Okaz

مجتمع التحوالت الكبرى: الوظيفة والصحوة

- يحيى األمير

(قبل الصحوة كنا مجتمعا طبيعيا، كانت املرأة تعمل مع الرجل جنبا إلى جنب في الحقل، وكانت تستقبل الضيوف ولم نكن نعرف هذا الفصل ولكن جاءت الصحوة فقضت على كل شيء). ال أتصور أن مقولة تكررت في الثقافة السعودية مثل هذه املقولة وبصيغ مختلفة ومتعددة، وفي الواقع أن شيئا من ذلك يحمل بعض الصواب لكن ليس بهذا اإلطالق وال بهذا التعميم. لو لم تترافق الصحوة مع وفر مالي وظهور مصادر جديدة للكسب ملا حدث ذلك التحول، إن أنماط الحياة السائدة في تلك الفترة لدى املجتمعات التي يقوم اقتصادها على الزراعة والرعي تحتاج إلى حضور نوعي ومؤثر لكل أفــراد األســرة ولكل منهم دور مهم يقوم به، بـدءا من األب واألم وصوال إلى األبناء والبنات، والعمل اليومي يفرض تكامال بني كل تلك األدوار لتؤدي كلها في النتيجة إلى تحقيق كسب ومحصول غذائي أو مالي. حني ظهرت الوظيفة مثلت أكبر تحول في السلوك االجتماعي، فالوظيفة تمثل نمطا واحدا للعمل وشكال جديدا للكسب لم تألفه تلك املجتمعات وتلك الوظائف كانت تتم من خالل املؤسسات الرسمية وكان أبرزها العسكرية والتعليمية والدينية والوظائف املدنية العامة، تلك املؤسسات كانت محافظة في تشكيلها األولـي وبالتالي تم إبـراز املحافظة على أنها السلوك املرتبط بالتمدن. ربما كان الجانب األبـرز في كل تلك املعادلة أن الناس آمنوا بفكرة أن التمدن يحتاج ملزيد من االلتزام، وأسهم الجيل األول من املعلمني في ترسيخ تلك الفكرة وكثير منهم غلبت على هيئاتهم صورة املتدين امللتزم امللتحي الذي ال يرتدي عقاال. أيـن وقفت الصحوة من كل ذلــك؟ منحت الصحوة كل ذلـك مشروعية كبرى واستخدمت سلطة املؤسسة واملنبر واستثمرت القبول االجتماعي لهذا النمط الجديد من الحياة الذي أوجدته الوظيفة والذي غير من أنماط الكسب واملعيشة. وفي املجتمعات التقليدية غالبا ما يتم التوجه إلى أنماط الحياة الجديدة بمزيد من التحفز والخشية والتحفظ وكــل تغير مــادي غالبا يصطحب معه نمطا جـديـدا مـن املحافظة تمثل دفـاعـا استباقيا فـي وجــه مـا قـد تحدثه التغيرات املادية من تغيرات في القيم. دخل الناس إلى املدينة خائفني يترقبون وتمسكوا أكثر بذهنية القرية وذهنية البادية فانفرط النمط االجتماعي القائم على أن تكون حياة الفرد في محيط عائلته وأبـنـاء عمومته، كـان ظهور (الـحـي) باملعنى الحديث مؤثرا ثقافيا مهما، فلم يعد الجار هو ابن العم أو ابن القبلية، ولم يعد األفراد قادرين على اختيار من يجاورون (مدن الحجاز عرفت هذه الظاهرة قديما بينما كان ظهور الحي مؤثرا في بقية املناطق) أدى ذلك إلى ظهور عزوف عن التواصل االجتماعي بني الجيران وارتفعت األســوار الشاهقة بينهم، ألنهم ببساطة ال يعرفون بعضهم البعض وألنهم قادمون من ثقافة أن الجار الجديد ليس جزء ا من العائلة كالجار القديم كما كان الحال في القرية أو الهجرة أو الـبـاديـة، على الجانب اآلخــر كسرت الوظيفة تلك الـعـزلـة، فلم يعد الكسب قائما على الجماعة والعائلة وتحتاج الوظيفة إلى تفاعل بني أفرادها فشهدت العالقات االجتماعية داخل املدن تأثرا كبيرا بالوظيفة التي أصبحت املصدر األبرز للصداقات والـتـواصـ­ل بـني األفـــراد واألســـر، وحينما دخلت املــرأة إلــى الوظيفة العامة كــان ذلك محصورا في الوظائف التي تختص بالنساء فقط والتفسير الثقافي لذلك أن الدور املحوري السابق للنساء في الكسب واقتصاد العائلة كان يدور في أوساط الجماعة والقبيلة الذين يعرف بعضهم البعض رجاال ونساء وهو ما يبعد الخشية والخوف، إضافة إلى سيطرة األعـراف والتقاليد التي تمنع أي اعتداء أو تحرش، في زمن املدينة وحني دخلت املـرأة مجال الوظيفة العامة تم استبدال القبيلة والقرية بقبيلة الجنس أي أن تكون املرأة مع بنات جنسها (قبيلة النساء). كان الكسب الذي يأتي من الوظيفة واالنشغال به مؤثرا في خلق نمط معيشي ال يأبه كثيرا باملتعة وال بالترفيه، وأخذت الناس يستمتعون بتغيير أثاث املنازل والسيارات واللقاء ات العائلية. يمكن القول إن ذلك النمط كان سائدا إلى أواخر التسعينات امليالدية ليظهر جيل جديد، وليشهد العالم تحوالت اجتماعية وإعالمية وثقافية واسعة، كانت القنوات الفضائية والسفر والـدراسـة أبـرز مقومات بناء ذلـك الجيل إضافة إلى أن مؤسسات الدولة باتت تغص باملوظفني ولم تعد بحاجة الستيعاب املزيد من طالبي الوظائف. وهو ما سيؤدي إلى تحول جديد ودور جديد للقطاع الخاص بما يحمله من تأثيرات ثقافية واجتماعية واسعة، وبداية تحول في مفهوم التمدن ونشوء ما يمكن تسميته بالطبقية الثقافية في املجتمع. كانت الدولة تراقب وتتابع كل ذلك، وتدرك أن التحوالت الكبرى يجب أن تأتي من املجتمع وعليها أن توفر له ما يدعم ذلك التحوالت من مؤسسات وأنظمة هي أيضا شهدت تحوالت موازية.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia