Okaz

السويدان.. وعودة األرأيتية!

- نجيب عصام يماني nyamanie@hotmail.com

لـم أكــد أفــرغ مـن السجال العقيم الــذي طرحه طارق الــســويـ­ـدان عـبـر تـغـريـدتـ­ه الــتــي كـتـب فيها مــا نصه «أيهما تفضل األمن مع الذل أم الحرية مع الثورة»، لم أكد أفـرغ منها حتى الحت لي في األفـق بـوادر عـودة لطائفة من «املحاججني» عرفت في تاريخ املسلمني بـ«األرأيتية»، عندما فشا علم الكام، وعرف الناس الفلسفة، فدخلوا إليها من الباب الخلفي، وتميزوا بطرح أسئلة افتراضية في الفقه وعلوم الدين اإلسامي األخـــرى، تحمل فـي طياتها روح املعابثة، وحماقة النظر، ولصق االســـم بـهـم نسبة للكلمة االفـتـتـا­حـيـة الـتـي يــبــدأون بـهـا أسئلتهم، حني يقول قائلهم: «أرأيـت لو أني فعلت كـذا..». ومن أمثلة ما كانوا يطرحونه مـن هــذه املعابثات والـحـمـاق­ـات؛ أن أحـدهـم ســأل شيخا قائا: أرأيت لو أني كنت متوضئا، ثم إني هممت بالصاة، فإذا بي أدخل من فم بعير وأخرج من دبره.. فهل ينقض ذلك وضوئي؟!. وحـسـنـا كـانـت إجــابــة املــســؤو­ل حــني ردعـــه بـقـولـه: عندها لــن يكون وضــوؤك محل اهتمامنا بقدر اهتمامنا بسامة خروجك من دبر البعير. والحال نفسه ترويه الحكايات مع ذلك الذي سأل أبو حنيفة: أرأيت لو أني نزلت النهر ألستحم، أأجعل وجهي تلقاء القبلة أم أستدبرها؟ فأجابه اإلمام: بأن يجعل وجهه تلقاء ثيابه حتى ال تسرق، ويصبح أمر خروجه من النهر محفوفا بـ «الفضيحة»!! وهكذا يمكن الذهاب مع هذه النماذج املعابثة واملهدرة لطاقة العقل والـزمـن فـي مـا ال طائل منه، وكــل اإلجــابــ­ات عليها تأتي فـي سياق النهي الضمني عن الخوض في ذلك، أو السخرية املبطنة ملن يقول بمثل هذه الحماقات، والحال نفسه مع صاحبنا الداعية الكويتي «الـسـويـدا­ن» أحـد الـدعـاة املــودرن الساعني للشهرة واألضـــوا­ء وملء شــاشــات الـفـضـائـ­يـات كـحـال بعضهم الـــذي يــقــول: يــا أرض انهدي ما عليكي قـدي. هذا السويدان ألقمه الجميع من حجارة السخرية واالستهزاء ما يكفيه عمرا مديدا من التأمل في مثل هذه التغريدات «األرأيـتـي­ـة» والتي ال يبتغي من ورائـهـا إال التحريض والتجييش وإشــاعــة الــفــوضـ­ـى الــتــي يــجــدون أنـفـسـهـم فـيـهـا، ولــعــل أكــبــر حجر التقمه ذلـك الـذي أرسله تلقاءه الشيخ صالح الـفـوزان، عضو هيئة كبار العلماء، حني قال «ليس له قيمة»، وتلك لعمري قادة خزي ما بعدها قادة، وما على «السويدان» من بأس بعدها إن غاب واختفى، واضمحل وانزوى وليته يفعل. إن مثل هذا الطرح الذي يقدمه شخص يسمه الناس بأنه «داعية»، يجعلني أقــف طـويـا فـي مفضيات هــذا اللقب، الــذي أصـبـح هما بغير ضابط وال رقيب، سهل االرتداء لكل من أطال ذقنا، ومأل شاشة، ورفع صوتا، وتحوقل وتبسمل، واستغفل األبرياء السذج، واألنقياء في تيه غفلتهم غير الحميدة، فيلبس عنهم «اللقب» با مؤونة من علم، وال زاد من معرفة محيطة ومدركة، وبا وعي يقود القافلة إلى بر األمـان.. وإال كيف جاز لـ«داعية» أن يوقف الناس بني خيارين ال ثالث لهما، ويعقد املفاضلة أليهما كما لو كانا «طفلني سياميني»؛ فإما «أمن يخالطه ذل»، أو «حرية مع ثورة»، وخطل مثل هذا الطرح العقيم أنه يجعل املفاهيم هكذا طلقا بغير إيضاح مفسر، وهو أمر مـن صميم عمل الداعية ورسـالـتـه، وإن فشل فيه فما أدى رسالته، وجـار على تابعيه، فأي معنى لــ«األمـن» في مفهوم شرعة اإلسام، وبما يقوم، ومـا هي متطلباته، وأي دور يجب أن يقوم به كل فرد الستتبابه، سواء كان الفرد حاكما أو محكوما.. وفي مقابل ذلك في أي مظهر من املظاهر يتجلى «ذل» املسلم في ظل دولـتـه، ومـا هي أسبابه، وهل ثمة رابط عضوي بني أن تستظل بـ «األمن» على شعور كامل بـ «الذل».. والحال نفسه يجري على الطرف اآلخر من معادلة السويدان املطففة، واملــنــظ­ــورة فــي الــربــط «الــغــريـ­ـب» بــني الـحـريـة والــثــور­ة، فمن الازم تحرير مصطلح الحرية، ومتطلباته، وأسباب توطينه، ومنعرجات الوصول إليه، ومفهوم الثورة، ملاذا وفيم، وعلى من.. ومن يقوم بها، وما هي أدواتها، وما هي غايتها، وكل ما يتعلق بما تنتهي إليه، وما تسفر عنه... كل هذه األسئلة وغيرها حري بـ «داعية» أن يقف عندها قبل أن يطرح سؤاله بهذا الخلط املفاهيمي، الـذي تتوارى خلفه نــوازع ال تحمل السؤال على وجه البراءة، وال تخلصه من عوالق الغرض في معرض االستفتاء واالستبيان العلمي لوجه املعرفة ال أكثر. نحن مضطرون ألن نحمد وسائل التواصل االجتماعي على نقلها لنا مثل هذه الترهات املأفونة، فبها وعبرها نعرف أقدار «الدعاة» الجدد، وندرك الخطاب املفخخ الذي يختبئ تحت «لحى» طالت في زمن الغفلة وأخرجت من جوفها خطابات الفتنة، و«تغريدات» الغنب املستتر، والتحريض املتواري خلف عبارات مسمومة تخاطب السذج جها وحماقة.. شكرا جزيا لها ألنها منحتنا فرصة لاستمتاع بعودة «األرأيتية» وما يصحب ذلك من طرائف الكوميديا السوداء، فما زالت األيام حبالى، يلدن كل عجيبة!.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia