ذمة «سعودي».. ال ذمة «......!»
قبل نحو 40 عاما سافرت مع عائلتي من الرياض إلـى الـدمـام بواسطة عـدة سـيـارات عن طريق البر، وكـــان قــائــد الــســيــارة الــتــي نستقلها أنــا وإخوتي الفنان الــراحــل سـامـة العبدالله، الــذي كــان يعمل لـدى األمير سطام بن عبدالعزيز «رحمهما الله»، وعــنــدمــا اقــتــربــنــا مــن الـــدمـــام، وكــــان الــوقــت ليا، دهشت من مشهد النيران املشتعلة، فأينما يممت وجــهــك شــاهــدت ألـسـنـة الـلـهـب تـرتـفـع إلــى السماء بضعة أمتار من مشاعل منتظمة أحيانا كأعمدة إنارة الشوارع، وأحيانا مبعثرة كيفما اتفق. وبفضول صحفي مبكر سألت ملـاذا هـذه النيران؟ فــقــالــوا: هــذا الــغــاز املـصـاحـب لـلـبـتـرول يضطرون إلحراقه بدال من تركه يسمم األجواء! شــعــرت بـحـرقـة عـلـى هـــذه الــثــروة املـــهـــدرة.. وقلت لنفسي ملاذا ال يستفاد منه؟ ولــم أدر أن هــذا الــســؤال كــان يشغل بــال قــادة هذه الــبــاد وعـلـى مختلف املـسـتـويـات منذ الستينات امليادية، ومن رحم هذا السؤال ولدت فكرة شركة ســـابـــك، واملـــشـــروعـــن الــصــنــاعــيــيــن فـــي الجبيل ويــنــبــع، والحــقــًا مظلتهما الـهـيـئـة املـلـكـيـة، ورغم أن هــذه املــشــاريــع طــرحــت مـبـكـرا ومــنــذ عـهـد امللك فيصل، إال أنها لم تدخل حيز التنفيذ إال بعد أن أنعم الله على الباد بوفرة مالية جراء الطفرة في أسعار النفط في السبعينات في عهد امللك خالد، وكــان املـلـف بيد ولــي العهد آنـــذاك األمـيـر فهد بن عبدالعزيز عراب تلك اإلنجازات الوطنية العظيمة، وقد أسند مهمة التخطيط والتنفيذ لهذه األفكار إلـى رجــال أفــذاذ من القيادات الوطنية التاريخية الـــذيـــن تـــركـــوا بــصــمــاتــهــم عــلــى مــســيــرة النهضة والتنمية في السعودية، وفي املقدمة منهم غازي القصيبي وهشام ناظر ومحمد أبا الخيل وجميل الجشي وآخرون.
دور شركة بكتل
وقــد زرت قبل أعـــوام جميل الجشي فــي منزله بمدينة الخبر وأجريت معه حوارا مطوال نشر في «عكاظ» على حلقات، وتحدث بالتفصيل عن تلك املرحلة بوصفه من أسندت إليه مهمة إدارة «مشروع الجبيل» الذي أصبح مدينة الجبيل الصناعية. يقول الدكتور الجشي: «بـنـاء على توجيهات من امللك فيصل رحمه الله تقدمت شركة بكتل بدراسة عن مجمع الجبيل الصناعي، وكـان السيد ستيف بكتل يأمل أن تفوز شركته بتنفيذ مشروع أو أكثر من املشاريع الصناعية التي بدأت الدولة تفكر في تنفيذها منذ الستينات املـيـاديـة، إذ تـم تأسيس املــؤســســة الــعــامــة لــلــبــتــرول واملـــعـــادن (بترومن) إلقامة املشاريع الصناعية املعتمدة على استخدام الــغــاز املـصـاحـب مــصــدرا للطاقة أو لـقـيـم، والذي كانت الدولة تحرقه أو تعيد ضخه لباطن األرض للمحافظة على الضغط في آبار النفط». ويضيف الجشي: «وكانت بترومن قد انتهت من إنشاء شركة األسـمـدة العربية السعودية (سافكو) فـي الدمام منتصف الستينات، وتقوم في ذات الوقت بمفاوضات مــكــثــفــة مــــع بـــعـــض الــــشــــركــــات الـــعـــاملـــيـــة فــــي مجاالت الــصــنــاعــات األســـاســـيـــة كــمــصــاهــر األملـــنـــيـــوم والحديد ومـصـانـع الــبــتــروكــيــمــاويــات.. وبــنــاء عـلـى وجـــود ورقة بـكـتـل (املــقــتــرح) الــتــي أشــرفــت عليها الـلـجـنـة الوزارية برئاسة وزيــر املالية واالقـتـصـاد الوطني آنـــذاك األمير مــســاعــد بــن عــبــدالــرحــمــن آل ســعــود رحــمــه الــلــه، اعتقد البعض أن فكرة «مشروع الجبيل» قد جـاءت من شركة «بكتل» وهذا االعتقاد غير صحيح بدليل أن «بترومن» كانت قد قطعت شوطا طويا مع بعض الشركات لتنفيذ عدد من املشاريع الصناعية التي استكملت مفاوضاتها في ما بعد «سابك». ويستطرد الجشي فـي سـرد املعلومات والحقائق التي تؤكد أن فكرة إنشاء مشروعي الجبيل وينبع الصناعين فكرة سعودية خالصة ويقول: «أيضا كانت (بترومن) قــد خصصت بـعـض قـطـع األراضــــي لتلك الــشــركــات في األرض الــتــي كــانــت الــحــكــومــة قــد خـصـصـتـهـا ملشروع الجبيل شـمـال مـديـنـة الجبيل الـتـاريـخـيـة، والــتــي أقيم عليها مشروع الجبيل أو ما يعرف اآلن بمدينة الجبيل الصناعية». ويشدد الجشي على الحقيقة التي يعرفها الجميع، وهي أن فكرة تأسيس شركة سابك هي للوزير الراحل غازي القصيبي.
سواعد البناء السعودية
وبــنــفــس الـــروحـــيـــة الـــتـــي انــبــثــقــت مــنــهــا هــــذه األفكار الخاقة، نفذت القيادات والكوادر السعودية من مختلف املستويات املشاريع حتى اســــتــــحــــالــــت عــــلــــى أرض الــواقــع كمنجزات وطنية عماقة يفخر بها الوطن ويعتز بها املواطن. ومـــــنـــــاســـــبـــــة الـــــــعـــــــودة للتذكير بهذه الحقائق، هو أن جهات مشبوهة فـــي وســـائـــل التواصل االجــــــتــــــمــــــاعــــــي دأبـــــــــت عــلــى تــشــويــه الحقائق والــــتــــرويــــج ملعلومات غــــــيــــــر صــــحــــيــــحــــة في مــحــاولــة لــتــجــريــد هذا الوطن وقياداته وأبنائه من منجزاتهم الوطنية الكبيرة، بهدف زعزعة ثـــقـــة املــــــواطــــــن بنفسه أوال وبــقــيــادتــه ثانيا، فهم يــريــدون مــن خال تــرويــج هـــذه األكاذيب اإليـــــــحـــــــاء بــــــــأن قــــيــــادة وأبـــــــنـــــــاء هــــــــذا الــــوطــــن عــــــــاجــــــــزون عـــــــن تحقيق منجزات عماقة كهذه، وأن أبناء اململكة ال يمكن أن ينفذوا مثل هذه املشاريع على أرقى املواصفات والـــجـــودة الــعــاملــيــة، وأن كــل مــا هــو جــيــد وناجح فــي هــذه الــبــاد مــن أفــكــار وتنفيذ األجــنــبــي، وكل ماهو سيئ ورديء هو من أفكار وتنفيذ املواطن السعودي. وهــذا بــدا واضـحـا فـي مناسبات وحـــوادث كثيرة آخرها بعد األمطار األخيرة الغزيرة التي هطلت عـــلـــى بـــعـــض مـــــدن املــنــطــقــة الـــشـــرقـــيـــة، إذ نشرت صــــورتــــان مـــتـــجـــاورتـــان، األولــــــى ملــديــنــة الجبيل الصناعية وكتب عليها ذمة «كافر» وصورة أخرى ملستنقعات حي الفاخرية وكتب عليها «ذمة مسلم» مضيفا «تنفيذ ربعنا»!
«الدعاية املسمومة»
هذه الصورة وغيرها من الصور والتغريدات والنكات التي تصنعها وتبثها غرف الدعاية املسمومة ضد هذا الوطن شعبا وقيادة، يروج لــهــا بـعــضــنــا ويــســاعــد في نـشـرهـا وتعميمها بحسن نــــيــــة ومـــــــن دون وعـــــــي أو مـعـرفـة بـأهـدافـهـا الخبيثة والشريرة. فنشر اإلحباط في نفوس املـــواطـــنـــن، وخصوصا الــشــبــان مـنـهـم، وزعزعة ثقتهم بأنفسهم ووطنهم وقـــيـــادتـــهـــم هـــــدف أول، وراءه جـــمـــلـــة أهــــــــداف يـــريـــدون تـنـفـيـذهـا على مراحل. وأعــتــقــد أنــــه يــنــبــغــي أن تــــواجــــه هـــــذه الحمات املــــــــغــــــــرضــــــــة بــــحــــمــــات مـــضـــادة تــبــرز منجزات الــــوطـــــن ودور الــــرجــــال األفــــــــــــذاذ الـــــذيـــــن فكروا ونــــــــــــفــــــــــــذوا وأنــــــــــجــــــــــزوا املـــــــشـــــــاريـــــــع الــــوطــــنــــيــــة الــعــمــاقــة، وتــعــزيــز ثقة األجــيــال الـجـديـدة بوطنهم وبـقـيـاداتـهـم على مختلف املـسـتـويـات، ومواجهة األفكار السوداوية واملحبطة التي يحاول البعض زرعها في نفوس هذه األجيال.