Okaz

عامان بال خزندار.. «فرانكفوني» عرفته أروقة الثقافة

سارة

- أروى المهنا (الرياض)

فــي الــيــوم الـــــ01 مــن فــبــرايـ­ـر ،2015 غـــادر الساحة الثقافية السعودية أحد أهم كتابها، وال تزال ثكلى بعد الراحل عابد خزندار املولود في حي القشاشية بالعاصمة املقدسة مكة املكرمة عام ،1935 والتي ضمت تاريخه الطويل في مقبرة املعالة حيث ووري جثمانه، وودعه املحبون دون أن يروا ابتسامته، إذ وافته املنية في عزلته االختيارية بعاصمة النور باريس. لم يكن «أمــن خزائن الثقافة السعودية» بالبعيد عن الهم الثقافي في املشهد السعودي كونه استمر في الكتابة الصحفية، معبرا عن آرائـه عبر زاويته املتنقلة «نثار» التي كانت بمثابة صوته املقروء في الزميلة «الــريــاض» لسنوات عــدة، ما دفـع مثقفون إلــى تسميته بــ«مـثـقـف الفرانكفون­ية التنويرية» نسبة إلــى انـهـمـاكـ­ه وانـكـبـاب­ـه عـلـى قــــراءة الثقافة الفرانكفون­ية دون وسيط كونه يجيد أكثر من لغٍٍة تخوله إلـى النهل من معن الفالسفة دون اللجوء إلى «الترجمة» التي يعدها البعض خيانة للنص. ابـــن الـقـشـاشـ­يـة الــتــي عــرفــت أول نــبــوغــ­ه، إذ درس نصير الثقافة التنويرية في كتاتيبها، مستعيدا ذكــريــات­ــه األولـــــ­ى عــبــر الــزمــيـ­ـلــة «الــــعـــ­ـرب»، التحق بــكــتــا­ب لـلـبـنـات، وكــانــت تــديــره امــــرأة تنتمي إلى أســرة الـهـزازي، ليبدأ خطواته العلمية في تهجية األبجدية، ما دفعه إلـى مواصلة تعليمه النظامي في مدرستي الفالح األهلية والرحمانية الحكومية، إضافة إلى انخراطه في تلقي دروس بالحرم املكي ليحفظ ألـفـيـة ابـــن مــالــك عــصــرا، ثــم يشتعل فتيل العلم لديه، ملتحقا بمدرسة تحضير البعثات في عام .1953 وألن مصر تعد أول البلدان الستكمال الدراسة الجامعية، سافر إليها، ومن ثمة انقدحت أولــى شــرارات التنوير في احتكاكه بمثقفي مصر آنــــذاك، واشـتـعـل فــي عقله الـتـنـويـ­ر. انـتـقـل خزندار إلى أرض كنانة كي يصبح طبيبا، لكن أثر القراءة عــلــى عــقــلــه وروحــــــ­ـه دفـــعـــه إلـــــى تــغــيــي­ــر مجريات حياته كاملة ودراسة الهندسة الزراعية في جامعة القاهرة. وفي عام ،1957 يعود خزندار متخرجا في جامعة القاهرة إلى اململكة، ومكتظا بأفكار يسارية وحداثية تشربها من املفكر املصري سالمة موسى املنادي، لينتقل إلى العاصمة الرياض موظفا في وزارة الزراعة آنذاك، وبعد سنوات قليلة عمل مديرا عاما فرع الوزارة بالرياض إلى العام .1962 بـــدأت ثـقـافـة األديـــب واملـفـكـر والـفـيـلـ­سـوف املكاوي تتشكل مـنـذ تــــردده وهــو فـتـى يــافــع عـلـى جلسات الدروس التي تقام في الحرم املكي حيث حفظ فيها ألفية ابن مالك في النحو، قال -رحمه الله- عن تلك الحقبة: «حفظت األلفية منذ أن كنت يافعا على يد مـــدرس إنـدونـيـس­ـي كــان يلقي دروســـه فــي املسجد الـحـرام»، مشيرا إلى دور والـده بإسهامه في صقل مهارات ابنه اللغوية قال عنه: «تعلمت من والدي أكثر مما تعلمت من ابن هشام الذي كان كتابه هذا مقررا علينا بمدرسة الفالح بمكة املكرمة»، ولعل هذا يفسر ضلوعه في النحو العربي رغم كونه لم يتلق فيه دروسا أثناء تعليمه العالي. وبن أحمد العطوي في رسالته التي خصصها لألديب عابد خـــزنـــد­ار تــأثــر األخـــيــ­ـر بــالــشــ­يــخ حــســن منصوري العالم الــذي تــرك أثــرا عميقا فـي تكوين شخصية عـابـد خــزنــدار وبشكل أدق شخصيته فـي الكتابة وأسلوبها، تــوارد عن لسانه امتنانه للشيخ حسن منصوري في تعليمه الطريقة السوية في الكتابة، إذ جاء عن لسانه: «إذا كنت أكتب اآلن بطريقة سليمة فإنني لست مدينا في ذلك لوزارة املعارف ومدارسها إنما مدين به لرجل فذ هو الشيخ حسن املنصوري، أرسلتني إليه والدتي وأنا في العاشرة في اإلجازة املدرسية حيث كنا نقضيها في تلك األيام في منطقة الطائف». بدأ شيئا فشيئا يتعرف على مكتبة والده ومــا تحويه مـن كتب ثرية مـن طـه حسن والعقاد وتوفيق الحكيم كتب عـن هــذه الفترة يـقـول: «من القراءات املهمة بالنسبة لي ما كانت توفره مكتبة والدي من مجلة الرسالة، وهي أعداد قديمة احتفظ بــهــا مــنــذ مـــا قــبــل الـــحـــر­ب، وقـــد أفـــادنــ­ـي وجودها كثيرا، فقد كانت تحفل بكتابات كثيرة من األعالم آنذاك كطه حسن والعقاد وزكي مبارك، والرافعي، أحمد أمن وغيرهم». عرف عن خزندار حبه للعزلة واملطالعة النهمة فكان ال يتوانى في تمضية معظم وقــتــه وهـــو يــقــرأ فــي عــزلــتــ­ه وفـــي مـكـتـبـة الثقافة. عـرف عنه التصاقه الكبير بالكتب واملكتبات كان يحب -رحمه الله- مناقشة الكتب كما فعل بكتاب «شجرة اللبالب» و «غادة الكاميليا». تأثر خزندار فـــــي حـــقـــبـ­ــة مـــــن عــــمــــ­ره بالكاتب املـــــــ­ـــــــــع­ــــــــــ­ــــــروف عـــــــــ­ـــــبــــ­ــــــــــ­دالـــــــ­ـــــــلــ­ــــــــــ­ــه عبدالجبار الــذي أسـهـم بـدفـع التلميذ خزندار في ذلك الوقت إلى عالم الكتابة؛ إذ الحظ عبدالجبار تـــردده الــدائــم إلــى املكتبة واستعارته لــلــكــت­ــب وقــــراءت­ــــهــــا فــــي وقــــــت قـــصـــيـ­ــر، مــــا جعله يـنـدهـش مــن هــذا التلميذ حـتـى وجــه لــه ســـؤاال ما إذا كان يكتب؟ أجاب خزندار بالنفي وعدم معرفته ألســالــي­ــب الــكــتــ­ابــة حــتــى اقــتــرح عـلـيـه عبدالجبار بتلخيص مـقـالـة مــن كــتــاب «زعــمــاء اإلصــــال­ح في الـقـرن العشرين» للكاتب أحمد أمــن ومنها كانت أول مقالة يكتبها خزندار ويلقيها في ندوة بطلب من الكاتب عبدالله عبدالجبار، يذكر أنه تأثر أيضا بـشـخـصـيـ­ات ســعــوديـ­ـة مـنـهـم األســـاتـ­ــذة: «سراج خــــراز، إبــراهــي­ــم فــطــانــ­ي، عــبــدالـ­ـعــزيــز الرفاعي، محمد عبدالقادر فقيه». اهـتـم خــزنــدار بــإثــراء الساحة األدبــيــ­ة والفكرية بــالــتــ­راث الــعــربـ­ـي؛ يـذكـر أنــه خـصـص مساحات كبيرة لهذا الجانب كونه آمـن بحضور التراث كعامل ضروري في مواجهة الثقافات األخرى عــــودة ملــا أســمــاه «عــوملــة الــثــقــ­افــة». عـــرف عن خـــــزنــ­ـــدار اخـــتـــص­ـــاصـــه بـــالـــر­بـــط بــــن القديم والـــحـــ­ديـــث؛ إذ كــــان يــســتــش­ــهــد بــتــأثــ­ره بكتاب «األمالي» ملؤلفه أبو علي القالي، وكتب الجاحظ بجانب استشهاده بكتابات الفيلسوف الفرنسي روالن بـارت والفيلسوف األملاني نيتشه، كما بشر بنقد مرحلة مـا بعد الـحـداثـة، وكــان مـن أوائــل من تحدث عن موت الحداثة والبنيوية. يملك خزندار مــخــزونـ­ـا فــكــريــ­ا ويــعــد أدبـــيـــ­ا كــبــيــر­ا فـــي مجاالت عديدة منها ما جاء في مؤلفاته «اإلبداع»، «حديث الحداثة»، «روايـة ما بعد الحداثة»، «معنى املعنى وحقيقة الحقيقة»، «أنـثـويـة شــهــرزاد»، «مستقبل الشعر موت الشعر»، «املصطلح السردي»، «معجم مصطلحات السيميوطيق­ا»، «التبيان فـي القرآن: دراسة أسلوبية»، «الربع الخالي»، «قراءة في كتاب الـــحـــب»، تـعـد روايــــة «الـــربـــ­ع الــخــالـ­ـي» أول أعماله الروائية كتبها خزندار باتزان وخبرة وتـأٍٍن كبير. هو الكاتب املحنك الـذي عايش مراحل مــتــعــا­قــبــة وأزمنة عابد في متعددة

مـخـتـلـفـ­ة، واكــــب التاريخ وهــــو يــعــيــد نــفــســه بــأشــكــ­ال مــخــتــل­ــفــة. يروي خــزنــدار فــي الــربــع الـخـالـي فــي الــصــحــ­راء الكبيرة الــغــامـ­ـضــة قـصـصـا غـنـيـة تـفـتـح لــلــقــا­رئ مناخات جــديــدة وكـأنـهـا صــدى لفترة الـتـحـول «الستينات من القرن العشرين»، يمرر خزندار في روايته الربع الخالي قضايا تاريخية وعربية مهمة ومفصلية منها أحـداث حرب أكتوبر في الستينات امليالدية. هــذا وقــدم خـزنـدار للقارئ مـن خــالل كتابه «قراءة في كتاب الحب» مجموعة غنية من املقاالت املطولة السردية والنقدية والفكرية طبعت في ذهن املتلقي فكرة املحلل والباحث واملطلع بعمق على الثقافة العربية والغربية التي يتمتع بها الكاتب هو املعلم املـتـحـلـ­ي بــــاألدب الــجــم املــنــبـ­ـه لــألخــطـ­ـاء الــتــي يقع فيها الـنـقـاد املــعــاص­ــرون، املــرشــد واملــوجــ­ه لعوالم األدب ومـــرتـــ­ادي مــجــالــ­ســه، يــقــدم الــفــكــ­رة األدبية بـإطـاره الخاص بعيدا عن التسطيح، هـذا ويشغل الــفــيــ­لــســوف املـــكـــ­اوي فـــي فــضــاء الــنــقــ­د والحداثة مكانا ال يمكن االستهانة به. يذكر أنه اتجه للنقد بعد عمر الخمسن عاما حيث قــدم مـن خــالل هذا الفضاء نظرياته الخاصة وأسئلته املألوفة لتمرير ما يريد من النقد، وبعد ذلك يقوم بتفكيك ما جاء به منفتحا في الوقت ذاتـه على الثقافة اإلنسانية بشكلها الـعـام، كونه آمـن بالتعددية النقدية، ولم يسلك اتجاها واحـدا بعينه، وكنموذج ألعماله ما جاء به في كتاب «حديث الحداثة» إذ يطرح سؤاال في كتابه «حديث الحداثة» ماذا إذا كان هناك حداثة عربية؟ يقول: «هل أستطيع أن أقول إن هناك حداثة عربية، وإن كــان، هل أستطيع أن أقــول إن الحداثة العربية بدأت من أبي تمام، وأن حداثيي اليوم ما هم إال ورثة أبي تمام؟ يطرح في كتاب «قضية مــا بـعـد الــحــداث­ــة»، نشأة حياته، اشتهر في الفرانكفون­ية. الـحـداثـة من منظور ليفنسون، إضافة لقضية الشعر العربي الذي ظل حبيسا لفترة طويلة بالقافية والـــوزن التقليدي. يـعـود مفهوم «السيميوطيق­ا» في كتابه «معجم مصطلحات السيميوطيق­ا» إلى مفهوم من مفاهيم النقد الحديث يعود هذا امليدان في تاريخه لتاريخ أفالطون وأرسطو وغيرهما من فالسفة العصور الوسطى وحتى العصر الحاضر؛ إذ يعتبر مجاال مـن مـجـاالت النقد األدبـــي. يعتبر عمل خـزنـدار في هـذا املـيـدان عمال عظيما يرجعه املـتـابـع ألدب وفـكـر األديـــب إلــى تمكنه مــن البحث واالســتــ­قــصــاء وراء املــعــلـ­ـومــة دون كــلــل ومــلــل بل بشغف ومثابرة ومتابعة. يؤمن خزندار بالبدايات ولكن ال يعطيها أهمية بالغة؛ إذ إن التوقف عند اإلشارة األولى غير مجد في شيء. يخوض خزندار في كتابه «مستقبل الشعر.. موت الشعر» في حقيقة مواطن الجمال في عوالم الشعر. يطرح خزندار من خــالل كتابه تــســاؤال­ت عـديـدة عـن مستقبل الشعر فـي ظـل هيمنة املـيـديـا؛ إذ يــرى أن وسـاطـة امليديا تفقد الـشـعـر وصـفـه كـعـالقـة حميمية بــن الشاعر واملـتـلـق­ـي، وهـــذا ال يعني ســوى مــوت الـشـعـر، كون امليديا اليوم تعتبر مادة استهالكية تفقد الجمال معناه الحقيقي، وكــل ذلــك مـن أجــل تحقيق الربح السريع على حد وصفه، متسائال: «ما مصير الشعر والشاعر ومستقبلهما في مجتمع امليديا؟». له في النقل والترجمة باع طويل حيث ترجم ملنظرين في ما يخص مرحلة بعد الحداثة وتــــــــ­ـفــــــــ­ـرد -رحــــــــ­ـــــمــــ­ـــــــــه الــــــــ­ـلــــــــ­ـهبانتقائه ملا ينقل لثقافته منها ما ترجم في املصطلح السردي قاموس يضفي سمة العلمية على الـسـرد منذ املــدرســ­ة الشكالنية الـروسـيـة وما تبعها من مد بنيوي. نالت سيرة حياة الكاتب عابد خزندار اهتمام الباحثن في الحقل األدبي والفكري؛ إذ أصــدر الـبـاحـث أحـمـد الـعـطـوي «أنــمــاط القراءة النقدية في اململكة العربية السعودية عابد خزندار نموذجا» عن مؤسسة االنتشار العربي في بيروت. كما صدر عن الباحث محمد القشعمي دراســة عن األديــب الـراحـل أطلق عليها «عـابـد خـزنـدار مفكرا ومبدعا وكاتبا». تمترس الكاتب واألديــب الراحل عابد خزندار في حقول معرفية متنوعة وخصبة، نهل منها ما نهل، وقدم من خاللها نتاجات فكرية إبداعية مهمة ومفصلية خصوصا في فضاء حركة التنوير السعودي.

 ??  ?? الراحل خزندار مراحل من إذ باهتماماته الثقافة
الراحل خزندار مراحل من إذ باهتماماته الثقافة
 ??  ?? صورة للراحل قبل رحيله بشهرين في مقر إقامته بباريس.
صورة للراحل قبل رحيله بشهرين في مقر إقامته بباريس.
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia