الطقوس االجتماعية
فن اختراع التقاليد وصناعة
قـــد تــبــدو كـلـمـة «اخـــتـــراع الــتــقــالــيــد» غــريــبــة بــعــض الشيء، فــاالخــتــراع يعني اسـتـحـداث شــيء جــديــد، فــي حــن أن كلمة التقاليد تعبر بشكل كبير عن الجذور التاريخية، واألصالة الـزمـنـيـة لـظـاهـرة مــا، أو مـمـارسـة اجـتـمـاعـيـة معينة. وهذه األصـالـة تصبغ على التقليد أو الطقس االجتماعي سطوة وقيمة تمنحاه البقاء والقوة في مواجهة التغيرات الحديثة، بصفته معبرا على األجــيــال السابقة، وصـمـام أمــان يحفظ روح الهوية االجتماعية ونقاءها. لكن املـفـارقـة هـنـاك أن أطــروحــة تاريخية علمية حـاولـت أن تقدم نظرة جديدة في التعامل مع البنية التاريخية للتقاليد، باعتبارها أمــرًا وضـعـيـًا، أي أن جــزءا كبيرا منها يفترض الناس أنه يعود إلى زمن سحيق، في حن أن الحقيقة والدراسة التاريخية تثبت أن أصول هذه التقاليد تعود نشأتها إلـى زمـن قريب ألسـبـاب وظروف عارضة تمامًا أو مصنوعة صنعًا عبر أشخاص أو مؤسسات، ثم تؤسس بذلك األساطير واألفكار املـسـبـقـة واألوهـــــام األيــديــولــوجــيــة الــتــي تحقق ملصالح مادية أو سياسية. وهكذا يصير األمر كـلـه تقليدا تتبناه الـجـمـاعـة وتعيشه ليصبح عنصرًا جوهريا في هويتها، وشخصيتها التي تعي نفسها من خاللها، بصرف النظر عن كل ما في هذا التقليد من اصطناع واختراع قد ال يكون له أصل أو ارتباط بروح وتراث األمة والجماعة. يقدم الباحثان إيـريـك هـوبـزبـاوم وتيرينس رينجر نماذج على هذه النظرية في كتاب صادر عن هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، بعنوان (اختراع التقاليد.. دراسة في نشأة التقاليد ودوافعها وتطوراتها). من ذلك حن يحتفل االسكتلنديون مـعـًا بهويتهم الـقـديـمـة، فـإنـهـم يحتفلون بـطـرائـق تقليدية مــتــجــذرة، فــالــرجــال يـــرتـــدون مـــا يــســمــى: الـكـلـتـيـة -مالبس تقليدية للرجال في املناطق املرتفعة باسكتلندا- وهي تنورة تــصــل إلـــى الــركــبــة، بــكــســرات مــن الــخــلــف فقط دون األمـــام، وكــل جماعة لهم نــوع خــاص من القماش، ويرافق احتفالهم عزف للمزامير ذات القرب، يحيون من خالل هذه الرموز طقوسهم القديمة، تلك الطقوس التي تعود أصولها إلى زمن سحيق! لـــكـــن الــحــقــيــقــة لــيــســت كــــذلــــك، وأصــــــــول هذه الطقوس ليست بهذا القدم كما يتوقع، فهذه الرموز ومعها الرموز األخـرى لالسكتلندين هي إبداعات حديثة تمامًا، إذ يبدو أن صانعًا إنجليزيًا من مدينة النكاشاير اخترع الكلتية القصيرة في بدايات القرن الثامن عشر، حيث كـــانـــت فــكــرتــه مــحــاولــة إيـــجـــاد لـــبـــاس مالئم للعمال قاطني الهضاب االسكتلندية. لقد كان هذا الزي الذي يمثل القومية االسكتلندية اآلن نتاجًا للثورة الصناعية، فلم يكن الغرض منه الحفاظ على األعراف املـتـوارثـة عبر الــزمــن، بـقـدر مـا كنت الـفـكـرة اجــتــذاب قاطني الــهــضــاب مــن املـــــزارع إلـــى املــصــانــع، فــي حــن كـــان الغالبية الساحقة مـن سـكـان اسكتلندا الـذيـن يسكنون فـي األراضي املنخفضة يــنــظــرون بــشــيء مــن االحــتــقــار إلـــى لــبــاس سكان الهضاب، الذي يمثل اآلن الزي القومي االسكتلندي. من جانب آخر، فإن األداة املوسيقية املعروفة بـ(القرب) التي يشتهر بها أهل اسكتلندا، ويعتبرونها من التراث الكالسيكي املعبر عن روح القومية األسكتلندية، هي في الحقيقة تعتبر أداة حديثة إلــى حـد كبير، حيث اخـتـرعـت بعد الــوحــدة مع إنجلترا بوقت طويل، وكانت بمثابة احتجاج سياسي ضد انجلترا. يـشـيـر املـــؤرخـــان إلـــى مــفــارقــة عجيبة وهـــي أن هـــذه (القرب املوسيقية) في أوائــل ظهورها لم يكن ينظر إليها باحترام أو تقدير بن األسكتلندين، بل كـان ينظر لها من الغالبية العظمى باعتبارها رمزا للمتشردين والكسالى واللصوص واملـبـتـزيـن مــن سـكـان إقـلـيـم املـرتـفـعـات، الــذيــن كــانــوا مصدر إزعــــاج وأذى لـسـكـان أسـكـتـلـنـدا املـتـحـضـرة الــقــديــمــة، ولكن تمضي األيـــام، ويصبح هـذ الـرمـز املنبوذ املحتقر نموذجا لألصالة، وتجسيدا القومية والهوية التاريخية. يعلق عالم االجتماع اإلنجليزي أنطوني جدينز حول هذه الــفــكــرة فــيــقــول: «إن مــن الــخــرافــة االعــتــقــاد بأن الــتــقــالــيــد مــحــصــنــة ضـــد الــتــغــيــيــر، فالتقاليد تتطور عبر الزمن، بل يمكن أن تتبدل أو تتحول فجأة بشكل تام، ولعلي أستطيع القول إنها تخترع، ويعاد اختراعها… فخطاب عيد امليالد الذي تلقيه امللكة، ويــذاع كل عـام في بريطانيا أصبح تقليدًا، على الرغم من أن هذا التقليد بدأ في سنة .»1932 إن ما تتميز به التقاليد ليس عمقها، وتجذرها عـبـر الــزمــن فـحـسـب، وإنــمــا أنــهــا تـخـلـق مناخًا للفعل يمكن أن يستمر من دون تفنيد، يستمر في إطار يحجم العقل، ويقمع أي أسئلة تريد أن تشكك فـي هـذا التقليد، أو تتساءل حـول جــدواه، وحقيقته، فــغــالــبــًا يــكــون لـلـتـقـالـيـد حــراســهــا، هــــؤالء الـــحـــراس ليسوا بــالــضــرورة الـحـكـمـاء والــعــلــمــاء، وإنــمــا هــم الــذيــن حالفتهم الــظــروف ليمتلكوا «الــقــدرة عـلـى تــأويــل الحقيقة الطقسية للتقليد»، كما يصف ذلك جدينز. فهم وحـدهـم الـذيـن يمكنهم فهم الــرمــوز الخفية املتضمنة في الطقوس الجمعية، إلـى درجــة تشكل هـذه التقاليد عند ممارسها نوعًا من أنواع الحقيقة، هو يرتكبها بشكل تلقائي متكرر، من دون أن يسأل نفسه عن البدائل، حتى لــو كــانــت هـــذه الـتـقـالـيـد بـحـد ذاتــهــا تـمـثـل له مشكلة، أو عائقًا، أو مصدرًا لإلرهاق. يؤكد الباحث البريطاني هوبزباوم في كتابه (اخــتــراع التقاليد) أن كثيرا مـن تقاليد األمم املــعــاصــرة هــي فــي الــواقــع اخــتــراعــات حديثة، بـدأت في الربع األخير من القرن التاسع عشر وامـــتـــدت إلــــى فــتــرة الـــحـــرب الــعــاملــيــة األولـــــى. «فاألمم الحديثة احتاجت على نطاق واسع إلى صنع تقاليد، أي إلى أنظمة وطقوس وشعائر عامة، ويبدو أن األمــر وثيق الصلة بانفصال هـذه األمــم عـن تواريخها القديمة، وبموجات الـــحـــداثـــة املــتــالحــقــة.. إن هــنــاك احـــتـــمـــاال بأن عملية اختراع التقاليد قد حدثت في كل مكان وزمان، ولم تخل حقبة زمنية أو حيز مكاني منها، لكن علينا أن نتوقع حــدوث غـرس للتقاليد بشكل أكثر كثافة وتكرارًا عندما تؤدي سرعة التحول املجتمعي إلى إضعاف أو تدمير األنماط االجتماعية التي قامت من أجلها التقاليد القديمة، أو ظهور أنماط مجتمعية جديدة ال تنطبق عليها التقاليد القديمة، أو أن تصبح تلك التقاليد ومؤسسوها ومروجوها غير قـادريـن على إبــداء املـرونـة والتكيف، أو أن يتم القضاء على التقاليد القديمة بأي سبب آخر». * باحث وكاتب سعودي