ﻣﺎ اﻹﻧﺴﺎن؟... ﺳﺆال اﻟﻜﻴﻨﻮﻧﺔ
ﻟﻌﻞ اﻟﺴﺆال ﻋﻦ ﻣﺎﻫﻴﺔ اﻹﻧﺴﺎن أﺣﺪ أﺻﻌﺐ اﻷﺳﺌﻠﺔ وأﻳﺴﺮﻫﺎ، أﻋﻘﺪﻫﺎ وأوﺿﺤﻬﺎ ﻓﻲ آن. إﻧﻪ ﻣﻴﺴﻮر وواﺿﺢ ﻟﻮ ﻗﻨﻌﻨﺎ ﺑﺘﻌﺮﻳﻔﻪ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻲ، ﺣﻴﺚ اﻹﻧﺴﺎن ﻫﻮ ذﻟﻚ اﻟﻜﺎﺋﻦ اﻟﻀﻌﻴﻒ، اﻟـﺬي ﻳﻮﻟﺪ ﺟﻨﻴﻨﴼ، وﻳﺼﻴﺮ رﺿﻴﻌﴼ ﻳﺤﺘﺎج إﻟﻰ ﺣﻀﺎﻧﺔ ﺷﺎﻣﻠﺔ، ﻗﺒﻞ أن ﻳﺼﺒﺢ ﻃﻔﻼ ﻳﺤﺘﺎج إﻟﻰ ﺗﺮﺑﻴﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ وﺗﻌﻠﻴﻢ ﺷﺎق، ﺛﻢ ﺷﺎﺑﴼ ﻓﺮﺟﻼ ذا ﺟﺴﺪ أﻗﻮى ﻗﻴﺎﺳﴼ إﻟﻰ ﻃﻔﻮﻟﺘﻪ، ﻟﻜﻨﻪ أوﻫﻰ ﺑﺎﻟﻘﻴﺎس إﻟﻰ ﻏﻴﺮه ﻣﻦ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت. ﻓﺈذا ﻃﻤﺤﻨﺎ إﻟﻰ ﺗﻌﺮﻳﻒ ﺳﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻲ وأﺧﻼﻗﻲ أﺻﺒﺢ اﻷﻣﺮ ﺻﻌﺒﴼ، ﻷن اﻟﻬﺸﺎﺷﺔ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎن ﻳﻘﺎﺑﻠﻬﺎ ﺗﻌﻘﻴﺪ ﻛﺒﻴﺮ ﻓﻲ ﺗﻜﻮﻳﻨﻪ اﻟﺴﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻲ وﺣـﻀـﻮره اﻷﺧـﻼﻗـﻲ، ﻳﺜﻴﺮ اﻟﺘﺒﺎﻳﻦ ﺣﻮﻟﻪ واﻻﺧﺘﻼف ﻋــﻠــﻴــﻪ. ﻓــﺎﻟــﺒــﻌــﺾ ﻳـــﻨـــﻈـــﺮون إﻟـــﻴـــﻪ ﺑـــﺎﻋـــﺘـــﺒـــﺎره اﻟـﺨـﻠـﻴـﻔـﺔ اﻷرﺿﻲ اﻟﺬي ﺧﺼﻪ اﻟﻠﻪ ﺑﺘﻠﻘﻲ اﻟﻮﺣﻲ وﻋﻤﺎرة اﻷرض. واﻟﺒﻌﺾ اﻵﺧـــﺮ ﻳـــﺮاه ذﻟــﻚ اﻟﻜﺎﺋﻦ اﻟﻮﺛﻨﻲ اﻟــﺬي ﻃﺎﳌﺎ ﻋﺒﺪ اﻷﺻﻨﺎم وأﻧــــﻜــــﺮ اﻹﻟـــــــﻪ. واﻟـــﺒـــﻌـــﺾ اﻟــﺜــﺎﻟــﺚ ﻳـــــــﺮاه ﻣـــﺘـــﻮﺣـــﺸـــﴼ ﻗـــﺘـــﻞ اﳌــﺨــﺘــﻠــﻔــﲔ ﻋــﻨــﻪ ﻟــﻴــﺮﺿــﻲ إﺣــﺴــﺎﺳــﻪ ﺑــﺎﻟــﻘــﻮة، أو ﺣﺘﻰ وﻏـــﺪﴽ ﺗﺪﻓﻌﻪ اﻟـﺮﻏـﺒـﺔ ﻓﻲ اﻟــﺘــﻤــﻠــﻚ إﻟـــــﻰ ﺧـــﻴـــﺎﻧـــﺔ ﺑـــﻨـــﻲ وﻃــﻨــﻪ ودﻳﻨﻪ ورﺑﻤﺎ اﻟﺘﺨﻠﻲ ﻋﻦ ﻋﺎﺋﻠﺘﻪ. واﻟﺒﻌﺾ اﻟـﺮاﺑـﻊ ﻳــﺮاه ذﻟـﻚ اﻟﻜﺎﺋﻦ اﻟﻨﺒﻴﻞ، اﻟﺬي ﺑﺬل ﺟﻬﻮدﴽ ﻣﻀﻨﻴﺔ ﻋﺒﺮ أﺟﻴﺎل ﻣﺘﻮاﻟﻴﺔ ﻓﻲ رﻓـﻊ راﻳﺔ اﻟــﻌــﻤــﺮان واﻟــﺘــﻤــﺪن وﺣـﻤـﻞ ﻣﺸﻌﻞ اﻻﺳﺘﻨﺎرة واﻟﺘﻘﺪم. واﻟﻐﺮﻳﺐ ﻓﻲ اﻷﻣﺮ أن اﻹﻧﺴﺎن ﻫﻮ ﻛﻞ ذﻟﻚ، ﻓﻬﻮ اﳌﻼك واﻟﺸﻴﻄﺎن، وﻣﺎ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻣﻦ أﻟﻮان اﻟﻄﻴﻒ.
إﻧـــــﻪ اﳌـــﺨـــﻠـــﻮق اﳌـــﻌـــﻘـــﺪ، اﻟــــﺬي ﻳﻨﻄﻮي ﻟﻴﺲ ﻓﻘﻂ ﻋﻠﻰ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺨﻼﻳﺎ واﻷﻋﺼﺎب واﻟﺮﻏﺒﺎت، ﻛـﻤـﺎ ﻳـﺰﻋـﻢ اﳌـــﺎدﻳـــﻮن، وﻻ ﻳﻘﺘﺼﺮ ﺳـــــﻠـــــﻮﻛـــــﻪ ﻋـــــﻠـــــﻰ ردود اﻷﻓــــــﻌــــــﺎل اﻟﺸﺮﻃﻴﺔ، ﻛﻤﺎ ﻳﺪﻋﻲ اﻟﺴﻠﻮﻛﻴﻮن، وﻻ ﻳﻘﺘﺼﺮ ﻋﻘﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﻣﺠﺮد ﻣﺦ ﻣــــﺎدي ﻳـﻌـﻜـﺲ اﻟـــﻮاﻗـــﻊ ﺑـﺤـﺬاﻓـﻴـﺮه ﻛــــﺂﻟــــﺔ ﻓــــﻮﺗــــﻮﻏــــﺮاﻓــــﻴــــﺔ، ﻛــــﻤــــﺎ ﻳــــﺮى اﻟــــﺘــــﺠــــﺮﻳــــﺒــــﻴــــﻮن، ﺑــــــﻞ إﻧــــــــﻪ ﻳــﻤــﻠــﻚ وﻋـــﻴـــﴼ ﻣـــﺮﻛـــﺒـــﴼ وﺧــــﻴــــﺎﻻ ﺧـــﻼﻗـــﴼ ذا ﻗـــﺪرة ﺗـﻮﻟـﻴـﺪﻳـﺔ، ﻗـــﺎدرﴽ ﻋﻠﻰ اﻟﻔﻬﻢ واﻟـــﺘـــﺤـــﻠـــﻴـــﻞ ﻋـــﺒـــﺮ اﻻﺳــــــﺘــــــﺪﻻل أو اﻟـــﺘـــﺠـــﺮﻳـــﺐ، إذ ﻳــﺒــﻘــﻲ ﻫــــﺬا اﻟـﻌـﻘـﻞ وﻳــﺴــﺘــﺒــﻌــﺪ ﻣـــﻦ اﳌـــﻌـــﻠـــﻮﻣـــﺎت، ﻛﻤﺎ ﻳـــﻬـــﻤـــﺶ وﻳـــــﺮﻛـــــﺰ ﻣــــﻦ اﻷﻓـــــﻜـــــﺎر ﻣـﺎ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﻣــﻦ ﻓـﻬـﻢ اﻟــﻮاﻗــﻊ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ واﻻﺟــﺘــﻤــﺎﻋــﻲ ﻋـﺒـﺮ ذاﺗــــﻪ اﻟﺤﺎﻓﻠﺔ ﺑﺎﻷﺷﻮاق واﳌﻌﺎﻧﻲ واﻟﺬﻛﺮﻳﺎت.
وﻫـﻮ اﻟﻜﺎﺋﻦ اﻟــﺬي ﻳﻄﻤﺢ إﻟﻰ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ رﻏﻢ اﻧﻄﻮاﺋﻪ ﻋﻠﻰ ﺣﺲ اﻟـــﻐـــﺮﻳـــﺰة، إذ ﺗــﺪﻓــﻌــﻪ اﳌــﻨــﻈــﻮﻣــﺎت اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ واﻟﺮﻣﺰﻳﺔ اﳌﺤﻴﻄﺔ ﺑﻪ ﻓﻲ ﻛــﻞ ﻣـﻜـﺎن وزﻣـــﺎن إﻟــﻰ اﻟﺨﺠﻞ ﻣﻦ ﺣﺴﻴﺘﻪ، وإﻟﻰ اﻟﺮﻏﺒﺔ ﻓﻲ اﻟﺘﺴﺎﻣﻲ ﻋﻠﻴﻬﺎ، وﻟــﻮ أﺧﻔﻖ أﺣﻴﺎﻧﴼ، وذﻟـﻚ ﻓﻲ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻻ ﺗﺘﻮﻗﻒ وﻻ ﺗﻨﺘﻬﻲ ﻟــﺘــﺠــﺎوز ﺣـــﺲ اﻟــــﻀــــﺮورة اﻟـﻘـﺎﻫـﺮ إﻟﻰ أﻓﻖ اﻟﺤﺮﻳﺔ اﻟﺸﺎﻣﻞ. وﻣﻦ ﺛﻢ ﻳﺒﻘﻰ اﻟﻔﺎرق ﺷﺎﺳﻌﴼ ﺑﲔ اﻹﻧﺴﺎن وﻣﺎ ﻋـﺪاه ﻣﻦ ﻣﻮﺟﻮدات ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ أو ﻛﺎﺋﻨﺎت ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ. ﻓﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻻ ﺗﻤﻠﻚ ﻓـﻜـﺮﴽ أو ﻗـﺼـﺪﴽ، ﻻ ﺗﻌﺮف اﻟﺨﻴﺮ أو اﻟﺸﺮ، ﺑﻞ ﺗﺨﻀﻊ ﻟﻘﻮاﻧﲔ ﺣﺘﻤﻴﺔ ﺗﺘﺤﻜﻢ ﻓﻲ ﻇﻮاﻫﺮﻫﺎ، وﻣﻦ ﺛــﻢ ﻳــﺠــﺮي اﻟــﺘــﺤــﻮل ﻓـﻴـﻬـﺎ ﺑﻄﻴﺌﴼ، وﻓﻖ ﻧﻈﺎم ﺻﺎرم ودورات ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ﻃــــﻮﻳــــﻠــــﺔ. أﻣـــــــﺎ اﻹﻧــــــﺴــــــﺎن ﻓــﻴــﻔــﻜــﺮ، وﻳــﻘــﺼــﺪ ﺑــﻔــﻜــﺮه ﺗـﺤـﻘـﻴـﻖ أﻫــــﺪاف وﺑﻠﻮغ ﻏﺎﻳﺎت. ﻟﺬا ﺗﺨﻀﻊ ﺟﻤﻴﻊ اﻟــــﻈــــﻮاﻫــــﺮ اﻻﺟـــﺘـــﻤـــﺎﻋـــﻴـــﺔ ﻟـﻠـﺘـﻐـﻴـﺮ اﻟﺴﺮﻳﻊ واﻟﺘﺤﻮل اﳌﺪﻫﺶ، وﺗﺘﻤﺮد ﻋـﻠـﻰ اﻟـﻘـﺴـﺮ ﻓــﻲ ﻗــﻮاﻟــﺐ ﻣﻐﻠﻘﺔ أو اﻟﺨﻀﻮع ﻟﺘﺼﻮرات ﺣﺘﻤﻴﺔ.
وﻣـــــﻦ ﻫــــﻨــــﺎ، ﺑـــــــﺮزت اﻟــﺜــﻨــﺎﺋــﻴــﺔ اﻟﻮﺟﻮدﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻋﺒﺮ ﻋﻨﻬﺎ دﻳﻜﺎرت ﻣﻔﺘﺘﺤﴼ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﺑﺎﻟﻔﻜﺮ واﻻﻣــﺘــﺪاد، ووﺿﻌﺘﻬﺎ اﻟﻔﻠﺴﻔﺎت اﳌـــــــﻌـــــــﺎﺻـــــــﺮة ﻓــــــــﻲ ﻗــــــﺎﻟــــــﺐ اﻟــــــــــﺬات واﳌﻮﺿﻮع، اﻹﻧﺴﺎن ﻫﻮ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﺬي ﻳﻤﺎرس ﻣﻦ ﺧﻼل ذات ﺗﺘﺄﻣﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ اﳌﻤﺘﺪ، ﺗﻔﺤﺼﻪ وﺗﻤﺤﺼﻪ وﺗﻨﻘﺪه، أي ﺗﻌﺮﻓﻪ.
ورﻏﻢ أن اﻟﻔﺎرق ﺑﲔ اﻹﻧﺴﺎن واﻟﺤﻴﻮان ﻳﻈﻞ أﺿﻴﻖ ﻣﻨﻪ ﻣﻊ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ، ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻈﻞ ﻓﺎرﻗﴼ وﺟﻮدﻳﴼ رﻏﻢ أي ﺗﺸﺎﺑﻪ ﻓﺴﻴﻮﻟﻮﺟﻲ؛ ﺣﻴﺚ ﺗﻔﺘﻘﺪ أﻛﺜﺮ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت رﻗـﻴـﴼ إﻟــﻰ ﻣﻤﻜﻨﺎت اﻟﺘﺴﺎﻣﻲ اﻷﺧــﻼﻗــﻲ، ﻓــﻼ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﺑﲔ اﻟﻈﻠﻢ واﻟﻌﺪل، اﻟﺠﻤﻴﻞ واﻟﻘﺒﻴﺢ، ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺤﻴﺎ اﻹﻧﺴﺎن ﻓﻲ ﻓﻠﻜﻬﺎ، ﻳﺪرﻛﻬﺎ وﻳﻔﻬﻤﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻋﺠﺰ ﻋﻦ ﻣﻤﺎرﺳﺘﻬﺎ. وﻓﻴﻤﺎ ﺗﻌﻴﺶ أرﻗﻰ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ﻓﻲ اﻟﺤﺎﺿﺮ وﺣﺪه ﺑﻼ وﻋﻲ ﺗﺎرﻳﺨﻲ، ﻳﻌﻴﺶ اﻹﻧﺴﺎن ﻓﻲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﺑﻜﻞ أﺑﻌﺎده، إذ ﻳﺘﺠﺬر ﻓﻲ ﻣﻌﻄﻴﺎت اﻟﺤﺎﺿﺮ وﻫﻮ ﻳﺴﺘﻌﺪ ﻟﺨﻮض اﳌﺴﺘﻘﺒﻞ، ﺑﻨﺎء ﻋﻠﻰ ﺧﺒﺮات اﳌﺎﺿﻲ، ﻓﻴﺘﺼﺮف وﻓﻘﴼ ﻟﺤﻜﻢ ﻣﺄﺛﻮرة، أو ﻳﻨﻔﺬ ﺧﻄﻄﴼ ﻣﺪروﺳﺔ، اﺳﺘﻌﺪادﴽ ﻷزﻣﻨﺔ ﻗﺪ ﻻ ﻳﻌﻴﺶ ﺣﺘﻰ ﻳﺮاﻫﺎ وإﻧﻤﺎ ﻳﺘﺨﻴﻠﻬﺎ. ورﺑﻤﺎ ﻛــﺎن اﻟـﺤـﻴـﻮان ﻳﺨﺎف ﻛـﺎﻹﻧـﺴـﺎن، ﻏﻴﺮ أﻧــﻪ ذﻟــﻚ اﻟﺨﻮف اﻟﻐﺮﻳﺰي ﻓﻘﻂ ﻋﻠﻰ اﻟﻄﻌﺎم ﺧﺸﻴﺔ اﻟﺠﻮع أو ﻋﻠﻰ اﻟﺠﺴﺪ ﺧﺸﻴﺔ اﻻﻓﺘﺮاس. أﻣﺎ اﻹﻧﺴﺎن ﻓﻴﻀﻴﻒ إﻟﻰ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع اﻟﺒﺪاﺋﻲ ﻣﻦ اﻟﺨﻮف أﺷﻜﺎﻻ أرﻗﻰ: ﻛﺎﻟﺨﻮف اﳌﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻲ ﻣﻦ إﻟﻪ ﻳﻌﺒﺪه ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺮﺗﻜﺐ إﺛﻤﴼ، واﻟﺨﻮف اﻟﻮﺟﻮدي ﻣـﻦ ﻓـﻨـﺎء ﻳﻼﻣﺴﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳـﺪﻫـﻢ اﳌﺤﻴﻄﲔ ﺑــﻪ. اﻟﺨﻮف اﻟﻨﺒﻴﻞ ﻋﻠﻰ ﻣﻦ ﻳﻮاﺟﻬﻮن اﻷﺧﻄﺎر واﻟﻜﻮارث واﳌﻈﺎﻟﻢ. ورﻏـﻢ أن اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻷﻛﺜﺮ ﺗﻄﻮرﴽ رﺑﻤﺎ ﺗﻌﺎﻧﻲ اﻟﻘﻠﻖ، ﻓﺈن ﻗﻠﻘﻬﺎ ﻣﺠﺮد ﺷﻌﻮر ﻳﺼﺎﺣﺐ اﻟﺨﻮف ﻋﻠﻰ اﻟﺤﻴﺎة أو اﻟﻄﻌﺎم، أي ﻋﻠﻰ »اﻟﺮاﻫﻦ«، وﻟﻴﺲ ﻗﻠﻘﴼ ﺳﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻴﴼ ﻋﻠﻰ »اﻵﺗـــﻲ« ﻛﻘﻠﻖ اﻹﻧـﺴـﺎن. وﻗـﺪ ﻳﻤﻴﻞ ذﻛـــﺮ اﻟــﺤــﻴــﻮان إﻟـــﻰ أﻧـــﺜـــﺎه، ﻏــﻴــﺮ أن ﻣﻴﻠﻪ ﻳﻈﻞ اﻧﻌﻜﺎﺳﴼ ﻟﻐﺮﻳﺰة ﺗﻠﻘﺎﺋﻴﺔ ﺗﺘﻮﺟﻪ ﻧﺤﻮ أﻗﺮب اﻹﻧﺎث إﻟﻴﻪ، اﻟﺘﻲ ﻳﻨﺼﺮف ﻋﻨﻬﺎ ﺑﻌﺪ ﻗﻀﺎء ﺣﺎﺟﺘﻪ ﻣﺒﺎﺷﺮة، أﻣﺎ اﻟﺤﺐ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﻓﺬو ﺑﻌﺪ ﺟﻮاﻧﻲ ﻋﻤﻴﻖ، ﻛﻤﺎ ﻳﻨﺰع إﻟﻰ ﻣﺸﺎرﻛﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﺑﲔ اﻟﺮﺟﻞ واﳌﺮأة، وﻣﻦ ﺛﻢ ﺗﺄﺳﺴﺖ ﻗﻮاﻧﲔ اﻟﺰواج ﻓﻲ ﺟﻞ اﻟﺤﻀﺎرات.
ورﻏﻢ ﺧﻀﻮع اﻹﻧﺴﺎن، ﻛﺠﻤﻴﻊ اﻟـﻜـﺎﺋـﻨـﺎت، ﻟﻘﺎﻧﻮن اﻟــﻌــﺪم، ﻓﻤﻴﺰﺗﻪ اﻟــــﻜــــﺒــــﺮى أﻧــــــﻪ اﻷﻛــــﺜــــﺮ وﻋــــﻴــــﴼ ﺑــﺬﻟــﻚ اﻟـﻘـﺎﻧـﻮن، وإدراﻛــــﴼ ﻟﻠﻤﻌﻨﻰ اﻟﻜﺎﻣﻦ وراءه، ﻓﻮﺣﺪه اﻹﻧﺴﺎن ﻳﻌﺮف أﻧﻪ ﺳﻴﻤﻮت، ﺑﻞ ﻳﺴﺘﻌﺪ ﻟﻠﺤﻈﺔ ﻣﻮﺗﻪ، ﺳﻮاء ﺑﺜﻘﺔ وﻫﺪوء، أو ﺑﻬﻠﻊ وﺧﻮف.
أﻣﺎ اﻟﺤﻴﻮان ﻓﻴﻼﻗﻲ ﺣﺘﻔﻪ ﻣﺮة واﺣﺪة ﻓﻘﻂ، ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺼﺎدﻓﻪ، دون اﻧـــﺘـــﻈـــﺎر. ورﺑـــﻤـــﺎ ﻛــــﺎن ﻫـــﻨـــﺎك ﻓـــﺎرق ﺑـﲔ ﻣــﻮت ﻳﺄﺗﻴﻨﺎ ﻓـﻲ اﻟﺸﻴﺨﻮﺧﺔ، ﻧﺠﻠﺲ ﻟﻨﻨﺘﻈﺮه، ﺣﺘﻰ أن اﻟﺒﻌﺾ ﻳﺒﻨﻲ ﻟﻨﻔﺴﻪ ﻗـﺒـﺮﴽ وﻳﺠﻬﺰ اﻟﻜﻔﻦ، ﺗﻄﺒﻴﻘﴼ ﻟﺴﻨﺔ ﻛﻮﻧﻴﺔ ﻫﻲ أن ﻳﻤﻮت اﻟﻘﺪﻳﻢ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺸﻴﺦ ﺗﺎرﻛﴼ اﳌﺠﺎل ﻟﻠﻮﻟﻴﺪ اﻟـﺠـﺪﻳـﺪ، ﺣﻴﺚ اﻻﺳـﺘـﻤـﺮار واﻟﻔﻨﺎء، اﻟﻮﺟﻮد واﻟﻌﺪم، أﻣﻮر ﺗﻘﻊ ﻓـــﻲ ﺻــﻤــﻴــﻢ اﻟــﻄــﺒــﻴــﻌــﺔ اﻹﻧــﺴــﺎﻧــﻴــﺔ، وﺑــــﲔ ﻣــــﻮت ﻃــــــﺎرئ، ﻳــﺪاﻫــﻤــﻨــﺎ ﻓﻲ رﻳﻌﺎن اﻟﺸﺒﺎب ﳌﺮض ﻗﺎﻫﺮ أو ﺣﺎدث ﻋـــﺎرض، ﺗﺠﺴﻴﺪﴽ ﻟﺤﻜﻤﺔ إﻟﻬﻴﺔ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ اﻹﻧﺴﺎن ﻛﺸﻒ ﻛﻨﻬﻬﺎ أو ﺳﺒﺮ ﻏﻮرﻫﺎ. وﻓﻲ اﻟﺤﺎﻟﲔ، ﺗﻜﺸﻒ واﻗﻌﺔ اﳌﻮت، ﻛﺤﺪ ﻟﻠﺤﻴﺎة، ﻋﻦ أﺑﺮز ﻣﺼﺎدر ﻗﻠﻖ اﻹﻧﺴﺎن، ﻓﻬﻮ ﻳﻌﻴﺶ وﻳﺘﻌﻠﻢ، ﻳﺒﻨﻲ وﻳﻌﻤﺮ، رﻏﻢ إدراﻛﻪ أن ﻋﻤﺮه ﻣﺤﺪود، وأن ﻏﻴﺮه ﺳﻴﺄﺗﻲ ﺑـــــﻌـــــﺪه ﻟـــﻴـــﺤـــﻞ ﻣـــﺤـــﻠـــﻪ وﻳــﺴــﺘــﻤــﺘــﻊ ﺑـﻌـﺼـﻴـﺮ ﺟـــﻬـــﺪه. ﻛــﻤــﺎ ﺗــﻜــﺸــﻒ ﻋﻦ أﺑﺮز وﺟﻮه ﻋﻈﻤﺘﻪ، وﻫﻲ ﺗﺼﺎﻟﺤﻪ ﻣــﻊ ﻣــﺤـﺪودﻳــﺘــﻪ، وإدراﻛـــــﻪ ﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أن اﳌــﻮت اﳌﻨﺘﻈﺮ أو ﺣﺘﻰ اﳌﻔﺎﺟﺊ ﻻ ﻳــﻌــﻨــﻲ أن ﻣــــﺸــــﺮوع ﺣـــﻴـــﺎﺗـــﻪ ﺑـــﺎء ﺑﺎﻟﻔﺸﻞ، ﻋﻠﻰ ﻧﺤﻮ ﻗـﺪ ﻳﺪﻓﻌﻪ إﻟﻰ اﻟـﺸـﻌـﻮر ﺑـﺎﻟـﻌـﺪﻣـﻴـﺔ، ﺑــﻞ رﺑــﻤــﺎ ﻛـﺎن ﻧﺎﺟﺤﴼ إﻟـﻰ اﻟﺤﺪ اﻟــﺬي أﺗـﻰ ﺛﻤﺎره ﺳﺮﻳﻌﴼ، ﻓﻠﻢ ﻳﻌﺪ ﻻﺳﺘﻤﺮار ﻣﻌﺎﻧﺎﺗﻪ اﻟﻮﺟﻮدﻳﺔ ﺳﺒﺐ ﺟﻮﻫﺮي.
ﻳﺮﺗﺒﻂ اﳌﻮت ﻫﻨﺎ ﺑﺠﺴﺪ ﻫﺰﻣﻪ اﻟـــﻔـــﻨـــﺎء، أﻣــــﺎ اﻟـــﻨـــﺠـــﺎح ﻓـــﺮﻫـــﻦ ﻗـــﺪرة اﻹﻧـــﺴـــﺎن ﻋــﻠــﻰ ﺗــــﺮك ﺑـﺼـﻤـﺔ روﺣـــﻪ ﻓـﻴـﻤـﻦ ﻳـﻌـﻴـﺶ ﺑــﻌــﺪه، إذا ﻣــﺎ ﺗﻤﻜﻦ ﻣــﻦ ﺗﺠﺴﻴﺪ اﳌـﺜـﻞ اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻟﻠﺤﻴﺎة، ﻓﻠﻴﺲ اﳌﻬﻢ أن ﻳﻜﻮن اﻟﻌﻤﺮ ﻃﻮﻳﻼ ﺑــــﻞ أن ﻳـــﻜـــﻮن ﻣــﻠــﻬــﻤــﴼ، أن ﻳــﺴــﺎﻋــﺪ اﻵﺧﺮﻳﻦ ﻋﻠﻰ اﻟﺘﺼﺎﻟﺢ ﻣﻊ ﻋﺎﳌﻬﻢ أو ﻋﻠﻰ ﺗﻄﻮﻳﺮ وﺟﻮدﻫﻢ. ﻟﻘﺪ ﻋﺎش أﻧﺎس ﻛﺜﻴﺮون ﻃﻮﻳﻼ ﻛﺎﻷﻣﻮات، ﻻ ﻳﻀﻴﻔﻮن إﻟﻰ اﻟﺤﻴﺎة ﺷﻴﺌﴼ، ﻧﺎﻫﻴﻚ ﻋﻦ اﻷوﻏﺎد اﻟﺬﻳﻦ أﺧﺬوا وﻻ ﻳﺰاﻟﻮن ﻳﺄﺧﺬون ﻣﻨﻬﺎ إﻟﻰ درﺟـﺔ ﺗﺠﻌﻠﻬﻢ ﻋﺒﺌﴼ ﻋﻠﻴﻬﺎ، إذ ﻟﻢ ﻳﺮ ﻣﻌﺎﺻﺮوﻫﻢ ﺳــﻮى ﺷـﺮﻫـﻢ اﻟـﻈـﺎﻫـﺮ، وﻟــﻢ ﻧﺴﻤﻊ ﻧﺤﻦ ﻋﻨﻬﻢ إﻻ ﺿﺠﻴﺠﻬﻢ اﻟﺒﺎﻃﻞ. أﻣﺎ ﻧﺒﻼء اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ وأﺑﻄﺎﻟﻬﺎ ﻓﻠﻬﻢ ﻗﻴﻤﺘﻬﻢ اﻟﺴﺎﻣﻴﺔ وﻟﻮ ﻗﺼﺮت أﻋﻤﺎرﻫﻢ، ﺳﻮاء ﻛﺎﻧﻮا ﻣﻦ أﺑﻄﺎل اﻟﻌﻘﻞ واﻟﺨﻴﺎل ﻛﺎﻟﻔﻼﺳﻔﺔ واﳌﻔﻜﺮﻳﻦ واﻷدﺑــﺎء واﻟﺸﻌﺮاء واﻟﻔﻨﺎﻧﲔ، اﻟﺬﻳﻦ ﻃﺎﳌﺎ ﻋﻠﻤﻮﻧﺎ، ﺑﻞ أرﺷﺪوﻧﺎ إﻟﻰ ﺣﻘﻴﻘﺘﻨﺎ اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ، أم ﻣﻦ أﺑﻄﺎل اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ واﻟﺴﻼح اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺒﻨﻮن اﻷﻣﻢ وﻳﺪاﻓﻌﻮن ﻋﻦ اﻷوﻃﺎن، ﺑﻞ ﻳﻤﻨﺤﻮﻧﻬﺎ ﺣﻘﻴﻘﺘﻬﺎ اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ. ﻳﻤﻮت ﻫــﺆﻻء ﻧﻌﻢ، ﻳﺨﺘﻔﻮن ﻣﻦ ﻋﺎﳌﻨﺎ ﻗﻄﻌﴼ، ﻟﻜﻨﻬﻢ ﻳﻌﻴﺸﻮن دوﻣﴼ، ﻳﻨﺸﺮون أﺟﻨﺤﺘﻬﻢ ﻋﻠﻰ زﻣﺎﻧﻨﺎ واﻷزﻣــﺎن اﻟﺘﻲ ﺗﻠﻴﻨﺎ. ﺑﻞ إن ﻣﻮﺗﻬﻢ اﳌﺒﻜﺮ ﻏﺎﻟﺒﴼ ﻣـﺎ ﻳﻀﻴﻒ إﻟــﻰ ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ، إذ ﻳﺘﻤﻢ أﺳﻄﻮرﺗﻬﻢ، وﻳﻤﻨﺤﻬﻢ ﺧــﻠــﻮدﴽ اﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻴﴼ، ﻳﻌﻜﺲ اﻟـﺤـﺪ اﻷﻗـﺼـﻰ ﻟﻠﺤﻀﻮر اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﻋﻠﻰ اﻷرض.