Okaz

العقل الضائع

-

مستقبل التعليم اإللكتروني يتسارع وطبقته دول عديدة متقدمة، فال حقيبة وال كتب مطبوعة وال دفاتر وقلم وال مسطرة ومحاية، إنما محمول أو تـاب صغير وخدمة إنترنت وهذا جيد في العلم، لكن التحدي يكمن في تحور وتشوه طبيعة القراءة عبر الوسائط الحديثة، فقارئ إلكتروني بحجم الجيب يزن أقل من 0٥2 جرامًا، بات يحوي عشرات وربما مئات الكتب، يعادل وزنها الورقي عشرات الكيلوجرام­ات. وهذا يطرح تساؤالت كبيرة وجادة بشأن مستقبل الكتاب الورقي غني املعرفة مضمونا وتحليال بني دفتيه، بالتوازي مع مخاوف أخرى مماثلة على مستقبل الكتابة وإتقان األحرف واللغة، بعد التحول إلى لوحة مفاتيح الحواسيب والهواتف املحمولة وتقنيات قادمة لتطوير وتسويق القارئ اإللكتروني، فأي مصير ينتظر الكتاب والقراء ة والكتابة؟!. الوسائط الحديثة وابتكاراته­ا تقتل بالفعل خصائص جميلة ومفيدة في القراءة والـكـتـاب­ـة، حـيـث تـتـزاحـم فيها الــصــور ومـقـاطـع الـفـيـديـ­و، ويختلط الـغـث بالثمني، والحقيقة باالنطباعا­ت والشائعات والدعاية ودس السم في العسل، لذلك تظل الكتب الورقية مصدرا للمعرفة النظيفة الثرية التي تختارها بعناية مهما زاحمها النشر اإللكتروني، ولن يغني الكتاب اإللكتروني في أي تخصص كان عن الكتاب الورقي التقليدي، وال الـقـراءة اإللكتروني­ة تشبع نهم القارئ الجاد املتعمق؛ ألنها تجعلنا نفقد الكثير من متعة شراء الكتاب وهضم محتوياته، وكم من أعالم وعلماء في شتى التخصصات قدموا عصارة فكرهم وعلمهم وإبداعاتهم في كتب ومراجع انتفعت بها الحضارة البشرية وعرفنا هؤالء من خالل كتبهم، وللكتاب عشاق كثر طبقوا قول املتنبي: «وخير جليس في الزمان كتاب». النشر اإللكتروني املنضبط له فوائده في التنوع املعرفي وسرعة الوصول ملا نريد، إال أن جوانب ومظاهر الفوضى العنكبوتية تظل قضية حاضرة بقوة أمام وزارات الثقافة واإلعالم في مختلف دول العالم ومن املعنيني بشؤون وشجون الفكر والثقافة، وال تتوقف الـنـقـاشـ­ات واآلراء ونـــدوات ومــؤتــمـ­ـرات لـطـرح تلك الـجـوانـب حــول واقع ومستقبل الكتاب املطبوع والصحف الورقية. أما القلم فلن يغادر املكاتب وال الجيوب، ولطاملا سطر من اإلبــداع والعلوم وتاريخ األمم، ودون به اإلنسان كلمات الفرح ونقل بحبره لغة املشاعر، ونزف مع آالم البشرية عبر العصور، وكم لأقالم من مسميات وأسعار وأشكال وألوان، وتبارت الشركات في العالم لتطويره وتوفيره للبسطاء واألثرياء والعامة وأصحاب الفكر على السواء، وال يزال من األقالم أبو ريال إلى مئات الرياالت، إنه سالح العلم واملعرفة ومداد الثقافة، وما أجمل الريشة واملحبرة من شعار رغم كل الوسائط الحديثة للقراء ة والكتابة. قبل أسابيع قليلة ودعنا دورة معرض جدة الدولي للكتاب، وها هي أسابيع قليلة لينتظم معرض الرياض، ويقصدهما اآلالف من العاصمة والعروس واملدن األخرى، ولطاملا سافر الكثيرون من عشاق القراء ة لحضور معارض خارجية طلبا لكتب األدب والثقافة والنقد والسياسة واالقتصاد والعلوم الشرعية واإلنسانية. الــقــراء­ة اإللـكـتـر­ونـيـة تصعب فيها تصفح مئة صفحة وال خمسني منها، وبالكاد كوجبات سريعة لـدى الكثيرين يكفي منها عناوين وأسطر ال تسمن وال تغني من جوع في العلم واملعرفة، ناهيك عن تفشي االقتباس والنقل وجرائم السرقات والتعدي على امللكية الفكرية، وهذا ال يبني إال عقال ضحال ضاال، والصورة ال تؤسس علما وال تثمر فكرا. لهذا ال بد من تشجيع الكتاب والقراءة كمشروع وطني مهما كان طغيان العالم االفتراضي ووسائطه اإللكتروني­ة.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia