Okaz

منوذجنا االقتصادي غير قابل لالستمرار

-

د. عبدالعزيز الوذناني *

اليوم تحتل كل من اليابان وأملانيا املركزين الثالث والرابع على التوالي في قائمة الدول السبع األكبر اقتصادا في العالم، أو ما يعرف في اللغة اإلنجليزية بمصطلح ‪»)G7( 7 the Big«‬ الحقيقة التاريخية التي يعلمها الجميع أن هاتني الدولتني هزمتا في الحرب العاملية الثانية وتم تدمير بنيتهما التحتية وتم إخضاعهما للحكم األجنبي وفرضت عليهما شــــروط الـحـلـفـا­ء املـنـتـصـ­ريـن. الـــســـؤ­ال الــــذي يطرح نفسه والـــذي يجب أن نتعلم منه الكثير هـو كيف استطاعت كـل مـن الـيـابـان وأملـانـيـ­ا أن تتعافى من آثار السياسات الديكتاتور­ية والنازية وتعيد بناء ما دمرته الحرب وتصبح من ضمن أكبر خمس دول اقتصادية في العالم خالل عقد من الزمن فقط؟ لإلجابة على هذا السؤال دعنا نأخذ أملانيا كمثال ونلقي نظرة فاحصة على تاريخها خــالل الثورة الصناعية وصوال للحرب العاملية الثانية. الجدير بــالــذكـ­ـر بـــأن الـــثـــو­رة الــصــنــ­اعــيــة فـــي أملــانــي­ــا كانت متأخرة عن مثيالتها في إنجلترا وفرنسا وبعض الـــدول األوربــيـ­ـة األخـــرى بأكثر مـن 100 عــام، إذ لم يتم توحيد أملانيا في سـوق واحــدة إال في م1833 وخـــالل الـفـتـرة مــن م1833 إلــى م1870 كــان هناك عدة محاوالت الستنساخ الثورات الصناعية التي قامت في أجزاء مختلفة من أوروبا دون نجاح يذكر ألن أملانيا فـي ذلــك الـوقـت تفتقر للخبرة واملعرفة الـتـراكـم­ـيـة الــالزمــ­ة لـتـوطـني املــعــرف­ــة وبــنــاء تنمية مستدايمة. فالثورة الصناعية في أملانيا لم تبدأ إال مع نشأة الدولة األملانية الحديثة في م1870 وتأثرت بالحرب العاملية األولـى م1914 – م1918 والركود االقـــتــ­ـصـــادي الــعــظــ­يــم م1929 – م1939 وكذلك بالحرب العاملية الثانية م1939 – .م1945 فعندما انتهت الـحـرب العاملية الثانية بانتصار الحلفاء كانت البنية التحتية ألملانيا مـدمـرة واقتصادها منهكا من الحرب ومن السياسات النازية وفوق هذا كله وضعت أملانيا تحت سلطة الحلفاء وقسمت إلى دولتني: أملانيا الغربية وأملانيا الشرقية وخسرت أوروبا الشرقية كسوق وعمق تجاري واقتصادي واستمر العمل بالسياسات والقوانني النازية حتى ســنــة م1948 وكــانــت الـنـتـيـج­ـة كــارثــيـ­ـة ووصلت إلى حد املجاعة. وبعد هذا العام تغير الكثير من الــقــوان­ــني والــســيـ­ـاســات وحـــدث الـتـحـول واملعجزة االقــتــص­ــاديــة األملــانـ­ـيــة م1948 – ،م1960 إذ كان مــتــوســ­ط مــعــدل نــمــو اإلنـــتــ­ـاج الــصــنــ­اعــي األملاني خالل هذه الفترة أكثر من %15 سنويا. هــــــذه حــقــيــق­ــة تـــاريـــ­خـــيـــة ولــــكـــ­ـن األهــــــ­ـم هــــو كيف استطاعت أملانيا أن تتعافى مـن آثــار السياسات الــنــازي­ــة وتـعـيـد بــنــاء مــا دمــرتــه الــحــرب وتصبح واحـــدة مــن أكـبـر أربـــع دول اقـتـصـادي­ـة فــي العالم خالل عقد من الزمن؟ أملانيا استطاعت النهوض في زمن قياسي، ألنها لم تبدأ من الصفر فلو بدأت من الصفر فلربما استغرقت قرنا من الزمن لتصل إلى ما وصلت إليه خالل 10 سنوات فقط ولكن الذي جعل املعجزة األملانية ممكنة هو أن أملانيا تملك الخبرة واملعرفة التراكمية الضرورية لبناء ثورتها االقـتـصـا­ديـه واملتمثلة فـي رأس املــال الـبـشـري أي اإلنسان األملاني املدرب وصاحب الخبرة واملعرفة التراكمية التي اكتسبت من خـالل العمل الدؤوب والتجربة العملية ومــع مــرور الـزمـن أصبح أكثر كفاء ة و فا علية وإتـــــــ­ــــــقـــ­ــــــــــ­ان ملا يقوم به وهذا هو الــعــامـ­ـل الــرئــيـ­ـســي الذي ساعد أملانيا على النهوض في زمن قياسي. فـأملـانـي­ـا لــم تــســتــو­رد عـامـلـة أجـنـبـيـة لتشغيل مصانعها أو مستشارين أجانب لرسم خططها، بـل صنعت مستقبلها بـسـواعـد وعـقـول أبنائها وشـقـت طريقها للقيادة والــريــا­دة ومنافسة أمم األرض والتفوق عليهم. تجربة أخـــرى: الـيـابـان البلد الــذي دمــر فـي الحرب العاملية الثانية واستخدمت ضده أبشع الجرائم اإلنــســا­نــيــة عــلــى اإلطــــــ­الق وأذل وأهـــــني وحجم اقتصاديا وعسكريا ولكنه نهض من بني جثث املوتى وركام املدن املدمرة في ملحمة تاريخية تشبه األســـطــ­ـورة اإلغــريــ­قــيــة لـطـائـر الـفـونـكـ­س Phoenix( )Bird الـذي يستعيد الحياة ويحلق طائرا من بني األنــقــا­ض. قصة املعجزة األملانية وقصة النهوض األسطوري لليابان هي قصة االستثمار في اإلنسان. فــيــه أمــثــلــ­ة أخــــرى ولــكــن ربــمــا هـــاتـــا­ن التجربتان جديرتني بالدراسة والتوقف عندهما واالستفادة مهنما.

ما يستفاد من التجارب

يــمــكــن تــلــخــي­ــص الــــــــ­دروس املـــســـ­تـــفـــاد­ة مــــن هاتني التجربتني فـي نقطتني رئيسيتني هما: أوال: تقدم األمــــم وتــطــوره­ــا ال يــأتــي بــني يـــوم ولــيــلــ­ة، بـــل هو نـتـاج عـقـود مـن االسـتـثـم­ـار املخطط واملــــدر­وس في «اإلنــــسـ­ـــان». ثــانــيــ­ا: مـــخـــزو­ن الــشــعــ­وب مـــن الخبرة واملـــعــ­ـرفـــه الــتــراك­ــمــيــة أي رأس املـــــال الـــبـــش­ـــري هو األساس الرئيسي الذي تبني عليه الشعوب تقدمها وتطورها وصناعة تنميتها املستدامة، فاإلنسان هو محور هذين العنصرين: «الخبرة» «واملعرفة» التراكمية واإلنسان هو األساس في اكتساب املعرفة وكذلك هو األساس في تكوين الخبرة البشرية التي تـتـراكـم عبر الــزمــن، إذ يتعلم مــن خـبـراتـه السابقة ويـــطـــو­ر مـــهـــار­اتـــه ومـــعـــا­رفـــه ويــصــقــ­لــهــا بتجربته الــعــمــ­لــيــة. فــكــلــم­ــا زادت خــبــرتــ­ه فـــي أي مـــجـــال من املجاالت يصبح أكثر مهارة واتقان حتى يصل إلى مرتبة «خبير» في مجاله. تشير التجارب واألبحاث العلمية أن اإلنسان يحتاج إلـى 10 آالف ساعة من العمل الدؤوب واملركز لكي يصبح خبيرا في مجاله ونفس الشيء ممكن يقال عن الشعوب. ماذا عنا في دول الخليج العربي؟ هل في تجربتي أملانيا واليابان شيء ممكن نتعلم منه؟ هل استثمرنا في أبنائنا كما يجب؟ هل هيأنا لهم الفرص املمكنة الكــتــسـ­ـاب املــعــرف­ــة والــخــبـ­ـرة الـتـراكـم­ـيـة الضرورية لتقدم شعوبنا وبناء تنميتها املستدامة؟ هل أحسنا استغالل الثروات الطائلة التي أنعم الله بها علينا مــن الــبــتــ­رول – املــــورد اإلســتــر­اتــيــجــ­ي الــنــاضـ­ـب في بناء اإلنسان الخليجي وتطوير رأس املال البشري الـــذي ســـوف يمكنا بـعـد الــلــه عــزوجــل مــن منافسة األمـــم وبــنــاء مستقبلنا

ومستقبل أبنائنا؟ الــــــــ­ــحـــــــ­ـــق يــقــال: نحن فـــــــــ­ــي دول الـــــخــ­ـــلـــــي­ـــــج العربي كنا مجتمعا ت بــــســــ­يــــطــــ­ة إال مـــــــــ­ـــن قــــيــــ­مــــنــــ­ا ومــــــــ­ــوروثــــ­ــــــنـــ­ـــــــا الشعبي األصيل وعقيدتنا الدينية لفترة من الزمن حتى تم اكتشاف البترول بشكل تجاري في النصف األخير من القرن املاضي ومن ذلك التاريخ مرت علينا عدت طفرات اقتصادية وخصوصا مع بدايات الثلث األخير من القرن املاضي وحدثت تحوالت كبيرة في مجتمعنا الخليجي وفي قيمة وثقافته االجتماعية وأصبح لدى دولنا موارد طائلة. تم استثمار جزء كبير من هذه األمـوال في التعليم الــكــمــ­ي ولـــيـــس الــنــوعـ­ـي وربـــمـــ­ا كــــان هــــذا التوجه ضــــرورة وخـصـوصـا فــي الــبــداي­ــات، ولــكــن التعليم الـنـوعـي لــم يـتـم الـتـركـيـ­ز عليه كـمـا يـجـب وأن كان هناك بعض املحاوالت الخجولة؛ كذلك تم استخدام جزء من عوائد صـادرات البترول في تأسيس بنية تحتية ألبـــاس بها ولـكـن لــم نحسن اسـتـغـالل هذه األمــــوا­ل الـطـائـلـ­ة فــي بـنـاء تنمية مـسـتـدامـ­ة تعتمد على مـا تنتجه سـواعـد أبنائنا مـن سلع وخدمات وما تبتكره عقولهم من مخترعات لخدمة الحضارة البشرية وتطورها بل اعتمدنا إلـى حد كبير على الــســواع­ــد والــعــقـ­ـول الــتــي تــأتــي مــن وراء الحدود. فالعامل في مصانعنا أجنبي ومستشارنا أجنبي ومـحـل ثقتنا وراســـم خططنا فــي الـغـالـب أجنبي، ربـمـا يعتقد الـبـعـض بـأنـي قـسـوت ولـكـن املطلعني على بواطن األمور يعرفون ما أقول جيدا. هـــذا لــيــس مــــرده نــقــص فــي أبــنــائـ­ـنــا وال نــقــص في كـفـاءاتـه­ـم وقــدراتــ­هــم ال سـمـح الـلـه فعندنا كفاءات تضاهي مثيالتها فـي الــدول األخــرى ولله الحمد، أنا ال أقول هذا الكالم من باب املبالغة أو املجاملة، بــل مــن واقـــع مـعـرفـة ودرايــــة فـربـمـا الـعـشـريـ­ن عاما الـتـي قضيتها بــني أمـريـكـا وكــنــدا كـطـالـب ومــن ثم كأستاذ جامعي لحوالي نصف هذه املدة تعطيني بعض املصداقية فـي هــذا الجانب. إذن أيــن أساس املشكلة؟ على الرغم بأن الطبقة القيادية سواء أكانت في القطاع العام أو القطاع الخاص يتحملون اللوم األكبر بحكم مواقعهم القياده وقدرتهم على توجيه السياسة العامة إال أن من ينظر في هذا األمر برؤية فاحصة يجد أن املشكلة أكــــــبـ­ـــــر وأعـــــــ­ـــــم مـــــــن أن نحملها للطبقة القيادية لوحدها. فهؤالء الــقــادة هــم أبــنــاء املجتمع وثــــقـــ­ـافــــتــ­ــه االجتماعية الـــتـــي شــجــعــت مـــن غــيــر قــصــد على عـدم الثقة في أنفسنا وفـي قدراتنا. فعلى سبيل املثال وليس الحصر رجــــل األعـــمــ­ـال يـــقـــول: الشباب الـسـعـودي «كــســول وال يعمل وال يعتمد عليه» واألجنبي «يــشــبــع ويــشــبــ­عــك مــعــه أما السعودي وجه فقر» والوزير يــــــقــ­ــــول: إنــــتـــ­ـاجــــيــ­ــة املــــوظـ­ـــف الــــســـ­ـعــــودي «ال تتجاوز ســــــاعـ­ـــــة واحـــــــ­ـــــــدة في الــــــيـ­ـــــوم». فــــهــــ­ذه ليست مشكلة فردية في التاجر أو الوزير على الرغم بأن اخـتـيـار ولــي األمـــر لبعض وزرائـــنـ­ــا جـعـلـهـم يشعرون بــاالصــط­ــفــاء إلــــى درجـــــة لم يـعـد يــجــدوا فــي الـبـلـد بطوله وعرضه من الكفاء ات الوطنية التي تستطيع قـــراءة أفـكـارهـم التطويرية وتــرجــمـ­ـتــهــا عـــلـــى أرض الــــواقـ­ـــع مما اضـــطـــر­هـــم الســـتـــ­يـــراد مــســتــش­ــاريــن من وراء الـبـحـار بمبالغ هائلة تصل إلى مــــلــــ­يــــارات الـــــريـ­ــــاالت لــيــضــع­ــوا لهم حـــلـــوا­ل قـــد ال تــمــس لـــلـــوا­قـــع بشيء ولكن املشكلة أكبر وأعمق كما ذكــرت من حصرها في ثلة من الوزراء وكبار املسؤولني.

ثقافة مجتمعية

نـحـن ال نــبــرىء أنـفـسـنـا فــجــذور املـشـكـلـ­ة تكمن في ثقافة مجتمعية تراكمية ناتجة عن نظرتنا ألنفسنا وفــقــدان الثقة فـي قـدراتـنـا على صناعة مستقبلنا ومستقبل أبـنـائـنـ­ا وهـــذا يتجلى فــي تـسـابـق كبار مــســؤولـ­ـيــنــا عــلــى اخـــتـــا­لف مــنــاصــ­بــهــم مـــن رؤســــاء شركات القطاع الخاص إلى وزراء الدولة ومسؤولي الهيئات الحكومية على استيراد األجنبي وتفضيله عــلــى ابـــن الــبــلــ­د. الـــســـؤ­ال هــنــا: ملــــاذا هـــذا التسابق املحموم غير املبرر في كثير من األحيان إن لم نقل أغلبها؟ هذا ليس ألن املسؤولني غير وطنيني أو أنهم ال يحبون أبناء بلدهم، بل ألن ثقافتنا االجتماعية تعتبر األجنبي خبيرا بصرف النظر عن مؤهالته وخــبــرات­ــه وســيــرتـ­ـه الـعـلـمـي­ـة والـعـمـلـ­يـة بـيـنـمـا ابن البلد دائـمـا مشكوك فـي قــدراتــه وإمكاناته لـسـبـب بـسـيـط وهـــو أن ابن الــــبـــ­ـلــــد يـــشـــبـ­ــهـــنـــ­ا ويشبه الـــــكــ­ـــثـــــي­ـــــر مــــــــن مــــعــــ­ارفــــنــ­ــا ولـــهـــذ­ا يــعــتــق­ــد املسؤولني بــــأن االســتــع­ــانــة باملستشار األجـنـبـي يجعلهم يــبــدأون أكثر ذكاء واملعية أمام املسؤولني اآلخرين األعلى منهم في التراتبية اإلداريـة فمثال الـــرئـــ­يـــس الــتــنــ­فــيــذي لــشــركــ­ة فـــي القطاع الـخـص يعتقد بــأن االسـتـعـا­نـة باملستشار األجــنــب­ــي يجعله يـمـأ عــني رئــيــس مجلس إدارة الشركة وعيون السادة أعضاء املجلس ونفس الشيء ممكن يقال عن املسؤولني اآلخرين. وفــــي الــقــطــ­اع الـــعـــا­م مــثــال يــحــرص الوزيرعلى االسـتـعـا­نـة بـاملـسـتـ­شـاراألجـن­ـبـي حـتـى يظهر لولي األمـر بأن خططه وأفكاره التطويرية متقدمة على فـكـر املـجـتـمـ­ع واليـفـهـم­ـهـا ويــقــدر عـلـى تحليها إال خبير من وراء البحار ولهذا أصبح التسابق على املستشارين األجانب «عـدوى» في وزارات وهيئات القطاع العام فالوزير أو املسؤول الـذي ال يستعني بمستشار أجنبي يصبح «ما فيه خير» وليس لديه قدرة على تطوير وزارته أو إدارته الحكومية. ولكن األمر املهم الذي غاب عن هؤالء املسؤولني في خضم تسابقهم للظفر باملستشاري­ن األجانب أنهم بعملهم هذا يرتكبون خطيئة ال تغتفر بحق وطنهم ومـسـيـرتـ­ه الـتـنـمـو­يـة. فـــإذا لــم نستثمر فــي أبنائنا ونـشـجـعـه­ـم ونـعـطـيـه­ـم الــفــرصـ­ـة الكــتــسـ­ـاب الخبرة واملعرفة التراكمية التي هي املطلب الرئيسي لتقدم األمم وتطورها فمن ننتطر أن يستثمر في أبنائنا ويعطيهم الفرصة؟

* أستاذ املحاسبة املشارك رئيس قسم املحاسبة بكلية إدارة األعمال / جامعة الفيصل - (الرياض) wathnani@alfaisal.edu

 ??  ??
 ??  ?? كانت أرامكو تدار من قبل األمريكيين قبل أن تغطي األيدي السعودية كافة مرافقها. (وكاالت)
كانت أرامكو تدار من قبل األمريكيين قبل أن تغطي األيدي السعودية كافة مرافقها. (وكاالت)
 ??  ?? عبدالعزيز الوذناني
عبدالعزيز الوذناني

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia