املستهلك غادر الصندوق..!
قبل سنوات قليلة كنا نتحدث بقلق عن التحوالت الكبرى في األنماط االستهالكية تجاه املحتوى الــثــقــافــي واإلعــــالمــــي نـتـيـجـة الـــقـــفـــزات التقنية املتوالية وجـنـوح املـــزاج الـعـام نحو املـحـتـوى اإللـكـتـرونـي ما ساهم في ارتفاع نسبة قراء املواقع اإللكترونية للصحف بمئات األضـعـاف عن نسبة مشتري نسخها الورقية، وهــذا ما حدث أيضا إلصـــدارات دور النشر التي لـم يعد بإمكانها السيطرة على املحتوى الــذي تقتات مـن إنتاجه وتـوزيـعـه، إذ بــات من السهولة بمكان أن يبتاع أي شخص عابر كتابًا ويحوله إلى نسخة إلكترونية ثم ينشره على شبكة اإلنترنت لتضيع حقوق الناشر واملؤلف، وقبل ذلك كله ربحية الدار واضعًا إياها وجها لـوجـه مــع شـبـح اإلفـــالس دون أن يــرف لــه جـفـن، بــل إن األكثر غـرابـة أن معظم مـن يفعلون ذلــك هـم فئة املؤلفني بشكل غير مـعـلـن، رغــبــة فــي زيــــادة جـمـاهـيـريـة إصــداراتــهــم، إذ ال تشكل قيمة مبيعات الكتاب العربي املتدنية أي مطمع للمؤلف كما هو معروف للجميع، وهـذا كله بالطبع ال يعني معظم القراء الشغوفني باالطالع والقراءة عبر أجهزة هواتفهم الذكية في هذا العصر. اليوم اتضح أن القفزات التقنية تعدت املخاوف القديمة بمراحل إذ باتت شركات اإلنتاج الفني التقليدية على وشك االنقراض بسبب كـسـاد بضاعتها الـتـي نهبها أفـــراد قبيلة «يوتيوب» عـيـانـا بـيـانـا وقــدمــوهــا لـلـنـاس مـجـانـا، وهــو مــا حــدث أيضا لكثير مـن القنوات التلفزيونية التي استغنى عـن متابعتها املشاهد ألن محتواها بـات متاحًا عبر تطبيقات الفيديو في هاتفه الذكي دون أن يلزمه بوقت مشاهدة محدد كما هو متاح في تلك القنوات، بل إن كثيرا من الناس وأنا أحدهم استغنوا عن أطباق التقاط الفضائيات وملحقاتها تماما واستعاضوا عن ذلك بأجهزة الـ «كروم كاست» صغيرة الحجم التي تعرض املــحــتــوى اإلنــتــرنــتــي والــهــاتــفــي عـلـى شــاشــات الـتـلـفـزيـون في منازلهم بدقة وجودة عالية. آخــر املتضررين مـن التكنولوجيا االتصالية وربـمـا أكثرهم تأثرا بانتشارها هم أصحاب املتاجر التقليدية الذين انخفضت مبيعات متاجرهم بشكل كبير نتيجة توافر بضائعهم وما هو أفضل منها في املتاجر اإللكترونية على شبكة اإلنترنت، وهي متاجر تـوفـر خـدمـة التوصيل الـسـريـع لـلـمـنـازل، ليصبح من املـؤكـد أن أي متجر تقليدي يقدم منتجات كمالية كاملالبس والــســاعــات والــعــطــور واألجـــهـــزة وغــيــرهــا وال يـمـتـلـك منصة إلـكـتـرونـيـة لبيع بضاعته فــي الـطـريـق ملــغــادرة الــســوق بغير رجعة ألنـه توقف في حقبة زمنية غـادرهـا املستهلك مستقال قطار التقنية دون أن يلتفت للخلف. ما ينبغي أن يفهم من كل ما سبق هو ضـرورة إدراك صاحب أي تــجــارة أو مــحــتــوى مـعـلـومـاتـي أو مـنـتـج مــطــروح للبيع واالســتــهــالك أن فلسفة التقنية االتـصـالـيـة الــيــوم هــي (جعل الحياة أكثر سهولة) وبناء على ذلك تنجح املشاريع أو تفشل، وال عـالقـة لـأمـر بـالـحـظ ودعـــاء الــوالــديــن، فـالـسـمـاء ال تمطر أربــاحــا فــي جـيـوب مــن لــم يستوعبوا دور التقنية واألنماط العصرية للمستهلك الــذي غــادر الصندوق فيما هم ما زالوا يقفون أمامه بانتظار عودته مرة أخرى.