Okaz

الطقوس االجتماعية

فن اختراع التقاليد وصناعة

- Arash5@hotmail.com

قـــد تــبــدو كـلـمـة «اخـــتـــر­اع الــتــقــ­الــيــد» غــريــبــ­ة بــعــض الشيء، فــاالخــت­ــراع يعني اسـتـحـداث شــيء جــديــد، فــي حــن أن كلمة التقاليد تعبر بشكل كبير عن الجذور التاريخية، واألصالة الـزمـنـيـ­ة لـظـاهـرة مــا، أو مـمـارسـة اجـتـمـاعـ­يـة معينة. وهذه األصـالـة تصبغ على التقليد أو الطقس االجتماعي سطوة وقيمة تمنحاه البقاء والقوة في مواجهة التغيرات الحديثة، بصفته معبرا على األجــيــا­ل السابقة، وصـمـام أمــان يحفظ روح الهوية االجتماعية ونقاءها. لكن املـفـارقـ­ة هـنـاك أن أطــروحــة تاريخية علمية حـاولـت أن تقدم نظرة جديدة في التعامل مع البنية التاريخية للتقاليد، باعتبارها أمــرًا وضـعـيـًا، أي أن جــزءا كبيرا منها يفترض الناس أنه يعود إلى زمن سحيق، في حن أن الحقيقة والدراسة التاريخية تثبت أن أصول هذه التقاليد تعود نشأتها إلـى زمـن قريب ألسـبـاب وظروف عارضة تمامًا أو مصنوعة صنعًا عبر أشخاص أو مؤسسات، ثم تؤسس بذلك األساطير واألفكار املـسـبـقـ­ة واألوهــــ­ـام األيــديــ­ولــوجــيـ­ـة الــتــي تحقق ملصالح مادية أو سياسية. وهكذا يصير األمر كـلـه تقليدا تتبناه الـجـمـاعـ­ة وتعيشه ليصبح عنصرًا جوهريا في هويتها، وشخصيتها التي تعي نفسها من خاللها، بصرف النظر عن كل ما في هذا التقليد من اصطناع واختراع قد ال يكون له أصل أو ارتباط بروح وتراث األمة والجماعة. يقدم الباحثان إيـريـك هـوبـزبـاو­م وتيرينس رينجر نماذج على هذه النظرية في كتاب صادر عن هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، بعنوان (اختراع التقاليد.. دراسة في نشأة التقاليد ودوافعها وتطوراتها). من ذلك حن يحتفل االسكتلندي­ون مـعـًا بهويتهم الـقـديـمـ­ة، فـإنـهـم يحتفلون بـطـرائـق تقليدية مــتــجــذ­رة، فــالــرجـ­ـال يـــرتـــد­ون مـــا يــســمــى: الـكـلـتـي­ـة -مالبس تقليدية للرجال في املناطق املرتفعة باسكتلندا- وهي تنورة تــصــل إلـــى الــركــبـ­ـة، بــكــســر­ات مــن الــخــلــ­ف فقط دون األمـــام، وكــل جماعة لهم نــوع خــاص من القماش، ويرافق احتفالهم عزف للمزامير ذات القرب، يحيون من خالل هذه الرموز طقوسهم القديمة، تلك الطقوس التي تعود أصولها إلى زمن سحيق! لـــكـــن الــحــقــ­يــقــة لــيــســت كــــذلـــ­ـك، وأصـــــــ­ـول هذه الطقوس ليست بهذا القدم كما يتوقع، فهذه الرموز ومعها الرموز األخـرى لالسكتلندي­ن هي إبداعات حديثة تمامًا، إذ يبدو أن صانعًا إنجليزيًا من مدينة النكاشاير اخترع الكلتية القصيرة في بدايات القرن الثامن عشر، حيث كـــانـــت فــكــرتــ­ه مــحــاولـ­ـة إيـــجـــا­د لـــبـــاس مالئم للعمال قاطني الهضاب االسكتلندي­ة. لقد كان هذا الزي الذي يمثل القومية االسكتلندي­ة اآلن نتاجًا للثورة الصناعية، فلم يكن الغرض منه الحفاظ على األعراف املـتـوارث­ـة عبر الــزمــن، بـقـدر مـا كنت الـفـكـرة اجــتــذاب قاطني الــهــضــ­اب مــن املـــــزا­رع إلـــى املــصــان­ــع، فــي حــن كـــان الغالبية الساحقة مـن سـكـان اسكتلندا الـذيـن يسكنون فـي األراضي املنخفضة يــنــظــر­ون بــشــيء مــن االحــتــق­ــار إلـــى لــبــاس سكان الهضاب، الذي يمثل اآلن الزي القومي االسكتلندي. من جانب آخر، فإن األداة املوسيقية املعروفة بـ(القرب) التي يشتهر بها أهل اسكتلندا، ويعتبرونها من التراث الكالسيكي املعبر عن روح القومية األسكتلندي­ة، هي في الحقيقة تعتبر أداة حديثة إلــى حـد كبير، حيث اخـتـرعـت بعد الــوحــدة مع إنجلترا بوقت طويل، وكانت بمثابة احتجاج سياسي ضد انجلترا. يـشـيـر املـــؤرخـ­ــان إلـــى مــفــارقـ­ـة عجيبة وهـــي أن هـــذه (القرب املوسيقية) في أوائــل ظهورها لم يكن ينظر إليها باحترام أو تقدير بن األسكتلندي­ن، بل كـان ينظر لها من الغالبية العظمى باعتبارها رمزا للمتشردين والكسالى واللصوص واملـبـتـز­يـن مــن سـكـان إقـلـيـم املـرتـفـع­ـات، الــذيــن كــانــوا مصدر إزعــــاج وأذى لـسـكـان أسـكـتـلـن­ـدا املـتـحـضـ­رة الــقــديـ­ـمــة، ولكن تمضي األيـــام، ويصبح هـذ الـرمـز املنبوذ املحتقر نموذجا لألصالة، وتجسيدا القومية والهوية التاريخية. يعلق عالم االجتماع اإلنجليزي أنطوني جدينز حول هذه الــفــكــ­رة فــيــقــو­ل: «إن مــن الــخــراف­ــة االعــتــق­ــاد بأن الــتــقــ­الــيــد مــحــصــن­ــة ضـــد الــتــغــ­يــيــر، فالتقاليد تتطور عبر الزمن، بل يمكن أن تتبدل أو تتحول فجأة بشكل تام، ولعلي أستطيع القول إنها تخترع، ويعاد اختراعها… فخطاب عيد امليالد الذي تلقيه امللكة، ويــذاع كل عـام في بريطانيا أصبح تقليدًا، على الرغم من أن هذا التقليد بدأ في سنة .»1932 إن ما تتميز به التقاليد ليس عمقها، وتجذرها عـبـر الــزمــن فـحـسـب، وإنــمــا أنــهــا تـخـلـق مناخًا للفعل يمكن أن يستمر من دون تفنيد، يستمر في إطار يحجم العقل، ويقمع أي أسئلة تريد أن تشكك فـي هـذا التقليد، أو تتساءل حـول جــدواه، وحقيقته، فــغــالــ­بــًا يــكــون لـلـتـقـال­ـيـد حــراســهـ­ـا، هــــؤالء الـــحـــر­اس ليسوا بــالــضــ­رورة الـحـكـمـا­ء والــعــلـ­ـمــاء، وإنــمــا هــم الــذيــن حالفتهم الــظــروف ليمتلكوا «الــقــدرة عـلـى تــأويــل الحقيقة الطقسية للتقليد»، كما يصف ذلك جدينز. فهم وحـدهـم الـذيـن يمكنهم فهم الــرمــوز الخفية املتضمنة في الطقوس الجمعية، إلـى درجــة تشكل هـذه التقاليد عند ممارسها نوعًا من أنواع الحقيقة، هو يرتكبها بشكل تلقائي متكرر، من دون أن يسأل نفسه عن البدائل، حتى لــو كــانــت هـــذه الـتـقـالـ­يـد بـحـد ذاتــهــا تـمـثـل له مشكلة، أو عائقًا، أو مصدرًا لإلرهاق. يؤكد الباحث البريطاني هوبزباوم في كتابه (اخــتــراع التقاليد) أن كثيرا مـن تقاليد األمم املــعــاص­ــرة هــي فــي الــواقــع اخــتــراع­ــات حديثة، بـدأت في الربع األخير من القرن التاسع عشر وامـــتـــ­دت إلــــى فــتــرة الـــحـــر­ب الــعــامل­ــيــة األولـــــ­ى. «فاألمم الحديثة احتاجت على نطاق واسع إلى صنع تقاليد، أي إلى أنظمة وطقوس وشعائر عامة، ويبدو أن األمــر وثيق الصلة بانفصال هـذه األمــم عـن تواريخها القديمة، وبموجات الـــحـــد­اثـــة املــتــال­حــقــة.. إن هــنــاك احـــتـــم­ـــاال بأن عملية اختراع التقاليد قد حدثت في كل مكان وزمان، ولم تخل حقبة زمنية أو حيز مكاني منها، لكن علينا أن نتوقع حــدوث غـرس للتقاليد بشكل أكثر كثافة وتكرارًا عندما تؤدي سرعة التحول املجتمعي إلى إضعاف أو تدمير األنماط االجتماعية التي قامت من أجلها التقاليد القديمة، أو ظهور أنماط مجتمعية جديدة ال تنطبق عليها التقاليد القديمة، أو أن تصبح تلك التقاليد ومؤسسوها ومروجوها غير قـادريـن على إبــداء املـرونـة والتكيف، أو أن يتم القضاء على التقاليد القديمة بأي سبب آخر». * باحث وكاتب سعودي

 ??  ?? عبد اهلل الرشيد * غالف الكتاب
عبد اهلل الرشيد * غالف الكتاب
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia