Okaz

الدستور أم الرئيس؟!

-

فـي ثقافة املجتمعات الغربية السياسية هناك معضلة أزلـيـة فـي النظرية واملمارسة السياسية تتمحور حول تنازع والء الفرد بني مؤسسات الدولة السياسية. واجه أفاطون نفس املعضلة السياسية واألخاقية: ملن يذهب والء املواطن؛ لقيم العدالة والفضيلة.. أم للسلطات املطلقة للنخبة الحاكمة (طبقة الفاسفة). نفس املشكلة تكررت في مرحلة ظهور املسيحية وانتشارها: من يستحق والء الفرد املسيحي؛ الكنيسة.. أم السلطة الزمنية للملوك واألبــاطـ­ـرة!؟ حتى في النظرية واملمارسة الليبرالية كانت املشكلة: ملـن األولـيـة فـي السيادة والحكم؛ قيم الديموقراط­ية املـدونـة فـي الدستور، مكتوبا هـو أم عـرفـيـا.. أم للسلطة السياسية املنتخبة، رغــم أن أساس االثنني واحد (اإلرادة العامة للشعب). عـادة ما تبرز هذه املشكلة بمستوييها السياسي واألخاقي في فترات التوتر واالنقسام الحاد بني األطراف السياسية املتصارعة، حيث تتوه إن لم تغب، حكمة وواقع التعددية السياسية، في فترة تاريخية معينة. اليوم: تبرز هذه املعضلة املركبة في ما تشهده اليوم الواليات املتحدة من صـراع داخلي عنيف بني رئيس جديد يستمد شرعيته من اختيار الـشـعـب.. وتــيــار قــوي مــن الشعب يستشعر فــي سـلـوك وتــوجــه الرئيس الجديد خطرا على حقوق وحريات الناس الدستورية. بدا الرئيس ترمب، من أول يوم، عاقد العزم على مباشرة مهمات سلطاته وفقا لرؤيته وتفسيره ملصدر شرعيته، كرئيس منتخب جاء لينفذ برنامجه االنتخابي الذي جاء به للسلطة.. ويعده عقدا اجتماعيا جديدا بينه وبني الشعب األمريكي، في رأيه ورأي الكثيرين من أنصاره، يتفوق على ما عدا ذلك من التزام سياسي أو أخاقي، بما في ذلك - إن لزم األمر - نصوص الدستور.. وما جرى عليه عرف وواقع قيم وحركة التجربة الديموقراط­ية للمجتمع األمريكي. الرئيس ترمب يتصرف كرئيس غير تقليدي و«ثوري» جاء إلى الحكم بإرادة شعبية من أجل مواجهة مؤسسات ونهج ورمــوز الحكم التقليدية في واشنطن، مستخدما سلطاته الرئاسية إلـى أبعد مدى ممكن.. ومهما كان الثمن، حتى ولو كان في ذلك تجاوزا لسلطاته الدستورية، في مواجهة مؤسسات الحكم األخرى.. أو حتى قيم الدستور نفسه، التي أجمعت عليها األمة.. وحكمت املمارسة الديموقراط­ية في املجتمع األمريكي، منذ االستقال. املشكلة أن الرئيس األمريكي الجديد بدأ حكمه بتحد لتراث عميق وعريق من احترام نظام الحقوق والحريات الذي يقوم عليه املجتمع األمريكي ويشكل أس املمارسة الديموقراط­ية «الليبرالية» للتجربة السياسية األمريكية الحديثة، نسبيا. استشعر الكثيرون من الشعب األمريكي الخطر على نظام الحقوق والحريات التي أكد عليها الدستور وتجسدت في تاريخ طويل نسبيا لهذه األمة املعاصرة من املمارسة الديموقراط­ية املبدعة، التي تقوم أساسا على فكرة: الحكومة «الضعيفة».. «املحدودة» الصاحيات، و«املشتتة» السلطات، في مواجهة حقوق الناس وحرياتهم، التي تحكمها آلية محكمة من صيغة الفصل بني السلطات، بحيث يتعذر عمليا سيطرة سلطة بعينها على مقاليد الحكم، خارج آلية الرقابة املتبادلة بني السلطات في إطار التوازن السياسي للثقل النسبي لكل سلطة من سلطات الحكومة في مواجهة السلطة األخرى.. وكذا مواجهة بعضها البعض مجتمعة. في النظام السياسي األمريكي، وهذا ما يجعله من أكثر األنظمة السياسية الديموقراط­ية املعاصرة استقرارا، وربما يأتي في مقدمتها، ال يمكن لسلطة سياسية بعينها في التشكيل الحكومي ملؤسسات الحكم الرسمية في واشنطن (البيت األبـيـض.. الكونجرس، املحكمة الدستورية العليا) أن تتحكم، بصورة حصرية أو حتى مؤثرة بصورة ملفتة، في مقاليد األمـور وشـؤون الحكم في الباد. كما أن النظام الفيدرالي، الذي تتشكل منه الجمهورية، يحول دون سيطرة الحكومة املركزية في واشنطن، على بقية أعضاء االتحاد الفيدرالي املمثل في سلطات الواليات الواسعة واملستقلة في إدارة، بل حكم إقليم كل منها بنفسها، بعيدا عن هيمنة الحكومة املركزية في واشنطن، عدا شؤون األمن.. والسياسة الخارجية، والشؤون املالية ذات االختصاص الحصري للحكومة الفيدرالية، في العاصمة (واشنطن). لهذا نجد االمتعاض من محاولة الرئيس الجديد تقديم تفسير غير تقليدي لسلطاته الــدســتـ­ـوريــة، خــاصــة ذلـــك الـــذي يــطــال نــظــام الــحــريـ­ـات والحقوق الدستورية املكفولة للناس واألقاليم املكونة لاتحاد، ال تقتصر فقط على االحتجاجات الشعبية، بل يمتد ملؤسسات الدولة الفيدرالية ورموزها، حـتـى إنـهـا تـتـجـاوز ذلــك إلــى أقـالـيـم الــواليــ­ات، فــي مـواجـهـة مــا شــعــروا به مـن خطر يأتيهم مـن قبل العاصمة. كما أن التذمر مـن توجهات الرئيس «الشعبوية»، التي تحمل شبهة النزعة الشمولية، طالت أركــان قمة البيروقراط­ية األمريكية عندما أعلنت وزيرة العدل بالنيابة علنا رفضها لتنفيذ تعليمات الرئيس ترمب أو تبنيها لسياسته الجديدة في قضايا الهجرة وحظر دخــول األجـانـب للواليات املتحدة، تبعا لخلفيتهم العرقية.. ومعتقدهم الديني، وأوطانهم األصلية. مئات املوظفني في وزارتي العدل والخارجية واألمن الوطني حذوا حذو الـوزيـرة «املـتـمـرد­ة». كما رفعت قضايا عديدة من قبل واليــات عـدة ضد هـذه السياسة الجديدة غير الليبرالية واملفرطة في تحفظها ويمينيتها، للرئيس ترمب. الرئيس ترمب، بالطبع سيجد من أنصاره من يكون أكثر والء له واستعدادا ألن يكون أكثر انضباطا في االلـتـزام بتعليماته، لكن هل يتمكن من املضي قدما في تحديه ملا يـراه خصومه للدستور وقيم الديموقراط­ية األمريكية املتوارثة، معتمدا على تفسيره الضيق املثير للجدل ملصدر شرعيته السياسية. أغلب الظن، بل هي الحقيقة: أن الرئيس ترمب لن يتمكن من ذلك، بصورة مطلقة، نظرا لطبيعة صيغة الحكم املعقدة والحساسة والعالية الكفاءة والفاعلية، التي يأخذ بها النظام السياسي األمريكي. في قيم وحركة املمارسة الديموقراط­ية األمريكية، يأتي الدستور أوال. الكل ملزم باحترام وحماية دستور الواليات املتحدة، بما في ذلك أعلى سلطة تنفيذية في الباد (الرئيس األمريكي)، الذي التزم قسما بذلك، كشرط أساس وأولي ملباشرة مهمات منصبه، رغم كونه رمزا منتخبا. ينطبق هذا على جميع رموز ومؤسسات الحكم في واشنطن، سواء كانوا منتخبني أم معينني. الدستور هو املؤسسة العليا في الباد التي تخضع لها بقية مؤسسات الدولة، حيث تستمد شرعيتها من احترام نصوصها.. والذود عن حمى قيمها.

للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 االتصاالت أو 636250 موبايلي أو 738303 زين تبدأ بالرمز 154 مسافة ثم الرسالة

 ?? talalbanna­n@icloud.com طالل صالح بنّان ??
talalbanna­n@icloud.com طالل صالح بنّان

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia