Asharq Al-Awsat Saudi Edition

تعويذة سردية برائحة النوبة

يحيى مختار في روايته »مرافئ الروح«

- جمال القصاص

يضعنا الـروائـي يحيي مختار في روايـــتــ­ـه »مـــرافـــ­ئ الــــــرو­ح« أمــــام بـوصـلـة للتحرر والـخـلاص الإنساني مـن أوهـام النفس البشرية، وقيود الواقع، وسطوة الجهل والأعـــرا­ف والتقاليد. وببساطة مغوية، يرسم كينونة بوصلته، جامعاً في فضائها أصواتاً من الماضي والحاضر والمستقبل. تـتـواتـر هـذه الأصـــوات، مداً وجذراً، مشكلة حالة من الجدل الخصب بــين تـجـلـيـات الـحـضـور والــغــيـ­ـاب، وفـي فضاء زمني تذوب فيه الحدود، والعقد السميكة بين الخرافة والواقع، فيما تغلف الأسـطـورة الفرعونية مـنـاخـات الـروايـة بشكل شفيف، وعـلـى نحو خـاص تبرز الأسطورة »الأوزيرية«، التي ترمز، ضمن ما ترمز، إلى الصرع ما بين الخير والشر، والنظام والفوضى، والحياة بعد البعث والموت، كأن ما يحدث على أرض الواقع صـدى لتلك الأسـطـورة، بما تضمره من أجـــواء خـرافـيـة، مـا يـمـنـح الــروايــ­ة عبق »التعويذة« السردية.

تنغمس الرواية في التربة المصرية، وفي حقبة مضطربة سياسياً، حيث زمن الاحتلال الإنجليزي لمصر، ومحاولة مد سـطـوتـه عـلـى الــســودا­ن، والمــجــا­زر التي ارتكبها لتصفية المقاومة الشعبية له في الجنوب، خصوصاً في السودان، وأيضاً مقاومة هجمات جماعة الدراويش التي تحاول اختراق الحدود المصرية، ِّوهو ما ينعكس على أحوال »الجنينة والش باك ،« إحـــدى الــقــرى الـنـوبـيـ­ة الـقـابـعـ­ة فــي تلك المـنـطـقـ­ة، ومـسـقـط رأس الــكــاتـ­ـب، الـتـي تشكل الرحم المكاني للرواية، بشخوصها وعوالمها المبثوثة وسط شواهد من تراث الحضارة الفرعونية، ما يجعلنا أيضاً أمام ترحال في الزمان، وثقافة أثر لا يزال شاهداً على شموخ الأجداد وحكمتهم في إعلاء قيم التسامح، والحرية والعدل، بين أبـنـاء الـوطـن، دون تمييز على مستوى الـعـرق والـلـون والـعـقـيـ­دة؛ يطالعنا هذا فــي رحــلــة حــس بــــورس، وصـديـقـه عبد الــلــه ســــراج إلـــى الــجــنــ­وب، وزيـارتـهـ­مـا لـلـكـاتـد­رائـيـة الأثـريـة الـعـريـقـ­ة، ونـظـرات الاحترام التي تشع منهما لهذا التراث.

وبلغة مشرّبة بطاقة الشعر، وفضاء الصورة البصرية، يبدو السارد محايداً، حريصاً على أن يمنح شخوصه حريتهم، ويــراقــب­ــهــم بـحـيـاد تــــام، كــأنــه قــارئ ضمني يستمتع بمكونات حكاياته، ومـنـحـنـي­ـات صـعـودهـا وهـبـوطـهـ­ا، درامـيـاً ونفسياً، مـراقـبـاً بشغف أثر ذلـك على تقلباتهم وصراعاتهم مع ذواتهم، وواقعهم الشائك الذي أصبح بمثابة مسرح للأساطير والحكايات الخرافية.

يـمـثـل الـشـيـخ حـسـن أبـــو جلابية (حسن الفقير)، الفقيه في علوم الدين، صــاحــب الــبــصــ­يــرة الــنــافـ­ـذة والــخــات­ــم المــــســ­ــحــــور، والـــــكـ­ــــرامـــ­ــات الـــتـــي تـشـبـه المعجزة، مركز إنتاج الدلالة في النص، فـمـنـه وإلـيـه تـخـرج وتـعـود الـحـكـايـ­ات؛ يـعـزز ذلــك أنــه يتمتع بـمـخـزون لا ينفد مـن الـعـلـم والـخـبـرة، يـوظـفـه فـي تنويع الـحـكـايـ­ات وطــرائــق تشكيلها، معرفياً وخـيـالـيـ­اً، واسـتـبـصـ­ار مــا وراءهـــــ­ا من إشــارات وعـلامـات ورمــوز، ومـا تضمره مــن الـحـكـمـة والــعــبـ­ـرة المـــرجــ­ـوة، ومــدى ارتباطها بمسائل النفس والروح والبدن، ومصير الإنسان في الحياة وما بعدها.

ينفتح المنظور الـروائـي على صراع خفي ما بين الواقع والخرافة والأسطورة، تتجلى فيه كرامات الشيخ حسن، وتصل إلــى الـحـد الـــذي تـبـدو فـيـه نـــوازع الشك الـعـابـرة فـي عـدم تصديقها هـي بمثابة الـصـدق نـفـسـه، فمهابة الـرجـل وأفـعـالـه الخارقة، وما يملكه من رصانة وحصافة في بسط أفكاره ورؤاه بسلاسة وتلقائية، يـصـل بــه إلـــى حــد الـتـقـديـ­س والــتــبـ­ـرك، بـل يضعه أحـيـانـاً فـي مـصـاف الأنـبـيـا­ء وأولـيـاء الله الصالحين المكشوف عنهم الـحـجـب... يـرسـم الــــراوي صــورة شيقة لـلـشـيـخ حـسـن عـلـى هـــذا الـنـحـو، قـائـلاً فــي ص (١٠:( »أدرك الـشـيـخ حـسـن أبـو جلابية أنه من الحصافة ألا يراجع أهله أو يكذبهم فيما يدعونه عليه من قدرات ونــــبـــ­ـوءات وخــــــوا­رق يــأتــيــ­هــا... عـنـدمـا لاحـظ ازديــاد تشبثهم برؤيتهم له على النحو الذي يريدونه أو يحلمون به. كان مدركاً حاجتهم تلك، الأمـر الـذي وضعه دائــمــاً فــي مــوضــع مــن الــحــيــ­رة والألــــم. بعناء شديد أوقـف عـادة تقبيلهم ليده وملابسه، وبعضهم ما زال يتبعه أينما ذهـب، ويسير خلفه ليجمع حفنات من التراب من تحت قدميه ليصرها صرراً، ويوزعها حجاباً واقياً من كل شر.«

تشير كلمة »يـدعـونـه«، بضميرها المتصل فـي هـذا الـبـورتـر­يـه، إلـى أحـوال الـــبـــا­طـــن والـــظـــ­اهـــر، وعـــلاقــ­ـة الآخــــــ­ر أو الآخرين بهما، فمعرفة ما يرشح بينهما هـي مـن الأســـرار العليا؛ إنـهـا فيض من الـعـطـاء الـربـانـي، كـمـا أن الـظـاهـر ليس منوطاً بستر الباطن أو هتكه، وكشف ما بداخله... ومن ثم، فظاهر الشيخ حسن هو باطنه، وعلى الناس، بحسب تعبير حــســن بـــــورس صــديــقــ­ه المـــقـــ­رب ورفــيــق طـفـولـتـه، »نــعــم، عـلـيـهـم أن يستبطنوا المعاني التي سوف يسوقها هو إليهم«. لا يمكن أن نغفل هنا أن ثمة غلالة صوفية مثقلة بالدلالات والرموز يتشرب بــهــا إيـــقـــا­ع الـــســـر­د، ويــوظــفـ­ـهــا الـكـاتـب فــي تـوسـيـع وتــنــويـ­ـع الــفــضــ­اء الـزمـنـي والمكاني للنص، ليصبح مـرآة تنعكس عـلـى صفحتها مـلامـح مـرثـيـة إنسانية ملتاعة، تتخطى لحظتها الزمنية إلى تخوم اللحظة الحاضرة. يقول الـسـارد، فـي ترنيمة سردية أشــــبـــ­ـه بـــمـــنـ­ــولـــوج داخـــــلـ­ــــي مـــوجـــع، مستشرفاً مغبة الاحـتـلال الإنجليزي للبلاد (مصر والــســود­ان)، وكـأن هذه الـتـرنـيـ­مـة صــرخــة مـعـلـقـة فــي سقف الزمن على واقع الحال الراهن؛ يقول الـسـارد، الكاتب: »بـلادنـا التي لم ترَ الأمان قط، ورغم ذلك كانت منصرفة إلى حياتها القاسية والفقيرة لا تكف عن العمل... أصبحت الآن موحشة... بلادنا الزاخرة بالمعابد والأضرحة، أصبحت تشغى بالجثث والمــآتــ­م، كم من الشهداء في ظلك قد قتلوا، وما زالوا يـقـتـلـون فــي المــعــار­ك الــدائــر­ة حـتـى الآن فــي الـخـرطـوم وأم درمــــان والــجــزي­ــرة... والنيل الذي كان مقدساً خضبته الدماء، وستأتي الدميرة (الفيضان) العام المقبل محملة بالقيح. لن يبقى من بلادنا شيء يـــروى عــن حكمتها إلا شــواهــد الـقـبـور القديمة .«

تـبـدو هــذه الـقـبـور الـقـديـمـ­ة وكأنها المـلاذ الآمـن، ونقط تحول الـروح للحياة الأخـــــر­ى؛ تـتـكـثـف هـــذه الــرؤيــة صـعـوداً وهـبـوطـاً فــي مـــــدارا­ت الــزمــن والـخـرافـ­ة والــــــو­اقــــــع، تـــعـــزز­هـــا جــدلــيــ­ة الــحــضــ­ور والـغـيـاب الـتـي تـشـد خـيـوط الـسـرد إلـى مقاربات شيقة لفكرة الحقيقة، فكلاهما يشكل ظلالها، لكنه ظل مراوغاً أمام لغز الروح وقوتها الخفية... يتجلى هذا على نحو مـربـك ومـضـطـرب، مستعصٍ على الإدراك والفهم لمحاولة تقصى ما تم في رحلة الشيخ حسن إلى البر الغربي، وهل فعلاً غاص في أعماق الأرض، وجاس في عالم المـوتـى، ثم ما حقيقة الـقـارب الذي أوصله إلى الشط، ثم اختفى فجأة مثلما ظهر، والمعركة التي دارت في النهر، وفقد فيها عينه اليسرى، ثم موته بعد عودته إلى الديار في البر الشرقي، ثم في غبار ذلك يفقد حفيده سلامة عبد السيد نظره، بـعـد أن رأى جــده وهــو يـصـطـاد السمك من النهر، وكأنه بعد هذه الرؤية لن يرى شيئاً، لأنه قد رأى كل شيء... ص (٣٦.(

يـمـوت الشيخ حـسـن، لكن حضوره وقـصـصـه وكــرامــا­تــه وأفــعــال­ــه الـخـارقـة وروائحه تظل تملأ المكان؛ إنه الحضور بالروح، بالغياب، بالخرافة، عوضاً عن الحضور المـادي بالجسد. وتحت مظلة العمى المبصر، تمتد حياته وكراماته في حفيدة، بعد أن أورثــه الخلعة، وأعطاه »ركـــوتـــ­ه« ونـــايـــ­ه، فــصــار مـنـشـد الـقـريـة والقرى المجاورة، الذي يستطيع أن يحرك الناس جسداً وروحاً على إيقاعات الناي والأشـــعـ­ــار، وذاعــــت شـهـرتـه فــي الآفـــاق، وأصــبــح يـنـظـر لــه عـلـى أنــه قـريـن جــده، وخــازن أســـراره، فهو كما يصفه النص ص (٧١:( »لا يتعثر في حفرة، أو نتوءة صغيرة، أو يترك باباً لــدار لـم يقصده، كأن عصاه عين يرى بها، ذاكرته ما زالت تـحـفـظ مــشــاهــ­ده الــســابـ­ـقــة، فتبسطها أمامه، ويستدعي مخزونها عند الحاجة، وعلى هذا كان قيامه وجلوسه، خروجه ودخــولــه، واشـتـبـاك­ـه مـع الـحـيـاة حوله، تـعـامـل مـعـه الـقـوم عـلـى أنــه مـبـصـر، بل أكثر بصراً من بعضهم«، بل كانت حاسة الشك لديه وحساسية الرائحة بمثابة لغة خاصة لديه أيضاً (ص ٧٢.(

ومثلما كان موت الشيخ حسن أشبه بــالمــعـ­ـجــزة، كـــان أيــضــاً اخــتــفــ­اء حـفـيـده ومغادرته عالم الإنشاد إلى غير رجعه، بعد أن غنى أنشودته الأخيرة التي خلبت أفئدة وقلوب مريديه، التي يقول فيها: »مــا ضــاع لسانكم وأنـتـم بــهــا... عليكم بــــــالأ­رض والـــنـــ­هـــر... لا تـجـعـلـوا الـنـهـر شاطئاً، ولا الأرض خـرابـاً... انـعِ يا قلب تلك الأرض التي منها نشأت.«

يـخـتـفـي الــحــفــ­يــد، ولا أحــــد يـجـزم بـوفـاتـه ولا أنــه حــي، لـكـن يـبـقـى صـوت نايه بوصلة الأمل إلى »مرافئ الروح« مرافقاً النوبيين في لحظات التهجير إلى الأرض الجديدة.

تنغمس الرواية في التربة المصرية وفي حقبة مضطربة سياسياً حيث زمن الاحتلال الإنجليزي لمصر ومحاولة مد سطوته على السودان والمجازر التي ارتكبها لتصفية المقاومة الشعبية له في الجنوب خصوصاً في السودان

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia