Asharq Al-Awsat Saudi Edition

حنين البعض إلى »عهد الفاشية«!

- جمعة بوكليب

يبدو لي أن حياة بشرية من دون قلق، أمر غير قابل للتحقق، حتى اليوم. وعلى أمل أن يتمكن التقدم العلمي من إيجاد حل له مستقبلاً، أو العثور على الجين المــــســ­ــؤول عـــنـــه، لا مـــفـــرّ لــنــا مـن التعايش معه، ولا مهرب أمامنا سوى محاولة تفهّم أسبابه، لعل ذلك يساعد على تقليل ما يخلقه في نفوسنا من توتر وكآبة. وهذا تحديداً ما هداني عقلي إليه من حلول، بعد أن اجتاجني مؤخراً قلق أربكني، بما أثاره في نفسي مــن تـوتـر وحـــزن، تـعـود أسـبـابـه إلـى تقارير إعلامية قـرأتـهـا، في عطلة نهاية الأسبوع، حول مديح أسـبـغـه، مـجـانـاً رئــيــس الـبـرلمـا­ن الأوروبـــ­ـي، الـنـائـب الإيـطـالـ­ي عن حزب »فورسا إيطاليا« أنطونيو تــايــانـ­ـي، عـلـى الــزعــيـ­ـم الـفـاشـي، الدوتشي موسوليني.

كان المديح، تحت قبة مجلس البرلمان الأوروبي، وعلى مرأى من نوابه المحترمين ومسمعهم، ممن انتخبوا للدفاع عن الديمقراطي­ة، وحماية العالم وسكانه من شرور حــــركـــ­ـات ســيــاســ­يــة، كـالـفـاشـ­يـة والنازية، ومـا والاهـا وشابهها. وعـــلـــى رغـــــم اعـــــتــ­ـــذارات تــايــانـ­ـي مــؤخــراً، إلا أن هــذه التلميحات أضرت بسمعته وخاصة ما قاله عن بنيتو وموسوليني إذ اعتبر تاياني في لقاء إذاعي مع »راديو ٢٤« أن »موسوليني عمل أشياء حسنة لبلدنا وبنيتها التحتية«. مبيناً »أنني لست فاشياً ولم أكن يـومـاً فـاشـيـاً إلا أن موسوليني أنشأ الطرقات والجسور وغيرها، لـقـد اسـتـعـاد الـكـثـيـر مـن أراضــي بلدنا، عليك أن تكون موضوعياً«.

لـــــكـــ­ــن الــــــعـ­ـــــالـــ­ـــم يــــــعــ­ــــرف أن موسوليني تسبب بحروب رهيبة في أوروبا ونفذ المجازر في ليبيا والقرن الأفريقي.

وقبل هذا صـرّح تاياني بأن أجــزاء مـن أوكـرانـيـ­ا، وأخــرى من سلوفينيا أراض إيطالية!

رئــيــس الــبــرلم­ــان الأوروبـــ­ـــي، فــي الـحـقـيـق­ـة، صـــرح عـلـنـاً، بما يــــدور فــي نــفــوس كــثــيــر­ة، داخــل الـدوائـر السياسية الحاكمة، في مــديــنــ­ة رومــــــا، حــالــيــ­اً، عـاصـمـة الفاشية الإيـطـالـ­يـة، الـتـي قادها الدوتشي، منذ بداية العشرينات إلـى قرابة منتصف الأربـــــ­عـــــيـــ­ــنـــــات مــن الــــــــ­قــــــــر­ن المــــــا­ضــــــي، حــــتــــ­ى انــــتـــ­ـهــــى بــه الوقت مسحولاً في شـــــوارع­ـــــهــــ­ـا، تـحـت أقــــدام الـرومـانـ­يـين، ومـــــعــ­ـــلـــــق­ـــــاً عــــــاري­ــــــاً بـحـبـل، فــي عـمـود، بالمقلوب.

مـا أعـنـيـه هو أن حـــزب الـرابـطـة الــشــمــ­الــيــة، الـــذي يـقـود الائــتــل­اف الـحـاكـم، بـقـيـادة زعيمه ماتيو سالفيني، والتزامه بتنفيذ بـرامـج سياسية يمينية الــتــوجـ­ـه، وشــعــبــ­ويــة مـقـيـتـة، لا يــخــتــل­ــفــون جــمــيــع­ــاً عــــن الـسـيـد انـطـونـيـ­و تـايـانـي، فـــــي مـــواقـــ­فـــهـــم مـن الفاشية، وإعجابهم بقائدها، الدوتشي، »من جعل القطارات في إيطاليا تتحرك بــمــواعـ­ـيــد دقــيــقــ­ة« حسب زعمهم.

الـسـيـد تـايـانـي يـــرى أنـــه بـالإمـكـا­ن الــفــصــ­ل، واقـعـيـاً، وببساطة، بين ما حــقــقــه الــدوتــش­ــي من إنجازات وغيرها في إيطاليا، ومـــــــا ارتــــكــ­ــبــــه مـــــن جـــــرائـ­ــــم ضـد معارضيه الإيـطـالـ­يـين، وترحيل الـيـهـود فـي الــداخــل، ومــا ارتكبه مــن مــجــازر خـارجـهـا فــي ليبيا، والصومال، وإثيوبيا، وتحالفه مع هتلر الزعيم النازي في ألمانيا.

لا أعــرف كـيـف يمكن للسيد تاياني أن يغض الطرف، متعمداً، عــن حـقـيـقـة تـاريـخـيـ­ة يستحيل تــجــاهــ­لــهــا، وهــــي أن الــدوتــش­ــي مسؤول شخصياً عن مـوت أكثر مــن ٤٠٠ ألـــف إنـــســـا­ن. ولا أدري مــن أيـــن لـلـسـيـد رئــيــس الـبـرلمـا­ن الأوروبـــ­ــــــــي أن يـــأتـــي بـمـسـطـرة مـــحـــاي­ـــدة، مـــن خــــــارج الــتــاري­ــخ، ليرسم خطاً، حدودياً فاصلاً، بين مـا حققه الدوتشي مـن إنـجـازات في إيطاليا، وما حققه من تشييد مــعــســك­ــرات اعــتــقــ­ال فـــي مـنـاطـق الـعـقـيـل­ـة والــبــري­ــقــة - والمـــقــ­ـرون بـــلـــيـ­ــيـــبـــ­ا، فـــــي فــــتــــ­رة الاحــــتـ­ـــلال الإيطالي، مخصصة لكي يُحشر داخــــلــ­ــهــــا ســــكــــ­ان مــــدنـــ­ـيــــون مـن مختلف الأعمار، وليكونوا عرضة لــلإصــاب­ــة بـــــالأم­ـــــراض وبـــالمــ­ـوت نتيجة الجوع والبرد والتعذيب! وتسببه بموت ّآلاف من ّالشباب الـلـيـبـي­ـين الــذيــن جـن ـدهـم عــنــوة، ونقلتهم سفن أسطوله، ليضعهم في مقدمة قواته الغازية لاحتلال الحبشة. مــــا قــيــمــة لـــطـــرق مُـــــــــد­ت، أو

ُ لجسور شيدت، أو لقصور رُفعت عــلــى عــمــد، مــقــابــ­ل حــيــاة بـشـر، مـــن لــحــم ودم، ُوآمــــــا­ل وأحـــــلا­م، وطـــــمــ­ـــوحـــــ­ات، قــــــبــ­ــــروا بـــــــال­آلاف لتحقيق طموحات زائفة وأمجاد بــــــائـ­ـــــدة، مـــثـــل غــــيــــ­ره مـــــن غـــلاة المستبدين الذين طغوا وتجبروا؟

وبالتأكيد، ووفقاً لما أفصح عـنـه وعــرفــنـ­ـاه، لـسـنـا فــي حـاجـة الآن، لإضــاعــة مـزيـد مــن الـوقـت، لسؤال رئيس البرلمان الأوروبـي الـسـيـد تــايــانـ­ـي، عــن رأيــــه، فيما حدث، مؤخراً، في نيوزيلندا.

لــقــد مـــــارس الـــغـــا­زي جـمـيـع صور التنكيل وسفك الدماء، لكن الغريب أننا، في ليبيا الآن، البلد الـذي أراد الدوتشي موسوليني تحويله بالقوة الاستعماري­ة إلى شاطئ رابع، يضاف إلى شواطئ إيـطـالـيـ­ا الـثـلاثـة، صـرنـا نسمع، في وضح النهار، أصـوات جوقة نــشــاز، تـتـغـنـى، مـتـحـسـرة، على أيــام فـاشـيّ آخــر، ران على قلوب الليبيين وصدورهم طيلة ما يزيد على أربعة عقود متفنناً في القمع والتنكيل والتعذيب والقتل.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia