Okaz

في عزلة أوستر مات األب مرتني

- محمد أحمد عسيري*

ال أحد منا كان يعلم شيئا عن مشاعر األديب بول أوستر نحو والده. لم نكن نهتم لذلك قبل أن يرن جرس الهاتف معلنا رحيل األب. هنا تحول أوستر إلـى ابـن يفتش عن شـيء فقده، حتى وإن لم يكن يهتم ألمره قبل لحظات من املكاملة. أن تكتب عن شخص تربطك به عالقة طويلة أمر في غاية الصعوبة؛ ألنك ستحتار في كيفية البداية وكيف ستنهي املشهد األخير بطريقة الئــقــة. حـــاول بــول اوســتــر فــي مــذكــرات­ــه، «اخــتــراع الــعــزلـ­ـة» الــصــادر­ة بنسختها العربية عـن دار أثــر ،2016 وقــام بترجمتها املـبـدع أحـمـد العلي أن يكتب عن والده، أن يبقيه حيا من خالل الكتابة بعد أن باغته املوت، وكأنه يريد أن يشاهد والـده أكثر وضوحا بعد أن يئس من العثور عليه في داخله.. أن يتعاطف معه كبقية األبناء. األب الذي كان حاضرا جسدا أمامهم، ولكنه لم يخلد بتفاصيله الدافئة في قلوب أبنائه. هكذا هم األبناء دائما عندما يستيقظون ويجدون أن آباءهم قد رحلوا وأغلقوا خلفهم نافذة األمان، أو كما كتب الناقد الكبير األستاذ عبدالله السفر في افتتاحيته للكتاب (األبناء نيام، فإذا مات اآلباء انتبهوا). فإنهم يحاولون اللحاق بآخر مشاهد الذاكرة لعلها تسعفهم. أوسـتـر وجــد نفسه فجأة يقف فـي صـف واحــد مـع املــوت، والكثير من التساؤالت، واملشاعر املهزومة، لم يكن مستعدا لهذا الرحيل الذي جاء بال مقدمات. في الفصل األول بورتريه لرجل غير مرئي يجد نفسه محاطا بأشياء والده القديمة وذكريات معطوبة. وهو الذي قرر أن يكتب عنه من أجل أن يبقيه معهم، ولكن قبل كل ذلك أراد أن يكتب الحقيقة التي كان يعرفها هو. لقد كان ينظر لوالده على أنه شخص غير مرئي، لم يخلد خلفه ذاكـرة وأحداثا تساعد على بقائه، ومع ذلك شرع في الكتابة وال أدري إن كان محايدا أم متحامال؟ شعور لزج ذلك الذي يشدك بقوة ويسحلك سحال من أجل أن تتذكر والدك. تحاول استدعاء صورته فال تحضر، تناديه وال يجيب. ومع ذلك تستمر في الكتابة وكأنك تسير في صحراء قاحلة، هنا يتحول كل شيء إلى انتقام من املاضي ومن الذكريات القاتمة. وهل اآلباء بال ظالل إلى هذا الحد؟ أم أنه والد أوستر وحده من تبخر، ولم يتبق منه سوى تفاصيل باردة وأشياء ليست ذات قيمة. يصف أوستر حاله بعد وفاة والده باملريبة فيقول: «أتذكر أننى لم أذرف دمعا، ولم أشعر بالعالم يتهاوى من حولى، ويا للغرابة، لقد كنت مستعدا، بشكل الفت لتقبل املوت على الرغم من بغتته». وكأن الرابط الوجداني الذي يخلق فينا مشاعر الحزن والفقد لم يكن موجودا من األساس بن األب واالبن. وهذا ما جعل أوستر في حالة من التبلد العاطفي مع علمه أنه لن يرى والده بعد ذلك اليوم. يقول عن مواجهته ألغراض والده امليت: «ال شيء أكثر رهبة من مواجهة أغراض رجل مات، األشياء تهمد أيضا، فمعناها كامن فى دورها خالل حياة صاحبها وحسب، وعندما تتوقف تلك الحياة، يجري داخل األغراض تحول ما، حتى بدت باقية كما كانت، إنها هناك في مكانها وفي الوقت نفسه ليست هناك، إنها أشباح ملموسة، ومحكومة بالبقاء على قيد الحياة في عالم ال تنتمي إليه». والطبيعي أن مواجهة حاجيات امليت في املـرة األولى مربكة، تكون مشاعرنا أمامها متقطعة بـال معنى، ولكن أوسـتـر كــان بمقدوره أن يعلق على األمـر بقوة الكاتب وإبــداع قلمه. في الكتاب/السيرة.. يجد الكاتب الفرصة متاحة ملحاكمة األب. يصفه بالبخل والعزلة ومحاولة التضييق على أبنائه. لم يشفع املوت للرجل الراحل أمام االبن الكاتب، لم يحاول ولو ملرة واحدة أن يجمل والده ويحتضنه معوضا الفراغ الذي أحدثه موته. لم يكن الوالد سوى رجل غير مرئي في نظر االبن الذي كتب عن كل شيء تقريبا إال عن حبه لوالده.. الحب الذي يبدو أنه لم يخلق أصال. يقول عنه: «إنه مجرد شخصية خيالية، رجل ذو مــاض مظلم، أمـا حياته الحاضرة فلم تكن سـوى محطة وقــوف فقط». فيما يبدو أن حياة األب واالبـن كانت سجاال بينهما. األب الذي يعتقد أنه قد أصيب بالخيبة من ابن يضيع وقته بكتابة الشعر، وابن يرى أن والده لم يقدم له الدعم الكافي ملواجهة الحياة. هذا السجال وصل ذروته عند أوستر وهو يكتب. لم يضع فلترا النتقاء األلفاظ والعبارة التي تليق برجل ميت، وقبل ذلك أب. الخروج من نفق هذا الكتاب وخصوصا الفصل األول مغامرة منهكة، أمر شاق لدرجة أنني أقلب الصفحات وأنا بن شعورين: أحدهما فطري، وهو موقف الكاتب من والده وحزني على الطفل الصغير داخل الكاتب والذي كــان يـريـد أبــا كبقية األطــفــا­ل. والـشـعـور اآلخــر براعة الكاتب في صناعة اللقطات والوصف، وكأنه يمشي فوق حبل رفيع دون أن يختل. هـــذا الــكــتــ­اب الـــذي يــعــده املــؤلــف جــوهــر أعماله كـلـهـا، كـــان حــالــة مــغــايــ­رة فــي قــــراءة الــســيــ­رة أو املذكرات. لقد كان مغايرا لدرجة الشعور بــالــحــ­زن أحــيــانـ­ـا؛ ألنــنــا فــي املقام األول آبــاء أو في طريقنا لنكون يوما ما آباء، ولكنه كتاب يصل بــــــنــ­ــــا إلــــــــ­ـــى آخــــــر مراحل الرضى. ___________ * قاص وكاتب

سعودي.

 ??  ?? باول أوستر
باول أوستر

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia