بدالت أعضاء هيئة التدريس
االسـتـثـمـار فــي التعليم بصفة عــامــة وفي أســــاتــــذة الـــجـــامـــعـــات بــصــفــة خـــاصـــة يعد بمثابة اسـتـثـمـار عـلـى مـسـتـوى االقتصاد الـقـومـي، والـــذي يــتــوازى فـي أهميته مـع االستثمار في املـرافـق العامة والبنية التحتية، والجامعات هـي قلب عملية التنمية في جسد أي مجتمع، ألنها تقوم بضخ الـــكـــوادر الــبــشــريــة املــؤهــلــة عـلـمـيـًا وتـقـنـيـًا إلـــى شرايني االقتصاد والتنمية، وفيما سبق كـان االعتقاد السائد هو أن االستثمار هو كل شيء مادي تجب تنميته، سواء كانت في شكل موارد طبيعية أو غيرها، ولكن مع التطور املــعــرفــي والــتــراكــم الـثـقـافـي والــحــضــاري للمجتمعات، تحول االنتباه واالهـتـمـام -خـاصـة فـي الــدول املتقدمةإلـــى االســتــثــمــار فــي املـــــوارد الـبـشـريـة بـاعـتـبـارهـا نوعا مـن أنـــواع الـطـاقـة املـتـجـددة وأحــد أهــم الــثــروات الـتـي ال تنضب، فاملوارد البشرية بعكس املـوارد الطبيعية، لها صفة الـتـوارث والتراكم، فكل جيل يضيف للجيل الذي يليه، وكل عنصر بشري يزيد من إنتاج العنصر البشري اآلخر وال ينقص منه. وتسعى الــدول املتقدمة للحفاظ على ثرواتها ونخبها الفكرية ألنـهـا بمثابة املـــورد املـتـجـدد الـــذي ال ينضب، فــالــنــخــب الــفــكــريــة تــــورث عـلـمـهـا ومــعــرفــتــهــا لألجيال التالية وتحفظ معارفها بصورة شتى ليمكن تطويرها وتنميتها مستقبال، والحفاظ على النخب الفكرية ممثلة بــصــورة جـلـيـة ورمـــزيـــة فــي أعــضــاء هــيــئــات التدريس بـجـامـعـاتـهـا ينعكس فــي صـــور شــتــى، لـعـل أهـمـهـا هو تلبية احتياجات أعضاء هيئة التدريس املادية ممثلة في رواتب عادلة وحوافز وبدالت ومكافآت مالئمة، وفي إطار سعي اململكة الدائم للتطور في شتى املجاالت فمن الطبيعي أن تولي الدولة االهتمام الكافي إلحتياجات النخب الفكرية ألنها قلب عملية التنمية واألساس الذي ال غنى عنه في أي خطط تطويرية. مــن املــؤكــد أن أعــضــاء هيئة الـتـدريــس ال يمثلون عبئًا مــاديــًا جـسـيـمـًا عـلــى مـــوازنـــة الـــدولـــة أو مـــواردهـــا، فهم شريحة استثنائية مميزة صغيرة العدد، عـادة ما تتم معاملتها معاملة فـريـدة فـي غالبية دول الـعـالـم نظرًا لطبيعة دورهـــا الـتـنـويـري والـتـقـدمـي على الصعيدين الـنـظـري والتطبيقي مـعـًا، وبـالـتـالـي فــإن الـحـفـاظ على هذه النخبة يعتبر من الضروريات بل أولويات خطط التنمية وخاصة تلك املتعلقة باملوارد البشرية، وبنظرة عجلى على التغيرات التي طرأت على حياة األكاديميني مــــؤخــــرًا ســنــتــمــكــن بــبــســاطــة مــــن اســتــيــضــاح النتائج الحتمية وراء إلغاء بعض البدالت بشكل متتال، فبسبب انخفاض دخلهم ملا يقارب النصف، لجأ الكثير منهم إلى التقاعد وترك الجامعات، بينما لجأ البعض اآلخر إلــى تغيير أمـاكـن عملهم وااللـتـحـاق بالقطاع الخاص ملزاياه املادية، ولو نظرنا لنتيجة واحدة فقط من اتباع تلك السياسة فسنجد أن لها نتائج غير جيدة على املدى القريب والبعيد، لعل أولها وأهمها هو هجر وحرمان الجامعات السعودية الحكومية مـن الـكـفـاءات العلمية واألكـاديـمـيـة املميزة ذات الخبرات املتراكمة على مدار العشرات من السنوات من الجهد والكد واملثابرة. إن كانت وزارة التعليم ال تبالي كثيرًا بهجرة تلك العقول بحجة إمكانية إحـاللـهـم بغيرهم مــن الـشـبـاب حديثي الـتـخـرج، فإننا نــود التذكير هنا بــأن اإلحـــالل سيكون اسميا فقط، ألن هؤالء ال يملكون نفس الخبرة املتراكمة وال املـكـانـة وال املــؤهــالت العلمية املـكـافـئـة، فالخبرات والكفاءات الـنـادرة ال توجد على قارعة الطريق، وإنما هي نتاج خبرات علمية وعملية متراكمة متفاعلة مع الـبـيـئـة الــتــي أنـتـجـتـهـا طـــوال عــقــود طــويــلــة، أمـــا لــو تم إحــاللــهــم بــكــفــاءات مـمـاثـلـة فـسـتـتـجـاوز تكلفة اإلحالل تكلفة ما يتقاضاه األكاديميون األصليون، ولـن يكون هناك أي مغزى من عملية اإلحالل في هذه الحالة. فـارق كبير بني االستثمار في الحجر وبـني االستثمار في البشر، من الصعب أن تكرس وزارة التعليم جهودها لتطوير قطاع التعليم العالي السعودي واالرتقاء بشأنه في ظل هجرة هذه العقول، فهذه الـوزارة ومنسوبوها هــم الــركــيــزة األولــــى لـتـطـور املـجـتـمـع، حـتـى إن بعض الــــدول املـتـقـدمـة عـلـى الـصـعـيـد التعليمي تـطـلـق على الــــوزارة املـسـؤولـة عـن التعليم وزارة التربية واملوارد البشرية، مما يدل بصورة الفتة على العالقة الوطيدة واملـتـشـابـكـة بــني التعليم وبــني االسـتـثـمـار فــي الدولة، واالستثمار في التعليم يبدأ من االستثمار في القائمني بالتعليم، في من يقوم بتعليم املعلمني، وفي من يقوم بتخريج القوى العاملة جميعها بنخبها وعوامها في أرجاء املجتمع، خاصة إذا علمنا أن إلغاء البدالت لهذه الفئة لن يحقق الكثير من الوفورات، وستنعكس آثارها على املــدى القريب والبعيد، وآثـارهـا لن تنعكس فقط على الفئة التي تم استهدافها بل على املجتمع بأسره، وال نختلف عـلـى أن عملية اإلنــفــاق باململكة تحتاج إلـى ترشيد، ولكن الترشيد يحتاج أن يكون مدروسًا، ويحتاج أن يكون مهيكال وانتقائيًا ومبنيًا على قواعد تمييزية منطقية، وال يجب أن يتخذ صيغة التقشف الــذي يــؤدي إلــى نتائج عكسية وأضــــرارًا تـفـوق مــا تم توفيره.