـاتـهـا، ولــيــس مـجـرد احتقان أو موجة عابرة أو تصرف فردي. تختلف المرجعيات وتتباين الدوافع، لكن يظل المحرك والخطاب النظري متشابهاً، حيث التعصب لا دين له ولا مذهب، وحين قرأت »مانفستو« تارانت »الإحلال المقدس « )٧٨ صفحة)، الـذي يعتبر وثيقة في غاية الأهـــمـــيـــة، وجـــدتـــه مـتـشـابـهـاً مـــع »إدارة التوحش «، وثيقة »القاعدة« الشهيرة، وتلك قصة أخرى.
اليوم الدامي الذي وقع في نيوزيلندا، وراح ضحيته ٥٠ مصلياً وعشرات الجرحى، لم يعد كالحوادث السابقة غامضاً أو من يقف وراءه، ومـن الخطأ اعـتـبـاره تصرفاً فردياً أو أقرب إلى التصرف الفردي، كما نرى في محاولات تحجيمه في القراءات الأمنية، وذلك باعتبار الخبيريْن في ملف الإرهاب في نيوزيلندا ذاتها، جون باترسبي وبول بـوكـانـان، أن فـيـروس الإرهـــاب فـي اليمين المتطرف تحول إلـى لحظة فاصلة بعدما حدث، وأن الموارد في أجهزة الأمن أخطأت بتركيزها على التطرف الإسلاموي وإهمال الـــيـــمـــين، وهــــــذه شــجــاعــة لا تـقـل عـن تـصـريـحـات رئيسة الـوزراء الشابة التي تحدثت فـــــــي مـــــؤتـــــمـــــرهـــــا بـــطـــريـــقـــة مسؤولة جداً، وغير مسبوقة، »نـيـوزيـلـنـدا حـزيـنـة، تبحث عن إجابات«، كما قالت.
الـــــــقـــــــراءة الأمــــنــــيــــة أو الـقـانـونـيـة لا تـسـاعـد كثيراً عـــلـــى فـــهـــم ظـــــاهـــــرة لـيـسـت جـــديـــدة، وهـــي إفــــــرازات الـيـمـين المـتـطـرف وخطابه العدائي الذي يمكن لبعض أفراده مثل الشاب تارانت، الذي أكد في وثيقته أنه تأثر بمفكرين مـن اليمين الفرنسي، وأنـه خطط للعمل منذ عامين، واستشار الكثير مــن الــقــيــادات فــي الـــخـــارج، وكــــان مـتـأثـراً حتى وقت تنفيذ العملية بمناخات اليمين المتعصب فـي شــرق أوروبـــا والـبـلـقـان، أن يقتل على طريقة ألعاب الفيديو، بموسيقى »مـحـو الـكـبـاب«، الأغـنـيـة العنصرية التي تستدعي التاريخ بشكل يتطابق مع أهازيج »داعش« عن الغزوات، وهذه تفاصيل يجب ألا تــقـرأ خـــارج إطـــار المـسـؤولـيـة الـفـرديـة والقانونية التي تطال المنفذ، وتنفذ إلى جوهر المشكلة، وهو وجود مرجعية نظرية وفكرية للإرهاب تؤسس للإرهاب المتصل بالأفراد.
رد الـفـعـل تـجـاه كــارثــة الـنـرويـج كـان صادماً إذا ما نظرنا إليها من زوايا مختلفة؛ فالإعلام الغربي وقع بعد الحادث مباشرة فــي فــخ »الـتـنـمـيـط والـنـمـذجـة،« ولا تكاد تستثنى من تلك السقطة الصحف العريقة مثل »واشـنـطـن بـوسـت،« بـل حتى منافذ الإعـــلام الـجـديـد، وعـلـى رأسـهـا »تـويـتـر«، الذي زخر بتعليقات كثيرة تشير بأصابع الاتهام إلى المهاجرين المسلمين، أو تحاول تنشيط الذاكرة بواقع »الخلايا الجهادية« الـنـائـمـة فـي أحـضـان الـغـرب الدافئة!
كارثة نيوزيلندا لم تكن الأولى، نتذكر جيداً ما حدث فـــي الـــنـــرويـــج، ومـــــا يـحـدث بــشــكــل مــتــقــطــع فــــي بـــلـــدان أوروبـــيـــة كــثــيــرة، ووقــتــذاك خـــــــــاض خـــــــبـــــــراء الإرهــــــــــــاب الــغــربــيــون فـــي افـــتـــراضـــات تــــرحــــل المـــشـــكـــلـــة والأزمــــــــــة، وتعزز من تنميط الإرهاب، ومحاولة أسلمته بالقوة، أو جعله مجرد ردة فعل. هــــذه »الــنــمــذجــة« يــمــكــن فـهـمـهـا فـي السياق الغربي، وإن كانت مرفوضة، ولا يـمـكـن تـبـريـرهـا بـحـال فـي إطـــار مـا يمكن تسميته »الــعــدو الافــتــراضــي«؛ فالتاريخ الطويل من العمليات الإرهابية التي حفل بها سجل تنظيمي »القاعدة« و»داعـش«، جعل حالة الاستسهال جـزءاً مـن العيوب والــنــتــائــج الـسـلـبـيـة لمــخــرجــات الإعـــــلام، الــذي يـمـر بـتـحـولات هـائـلـة عـلـى مستوى المــصــداقــيــة، ومـرجـعـيـة الــخــبــر، وطـريـقـة نسبته للمصدر، بسبب حالة التنافسية بــين الإعــــلام الـجـديـد والـتـقـلـيـدي، لـكـن ما لا يـمـكـن فـهـمـه، فـضـلاً عــن تـبـريـره، حالة الابـتـهـاج الـتـي بــدأت تطفو على السطح، ولا تخطئها العين في التعليقات الكثيرة التي لا ترى في الحادثة النيوزيلندية أبعد من كونها صـادرة من متعصب يميني لا يعبر إلا عـن نفسه، وهـو مـا يـعـزز وجـود إشـكـالـيـة فـهـم لـــدى قــطــاعــات واســعــة من المـثـقـفـين والمـفـكـريـن لمـوضـوع »الإرهـــــاب«، وكــونــه حـالـة لا تنتمي لـلـمـجـال الـديـنـي، أو تقوم فقط على أسباب احتجاجية، أو بسبب أوضاع التهميش وضياع الحقوق، ولأسباب تتصل بالاستبداد السياسي، بل هـي آيديولوجيا متطرفة مستقلة، تعبر عــن »انــفــجــار المــكــبــوت« الــــذي يـعـبـر عنه علماء النفس ودارســو الظواهر كميشيل فوكو. نعم قد يتذرع الإرهاب بكل ما سبق ويقتبس مـنـه، لكنه يظل شـكـلاً منفصلاً عن ممارسة التعبير غير السلمي لا يمكن أن نــعــده مـتـفـهـمـاً إذا كـــان فـاعـلـه ينتمي لفضاء ديني أو فكري أو جغرافي، بينما تكون نقمة ودلالة على التعصب، وبُغض الإنسانية، إذا جاءت من الضفة الأخرى.
الآيديولوجيا المتطرفة خطاب مستقل بـذاتـه لـه مـحـدداتـه الـفـكـريـة، فـهـو يستند إلـى فكرة أحـاديـة لا تـرى في العالم سوى ذاتــهــا، وتــحــاول أن تـفـسـر الآخــريــن على رؤيتها الخاصة تلك، ومن هنا يمكن إيجاد نقاط التقاء وتقاطعات في الأدوات وآليات التفكير والتنفيذ.
الــيــوم يـجـب أن يـتـحـد الـعـالـم لإعــادة مـوضـعـة »الإرهـــــاب« فـي مـكـانـه الصحيح تعريفاً وتقنيناً، وعلى مستوى الإجراءات الأمنية والمسؤولية للفاعلين، وعلى رأسهم شبكات التواصل الاجتماعي، فما يحدث من انفلات على مستوى المحتوى العنيف غير مبرر، لا على المستوى الأخلاقي والقانوني، وحتى التقني. الكثير من الدراسات تتحدث عـن تقنية »الـخـوارزمـيـات« وقدرتها على حـجـب المــحــتــوى الـعـنـيـف أوتـومـاتـيـكـيـاً، لكن تلكؤ الكثير من المنصات هو لأسباب ترويجية وتسويقية فحسب.
هذا التطابق العجيب في ملامح العقل الإرهابي يقودنا إلى ضرورة قراءة الظاهرة في جذرها الفكري والآيديولوجي، وليس الاقـتـصـادي والاجـتـمـاعـي فحسب؛ فكثير مـن الإرهـابـيـين لا يعاني مـن أي مشكلات في هذا الاتجاه، بل إن قراءة خطابه يعكس مدى حال الاستقرار النفسي والزهو الذي مـلأ قـلـبـه، وحـتـى فـي المـحـكـمـة حـين أشـار بعلامات التفوق العنصري للبيض، وقوله إنـه لـو قـدر لـه أن يكرر مـا فعل لمـا تــردد... الإرهابيون فقدوا قيمة الحياة والوجود، وقراءة صادقة وفاحصة لاحتفالية بالموت كتلك هـي جــزء مـن إعـــادة الاعـتـبـار لقيمة النفس البشرية ولقيمة الحياة.