أثر.. مقطع من رواية الفيومي
الجبال.. الجبال.. ال حـيـاة فـي الجبال بعد رحيله، املـطـر لـم يــأت منذ فترة طويلة، غبش في الصور بسبب الغبار العالق الذي ال يريد النزول وال الصعود، متشبث بالتضاريس والهواء. ال تكاد ترى حياة هناك، ال طيور جارحة، ال رفرفة حجل، وال صوت ألبي معول، ال ضحكات وبارة تتردد في صدور الجبال، وال نقيق للضفادع في غدران الشعاب. السقيفة مبقورة، باردة بال دفء، املكان يشتاق ملداعبات األحبة في لحظات الصفاء، املوقد يفتقد حرارة الجمر، ورائحة الخبر، الوحشة هي الساكن هناك، الساكن الذي يبغض الحياة. «الــصــفــر» هـو مـا تبقى مـن املـواجـهـة بـن فــرد ضعيف، وقوة
َِّ مـوجـهـٍة ال تشعر، الـِصـِفـر املـبـثـوث الــقــادمً مـن نـحـاس األرض يرغب في العودة إلى قلوب الصخور بدال من رؤوس الناس، وقلوبهم. «الِصِفر» بعد أن تخلص من رؤوسه عبر حلوق البنادق، بقي جثاثا صـفـراء، ال حياة لها سـوى البريق الـذي يحدثه النجم الكبير، البريق في الصدوع، والجباه، على الصخور، وأسفل جذوع الشجر.ٌ «الصفر» جثث أخرى في املعارك، فراغ مرعب محروق داخله، بعد أن كان يحبس الدوي واالشتعال، واملوت. املوت في الطرف املقابل، مـوت البشر، أو مـوت املعابر سحال فوق الصخور، أو بردا في سماء الله. األشجار يابسة، البشام دون لحاء؛ بسبب جوع الكائنات التي ال ترى، والغدران نشف أغلبها، وبقي بعضها محتفظا بفضلة خضراء آسنة، ضاقت بالضفادع، وشراغيفها.
َُّ الـشـعـب يفتقد خطى الـصـيـاد الــذي ال يــصــِدر صـوتـا إال نداء لـلـصـيـد؛ كــي يــأتــي لـسـد الــجــوع، الــصــيــاد الـــذي يـنـقـذ النحل الغارق، الذي يتأمل العقاب الجاثم فوق القمم ينتظر الطرائد، الصياد الذي يبخر الشعب برائحة الحطب، والشواء. الصخور الحادة اشتاقت للعرق األصيل، ملوحة العناء واالنتظار والترصد، العرق الرطب الـذي ينز عبر املسام التي تفتحت بفعل التسلق الدائم نحو شعف الجبال، ومقابلة النجم مباشرة دون حائل، عرقه الحر الذي لم تخنقه مدن اإلسمنت، وأجهزة التكييف. تمت مصادرة السالح والذخيرة من البيت والسقيفة، رحلت العجوز واملاشية، وحول البيت الذي كان لف ا شريط يمنع الناس من دخوله. البيوت في شعب آل فيوم مـوات، أصبحت مأوى للدبابير، وقرود البابون، غــــاب مــــن كــــان يـــطـــاردهـــا، ويـــثـــور الــبــنــادق نــحــوهــا، سقوف املنازل بدأت تنهار؛ بسبب النمل األبيض، هو بيت الحجر الذي ما زال صامدا في وجه الزمان. عـلـى أطـــراف الــــوادي الــبــالد التي لم تزرع منذ أمد، فغزتها أشجار الـــــشـــــوك مـــــن ســـلـــم وســـــمـــــر، على األطـــــراف أشــجــار الــســدر الــتــي ما زالت كريمة تطرح النبق الناضج، فـــال يــجــد ســــوى الــنــمــل، والـــــدود، وطـيـور الـــدوري الـتـي تتقافز في الظالل، تلك التي لم تحفل بإنسان بعد املواجهة األخيرة. الـــفـــتـــى الـــنـــحـــيـــل األســـــمـــــر بفعل الـــشـــمـــس، وركــــــــوب الــــجــــبــــال، ذو الشعر األســود األشـعـث، واللحية التائه، وجــدوه مغمى عليه بعد أن نـزف، مـمـددا فـوق الصخور، مستورا جذعه بمصنف جنوبي مــلــون، فحملوه، فانحل اإلزار، فتاهت الـنـظـرات في املــكــان، فــأخــذت تــقــرض الــشــجــر، والــبــالد والــقــمــم «الفاهقة»، والسماء العاجزة عن فعل شيء سوى النظر بزرقة باردة. كان آخر شيء باشر األرض بعد الرصاص املسكوب، دم الفتى الــذي نـزف ذاكـرتـه بكرم جنوبي مشهود في الـــوادي، الذاكرة التي تنتظر السيل، عله يجرفها للبحر، فيعرف البحر قدر الجبال. ____________ * روائي سعودي