مفاتيح الفقهاحلنبلي وأحكام الترفيه واملعازف
فـي عـام 1996 أصــدر الدكتور سالم الثقفي – أسـتـاذ الفقه والــفــقــه املـــقـــارن بــجــامــعــة أم الـــقـــرى، فـــرع الــطــائــف- دراسة شرعية موسعة تقع في 800 صفحة، بعنوان (أحكام الغناء واملعازف، وأنواع الترفيه الهادف) جاءت مختلفة ومغايرة لــلــرأي الـفـقـهـي الــســائــد فــي الــســعــوديــة حــيــال هـــذه املسألة، انتصر فيها للقول بإباحة الغناء بكل أشـكـالـه، واملعازف واملوسيقى بألوانها ومقاماتها ومشاربها، مقررًا أيضًا أن صوت املرأة ليس بعورة، وال حرج من سماعها وهي تغني، كـمـا أن التكسب مــن الـغـنـاء أمــر مــبــاح، كــاســرًا بـذلـك حاجز الصمت – كما يــقــول- «فـسـمـاع النبي عليه الــســالم للغناء مــن الــجــواري مــع املــعــازف، والــحــث عـلـى تـوفـيـره لألنصار يــدل على أنــه ال يـأمـر وال يـرضـى لهم إال األفــضــل.. لـذلـك ال أحــد يـجـرؤ عـلـى الـطـعـن فــي فـعـل رســـول الـلـه وال فــي قوله، وإال كان ذلك ارتـدادًا عن دينه وشرعه -والعياذ بالله-، فإذا تقرر ذلك كيف يوصف سماع الغناء واملعازف وإسماعهما، واالستئجار عليهما، بأنه فعل من السفه وسقاطة املروءة، بل زاد األمـر عن هـذا الحد إلـى وصـف فاعله بالعاصي، أو مرتكب املحرم!». يعد الشيخ سالم الثقفي من الشخصيات العلمية الـبـارزة فـي املنطقة الغربية، وفـي مدينة الطائف تحديدًا، له جهود جليلة في خدمة الفقه الحنبلي تأليفا، وتأريخًا وتحقيقًا، ومن ذلك كتاباه (مفاتيح الفقه الحنبلي) و(مصطلحات الفقه الحنبلي) وهما فـي األصــل أطروحة لرسالته الدكتوراه التي نالها من جامعة األزهــر، بعنوان (الفقه الحنبلي، وكيف وصل إلينا). ولقيت اهتمامًا رسميًا وعلميًا حني صدورهما مطلع الثمانينات امليالدية، حيث شكلت لجنة عليا للنظر في كيفية االستفادة منهما، مكونة من وزيري العدل، والتعليم العالي، والشيخ عبدالعزيز بن باز، وخلصت اللجنة إلى تثمني هذا الجهد العلمي، وتأييد نشره، فوجه امللك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله، حني كان وليا للعهد آنــذاك عــام 1980 بـشـراء الكتابني وتوزيعهما عـلـى الـبـاحـثـني واملـهـتـمـني، كـمـا وزع الـكـتـابـني عـلـى امللوك والرؤساء الذين حضروا (بالغ مكة التاريخي) ضمن مؤتمر القمة اإلسـالمـي الثالث في الطائف عـام .1981 في ملتقى الحنابلة الفقهي على اإلنـتـرنـت كتب خلف الـلـه بـن محيا الثقفي معرفًا بالشيخ سالم، قائال: «قد رأس قسم الشريعة والدراسات اإلسالمية بجامعة أم القرى حتى قبيل تقاعده. كما أشــرف على العديد من رسائل املاجستير والدكتوراه، كان يقضي جل وقته في القراءة والبحث والكتابة، منعزال فـي مكتبته الـخـاصـة بمنزله، زار كــال مـن سـوريـة وتونس وبـريـطـانـيـا ولــبــنــان وإســبــانــيــا وغــيــرهــا، حـيـث حـصـل في رحــالتــه هــذه على 41 مخطوطًا تـخـدم بـحـوثـه، باإلضافة إلــى الـعـشـرات مــن املــراجــع واملــوســوعــات املـطـبـوعـة، وكانت الــدولــة تـدفـع لــه مــا يعينه عـلـى بحثه فــي الـفـقـه الحنبلي، حيث قـدمـت لـه عـهـدة مالية للحصول على كـل مـا يخدمه مــن املـــواد العلمية واملــراجــع. ورغـــم فـقـده لـيـده اليمنى في حـــادث سـيـر مــؤلــم أواخــــر دراسته فـي مرحلة املاجستير إال أن هــذا الـحـدث لـم يثنه عـن حبه للبحث والتدوين، فتدرب على الكتابة باليد اليسرى، وفي مـــدة وجــيــزة أجــــاد الــكــتــابــة بــهــا إجـــــادة تامة. تـوفـي الشيخ سـالـم الثقفي عــام 2009 عن عمر يناهز السبعني، وأم املصلني عليه في الحرم املكي الشيخ عبدالرحمن السديس، ودفـــــــن بــمـــقـــبـــرة املــــعــــالة بــمــكــة املكرمة. وبوفاته فقد الفقه الحنبلي باململكة علمًا من أعالمه، ورجال من كبار رجاله». قدم الشيخ سالم للمكتبة العلمية مؤلفات فقهية نفيسة، إضافة إلى ما سبق اإلشارة إليه من كتابي مفاتيح ومصطلحات الفقه الــحــنــبــلــي، فــقــد ألـــف كــتــابــًا بــعــنــوان (أسباب اخـــتـــالف الــعــلــمــاء) والــــــذي نــــال عــلــيــه درجة املاجستير. وكتاب (أحكام التكبير في العيدين)، و(أحكام تربية شعر الرأس وتهذيبه)، وبحث بعنوان (الزيادة على الـنـص) نشر بمجلة كلية الشريعة بجامعة اإلمـــام محمد بــن سـعـود اإلســالمــيــة وطـبـع باملطبعة السلفية بالقاهرة. وأخيرًا كتابه الذي أثار الردود والجدل واملنع (أحكام الغناء واملــــعــــازف). يــوضــح الــشــيــخ ســالــم فــي مــقــدمــة هـــذا الكتاب السبب الذي دفعه لخوض غمار هذا املوضوع الذي أصبح «مــــن أهــــم وأخـــطـــر مـــواضـــيـــع الـــســـاعـــة التي يعايشها املـسـلـمـون الــيــوم، وتـشـغـل بالهم وتؤرقهم، وذلــك نظرا لكثرة األسئلة عنها، واإلحــســاس بالحيرة مـنـهـا.. فمن جهة أصبح الــغــنــاء كــاملــفــروض عــلــى حــيــاة الــنــاس فــي هذا األوان، وتوارثته األجيال على مر الزمان، فتمكن من حياتهم إلى حد ال يستطيع أحد دفعه، وال يطال منعه.. ومن جهة أخرى كثر اللغط حوله، وارتفع صوت املنع منه، وصور من يتعاطاه بأبشع صــورة، وزادت شـدة الهجوم واللوم على من يقبله أو يعمله، مما زاد في حيرة الناس وتحرجهم، وضـاع صوت العقل في ضوضاء العواطف». يـقـول الشيخ سـالـم: «لــم يــدل على تحريم السماع نـص وال قــيــاس، بــل قــد دل الــنــص والــقــيــاس جميعا عـلـى إباحته.. فـنـصـوص الـسـنـة الـنـبـويـة الـصـحـيـحـة والــصــريــحــة كفيلة بظهور الحق الذي ال مراء فيه، وهو جواز الغناء واملوسيقى.. مما ال يجرؤ مجترئ على تكذيبهما، أو الطعن فيهما، أو تأويلها على خالف ظاهرها إال من رغب عن سنة املصطفى األمني عليه أفضل الصالة وأزكى التسلم». ألجـــــل ذلـــــك يــســتــغــرب الـــشـــيـــخ الــثــقــفــي مــــن حـــيـــرة الناس وخشيتهم «مــع مــا ثـبـت فــي الــشــرع، ونـطـقـت بــه الـسـنـة من حـــل الــســمــاع، وأمـــــام مـــا يــســمــعــون مــمــا كــثــر تـــرديـــده على مسامعهم مــن صـــدور فــتــاوى وأحــكــام شنيعة فــي حــق كل من يبيح الغناء واملعازف من املسلمني، حتى لو كانوا من علية الصحابة والتابعني، واألئمة وأكابر علماء املسلمني، وعـلـى رأســهــم رســـول الـلـه عليه الــســالم، تلك الـفـتـاوى التي تصف الغناء وأهــلــه، ومــن يستمعه بالفسق والــضــالل، بل وأشـــد مــن ذلــك اسـتـحـالل الـــحـــرام!.. كـيـف يستقيم ذلــك وقد اختار إباحة الغناء – إذا سلم من الفحش واملنكر ولـم يله عن ذكر الله والصالة – الكثيرون من أئمة وعلماء اإلسالم، أمثال اإلمام الشافعي، واإلمام أحمد، وأبوبكر الخالل، وابن رجب الحنبلي، وابن حزم، وابن قتيبة، والغزالي، وعز الدين بن عبدالسالم وغيرهم في القديم والحديث، بل إن الكتاني في نظام الحكومة النبوية يقول: إن علم املوسيقى كان في الصدر األول عند من يعلم مقداره من أجل العلوم، ولم يكن يتناوله سوى أعيان العلماء وأشرافهم». يضيف الشيخ سالم: «إن مما يستفز املشاعر هو التطبيق الفعلي لتلك الفتاوى التي بثت اليأس والقنوط في قلوب املسلمني بتحريم الغناء والسماع على صعيد الواقع الفعلي، وتجريم كل من يستمع إليه أو يقول بحله... وهذا الغرض الذي حملنا على جمع هذه الرسالة؛ ألن في الناس من يزعم لقلة عرفانه بعلوم االسـتـدالل، وتعطل جوابه على الدراية بـــاألقـــوال، أن تـحـريـم الــغــنــاء بــاآللــة وغــيــره مــن القطيعات املجمع على تحريمها.. وقد علمت أن هذه فرية فيها مرية وجـهـالـة بـال مـحـالـة، وقـصـر بــاع بـال نـــزاع. فـال يخفى على عـــارف أن رمــي املبيحني للغناء مــن الـصـحـابـة والتابعني وتابعيهم، وجماعة من أئمة املسلمني بارتكاب محرم قطعا، أمـــر مــن أشــنــع الــشــنــع، وأبــــدع الــبــدع، وأوحــــش الجهاالت، وأفحش الضالالت، فقصدنا بهذه الرسالة الذب عن أعراض الصفوة املختارة من الصحابة الطيبني الطاهرين، وعلى رأسهم سيد املرسلني، ومـن سـار على نهجهم من التابعني وأئمة اإلسالم املجتهدين». تـنـاول الثقفي فـي كتابه موضوعات متعددة، مـن أبرزها: مفهوم الغناء واملوسيقى وتاريخ نشأتهما، أنــواع الغناء، وأســـمـــاء اآلالت املــوســيــقــيــة، واملـــقـــامـــات الــصــوتــيــة، أسماء املغنني واملغنيات في عهد الرسول عليه السالم، وفي زمن الصحابة، وعبر الزمان السابق والالحق، وذكـر أسماء من أباح الغناء واستمع إليه من الصحابة والتابعني، ونقاش مفصل حــول مـوقـف املــذاهــب الفقهية مـن الـغـنـاء وأدلتها، وأحـكـام الـرقـص، والتصفيق والتغريد، إضـافـة إلـى نقاش حـــول عـــدالـــة املــغــنــي وحــكــم كــســبــه. وغــيــرهــا مـــن القضايا الـتـي تناولها بـأسـلـوب علمي دقـيـق يـقـوم بـعـرض املسألة وتحرير محل النزاع، وحصر أدلة كل مذهب، ثم تمحيصها وتوثيقها، فمناقشتها واملقارنة بينها ثم الترجيح. انـتـهـى الـشـيـخ الـثـقـفـي مــن كـتـابـة هـــذا املــؤلــف عـــام ،1992 انـتـظـر مــحــاوال الـحـصـول عـلـى تـرخـيـص يسمح لــه ببيعه وتـوزيـعـه داخــل الـسـعـوديـة، حــاول عــدة مــرات لكن لـم يفلح إلى ذلك سبيال، فاضطر إلى طباعته في القاهرة عام 1996 ونشر عن دار البيان للطباعة والنشر، عله يحصل على إذن بتوزيعه داخل السعودية، لكن لم يستطع أيضا. حول ذلك يقول الثقفي في إحدى مذكراته: «عرضت هذا الكتاب على سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، وناشدته بالله أن يهدي لي عيوبي إن كان في هذا املؤلف ما يؤاخذ عليه. فأفادني أنــه ال اعــتــراض لـه على شــيء مـنـه. فطلبت مـن سماحته أن يكتب ملـن يـلـزم بترخيص دخــول الـكـتـاب للمملكة»، ولكن تمضي األيام والسنني ولم يحدث من ذلك شيء.