شارل نصار ينحت الجمال في شظايا الحرب
يحوّل من خلالها الذكريات المرّة إلى حلوة
من قذائف »الإينرغا« و»آر بي جـي« و»هـــاون ٢٤٠« والـراجـمـات وغيرها من أنـواع الأسلحة التي استعملت على أرض لبنان، في مــعــارك مـخـتـلـفـة، اخــتــار الـفـنـان شــــارل نــصّــار مــــواد مـنـحـوتـاتـه. ومــن شـظـايـا هــذه الـقـذائـف التي لملمها عـلـى مــدى سـنـين طويلة، كـــان أحــدثــهــا فــي »حــــرب تـمـوز« و»ّنــهــر الـــبـــارد«، ابـتـكـر أسـلـوبـه فـي الـن ـحـت، ً هـو الـــذي يـعـمـل في الحدادة مهنة أساسية له. »كنت لا أزال شاباً في مقتبل العمر عندما رحت أجمع شظايا قذائف الحرب التي كانت تنهال علينا في منطقة الأشــرفــيــة حــيــث أســـكـــن«، يـقـول شارل نصار في حديث لـ »الشرق الأوسط«. ويضيف: »يومها كنت أجمعها من دون هدف معيّن، بل كـانـت نـوعـاً مـن الـحـشـريـة، وبلغ
ّ وزنـهـا بـالأطـنـان. ولأنــنــي أعمل فـي مهنة الــحــدادة، رحــت أقولب هـــــذه الــشــظــايــا بــطــريــقــة فـنـيـة. فكنت أرغب في تحويل الذكريات السوداء التي عشناها في فترات متقطّعة إلى بيضاء تحمل الأمل والجمال«.
ّ شارل الذي يفضل أن يدعونه باسم مهنته الأساسية (الحداد) كـونـه يفتخر بـهـا، اسـتـطـاع بين لـيـلـة وضـحـاهـا أن يــؤســس لفن تشكيلي جـديـد مـن نـوعـه، فـذاع صيته ليصل إلى فرنسا وألمانيا
ّ وكـــنـــدا وغـــيـــرهـــا. »حــالــيــا أنــفــذ منحوتة (الأرزة) التي طلبها مني لبناني يعيش في كندا. وعندما شــــاركــــت فــــي مـــعـــرض (أســـبـــوع الــــتــــراث الــلــبــنــانــي) فـــي بــاريــس مــنــذ نــحــو الـــســـنـــة، اسـتـقـطـبـت مــنــحــوتــاتــي الـلـبـنـانـيـين الــذيــن يعيشون هناك منذ اندلاع الحرب. لـم يـحـبـذوا الـفـكـرة بــدايــة، ولكن عندما شرحت لهم هدفها، وهو أن أحولها من ذكـرى سلبية إلى إيجابية أمحو غبار الحرب عنها بمنحوتة فنية، أعجبوا بالأمر، وراحوا يتهافتون على شرائها«.
نحو ١٥٠ قطعة فنية يعرض شــــــارل نـــصـــار قــســمــاً مــنــهــا فـي الـــبـــاحـــة الـــخـــارجـــيـــة لمــنــزلــه فـي رمحالا (قرية في قضاء عاليه)، فيما آثـر أن يعرض القسم الآخر فـي قـبـو حـجـري يـعـود إلــى جـدّه ويقع تحت الأرض.
وفـــــي مــنــحــوتــات تــجــريــديــة تمثل الخيل وطير البوم، وأخرى استلهمها من ذاكرته الطفولية، وتـــصـــور جــــــدّه وهـــــو يــعــمــل فـي المزرعة، أو صديق والـده يمارس هــــوايــــة صـــيـــد الـــســـمـــك، تــتــألــف مـجـمـوعـتـه الـفـنـيـة الـــيـــوم. »لـقـد
ّ نفذت نحو ٢٥٠ قطعة، بعت قسماً منها، فيما القسم الباقي أعرضه فــي بـاحـة مـنـزلـي الـخـارجـيـة في رمحالا. وهي تشكّل مصدر رزق إضــافــي إلـــى مـهـنـتـي الأسـاسـيـة مـنـذ بـدايـاتـي حـتـى الـيـوم. فـأول منحوتة صنعتها كانت (مغارة الميلاد) في منزلنا في الأشرفية، يومها لـم نكن نملك ثمن مغارة جــاهــزة، فـطـبـقـت المــثــل المــعــروف (الـحـاجـة أم الاخــتــراع)، وبعدها كـــرّت الـسـبـحـة لـتـصـبـح مطلوبة من معارض مختلفة.«
اليوم وفي ثكنة فوج الأشغال فـــي مـنـطـقـة الــفــيــاضــيــة، يـرتـفـع نـــصـــب تــــــذكــــــاري بــــطــــول ثــلاثــة أمتار قدّمه شارل تحية تكريمية للجيش اللبناني. ولكن ألا يحلم بــصــنــع مــعــلــم ســـيـــاحـــي يــخــلّــد فـنـه؟ يــرد: »لا أحـب أن أستعطي المـسـاعـدة مـن أحـــد، وفــي المـقـابـل لم ترسل ورائـي أي جهة رسمية للقيام بذلك. فبرج إيفل الذي يعد أشهر وجهات السياحة في العالم صـنـعـه أحـــد الــحــداديــن. وكـونـي
ّ أقوم بالمهنة نفسها، فإنني أطمح إلى تنفيذ معلم مماثل في لبنان قـد يـأخـذ شـكـل الأرزة أو جـبـران خليل جبران وغيرهما من رموز لبنان المعروفة«. وفي باحة منزله فـي قريته الأم رمـحـالا، ستتنقل في معرض يقام في الهواء الطلق بين منحوتة لبائع كعك ولعازف كمان وراقصة فلامينكو ولسيدة تــخــبــز عـــلـــى الـــــصـــــاج وغــيــرهــا مــن رمـــوز الــتــراث الـلـبـنـانـي. »لا أفـكـر مسبقاً بالقطعة الـتـي أريـد تنفيذها، إذ ّ أستلهم موضوعها مـن شـكـل الـشـظـيـة الـتـي هـي بين يــدي. وعـنـدمـا تكتمل فـي رأسـي أبـــــدأ فـــي تـركـيـبـهـا وتـلـحـيـمـهـا.
ّ وأنـــســـى تــمــامــاً أن ـــهـــا شـظـايـا أسلحة حربية فأذوب في عملي إلى آخر نفس، لأنّ ذكرى الحرب في تلك اللحظات تذهب إلى غير ّرجعة، ليحلّ مكانها جمالية فن النحت ومهنة الحدادة،« يختم شــارل نـصـار حديثه لـ »الشرق الأوسط .«