كنت طفًال بريئًا.. جتول عيناه في احلنني
نــعــم، كـنـت طـفـال بــريــئــا، أمــشــي بـقـدمـن حافيتن، ألــبــس ســـــرواال ريــاضــيــا، وفــانــيــلــة ريــاضــيــة، كان لـونـهـا فــي الـغـالـب هــو لــون الـفـريـق الــكــروي الذي كنت أشجعه وقتها. تتقاسمني امليول بن النادي األهلي الـذي غلب تشجيعه في أسرتنا كل األندية الرياضية، ونـادي النصر الذي كنت أتابع أخباره عن طريق اإلذاعـة، قبل أن يأتينا التلفزيون، وقبل أن نــقــرأ الـصـحـف الــريــاضــيــة. نسيت أن أقـــول لكم إنني قــروي، أعيش في قرية نائية، ال كهرباء، وال تلفزيون.. تشغلني أشياء ليس من بينها الدراسة الــتــي كــنــت أعـطـيـهـا جــــزءا قـلـيـال مــن وقــتــي، فيما تـتـقـاسـم كـــرة الــقــدم ورعــــي املــاشــيــة، وســقــيــا املاء، وفـالحـة األرض الـوقـت األكـبـر مـن يـومـي. كــان أبي فــالحــا، يجيد العمل املثمر بصمت بــالــغ، لــم يكن صـاحـب مـشـكـالت، ولــم يكن يــزاحــم أحـــدا، كــل همه أن يــصــحــو مــتــعــافــيــا، فـيـقـصـد أرضــــــه، ال ينتظر فضل أحــد عليه ســوى فضل ربــه. فيما كانت أمي مشغولة بما بقي من أمور الحياة كرعاية شؤون الــبــيــت. تـحـتـفـظ ذاكـــرتـــي بــأشــيــاء كــثــيــرة جميلة، ومبهجة. منظر نساء القرية وهن يمأن أرض أبي الـتـي فلحها وحــان وقــت حـصـادهـا، يصرمن بعد يـوم واحــد مـن إنـجـاز رجــال القرية املهمة السابقة للصريم وسط أهازيج جماعية تشنف اآلذان. طفولتي لم تعرف أن املوسيقى حرام. فقد كنت أملك مسجال متنقال، وصندوقا أحمله معي إن صعدت جبال، أو هبطت واديا، أحتفظ فيه بأشرطة نجوم الــغــنــاء فـــي تــلــك الــفــتــرة. كـــأيـــوب طــــارش وفيصل عـلـوي ومحمد عــبــده.. مـازلـت أسـتـعـذب إلــى اليوم أغـنـيـة «ســـالمـــات... ســـالمـــات... ســالمــات يــا حببنا يــا بـلـديـات» لـنـاديـة مصطفى؛ ألنـهـا ظـلـت تقارب أرواحـــنـــا بــاتــجــاه عــشــايــا ال تــنــســى، وال تمحوها ذاكــرة ما بعد الطبيعة والحياة! كل شـيء في تلك القرية الجميلة الــواعــدة بقي يبهرنا، خرير املاء، زقزقة العصافير.. وشوشة األشجار.. لون الشمس وقـــوس قــــزح.. أصــــوات الــنــســاء وحـركـتـهـن الدائبة الـتـي ال تنقطع إال مـع حـلـول املــســاء، هــدوء القرية وسكونها. في مسجد القرية املالصق لبيتنا ال تكاد تنقطع حركة املصلن فيه، كل الجيران املحيطن به ال تفوتهم صــالة، يتسابقون على األذان والصالة والخدمة، قبل أن تفرض وظيفة األوقـاف للمسجد مــؤذنــا وإمـــامـــا. ال أعــلــم، ملــــاذا أسـتـجـلـب اآلن هذه الـذكـريـات، ربما هـو الحنن، وربـمـا هــذه الصورة املـرفـقـة بـهـذا املـكـتـوب أيقظتني مــن قــرف املدينة، وألهبت في داخلي ذكريات زمن مضى...!