النقل العام ثالث أولويات اإلنفاق.. بعد التعليم والصحة
تــعـــــد مـنـظـومـة الـنـقـل الــعــام الـحـديـثـة املـتـكـامـلـة بـمـثـابـة الواجهة الــحــضــاريــة ألي دولـــــة، وهــــي مــدخــلــهــا إلــــى الــعــوملــة، اقتصاديا
ــا. وبـــــدون تــلــك املــنــظــومــة يـضـعـف االتصال االجتماعي، وترتفع تكلفة االنتقال، ليس فقط لـأفـراد، بل أيضا للسلع والـخـدمـات، خاصة فـي ظـل ارتـفـاع أسـعـار الــوقــود، وتزايد مشكالت االزدحام املروري وما يترتب عليه من حوادث وتأخير عن الوفاء بااللتزامات في وقتها املحدد؛ لذا فاستكمال منظومة النقل العام يعـد أولوية تنموية مطلقة، والبـد أن يعامل كذلك إن أردنا املضي برؤيتنا نحو مستقبل أفضل. ومع بدء تطبيق رؤية اململكة ،2030 رأينا إعطاء قطاعي التعليم والصحة أولوية (قد نفرد لهما مقاال الحقا) في اإلنفاق الحكومي ملـــا يــمــثــالنــه مـــن ارتـــبـــاط وثــيــق بـــأهـــداف الـــرؤيـــة، ومِملــــا النعكاس تطويرهما على حياة املواطن الذي سيقود اقتصادنا السعودي في املرحلة القادمة. وبالضرورة فإن قطاع النقل العام البد أن يحظى باألولوية نفسها في اإلنـفـاق الحكومي واالهتمام بـه، ليس على مستوى املدن الرئيسية فحسب بل جميع مدن اململكة. لقد عانينا فــي الـفـتـرة املـاضـيـة وال زلـنـا - وإن كــان بــدرجــة أقــل - مـن االرتــفــاع الكبير فـي استهالكنا املحلي مـن الـطـاقـة، وكــان جـل انتقاداتنا موجهة إلى املواطن الستهالكه البذخي واعتماده على وسائل نقل ذات كفاءة منخفضة. وتناسينا أننا لم نوفر له وسائل النقل العام. وفـي الوقت نفسه أسرعنا إلـى تخفيف الدعم بالرفع التدريجي ألسعار الوقود منذ العام املاضي ،)2016( وستتبعها زيـادات قادمة منتصف هذا العام ،)2017( دون أن يزامن ذلـك، أو يسبقه، تسريع فعلي إلنجاز مشروعات النقل العام. بل على العكس، رأينا تباطؤا في تنفيذ العديد من هذه املشروعات، بـل وظـهـر واضــحــا وجـلـيـا أنـهـا كـانـت بــؤرة املـشـروعـات املتعثرة، ومحور التأجيل الواضح في تشغيلها وأيضا محور عدم استكمال هذهاملنظومةلتمتدنموذج ايحتذىبهفيمدننا األخرى. وبـانـخـفـاض إيــراداتــنــا النفطية نتيجة انـخـفـاض أســعــار النفط، صير إلـى تقليص اإلنـفـاق الحكومي إلـى درجــة مسـت العديد من القطاعات، ومنها قطاع النقل العام؛ لعدم التعامل معه كأولوية تنموية في إطار ترتيب األولويات الذي أجرته الحكومة منذ العام املاضي .)2016( وقــد يكون تخوف الحكومة ـ وهــو مبرر إلــى حـد كبيرـ راجــع إلى أن مشروعات النقل العام الضخمة، من شبكة قـطـارات ومطارات وموانئ، هي أرض خصبة لتسلل الفساد إليها، وقد كشف عن ذلك تعـثـر بعضها، غير أنــه ال ينبغي أن يجعل عائقا في ظل النهج الـجـديـد املـتـبـع فــي إطـــار «رؤيـــة »2030 واملـعـايـيـر الـتـي بـــدأت في ات ا في إرسـاء املناقصات، وذلك النهج البـد أن يساهم حتما في التقليل من الفساد، وال أقول القضاء عليه بالكامل. كم هي ماسـة حاجتنا لشبكة نقل متكاملة بني املدن وداخلها، من مترو وقطارات معلقة ومطارات حديثة ذات طاقة استيعابية كافية للحاضر واملستقبل، وموانئ تستقطب مزيدا من حركة التصدير واالســتــيــراد واملـسـافـنـة، لتحقيق االســتــفــادة املطلوبة مــن مركزنا الــديــنــي كـونـنـا نحتضن أقـــدس املــــدن، مـكـة واملــديــنــة، نـاهـيـك عن موقعنا الجغرافي ذي األهمية البالغة. إن شبكات الـقـطـارات املعلقة واملــتــرو داخــل املــدن مـا زالــت تحبو، ومعرضة للتأجيل مثلها مثل غيرها من مشروعات النقل العام.
ا من التأجيل تلو التأجيل لتشغيل قطار الحرمني للعديد من املبررات. أمــا مطاراتنا فهي أيضا تعاني مـن عـدم مواكبتها لـلـزيـادات في الطلب املحلي والعاملي عليها. ولنا في مطار امللك عبدالعزيز بجدة ـــ وهـو املـدخـل الرئيسي للحجاج واملعتمرين ـــ مـثـال ال يعكس ما ينبغي أن تظهر عليه صـورة هذا الوطن. وحتى املطار الجديد ال يزال يتعثر، فقد تأخر تشغيله أكثر من أربع سنوات. ومن يعملون
ا يشكون من حالة ركود يعيشونها، ويخشون أن يصبح ما اكتمل من تجهيزاته الرائعة أطالال تدريجيا، مما يعني احتياجه إلى تأهيل جديد حتى يمكن تحديد ساعة الصفر لتشغيله. ومع أن
ٍْ َُّ وزارة املالية قد صرحت مؤخرا أنها ستضخ مبالغ جديدة ليمكن االنتهاء منه في أسـرع وقـت، نجد الكثيرين ليسوا على درجـة من التفاؤل؛ قياسا على وعود سبقت بهذا املعنى. كما أن قطار الدمام الجديد قد تأثر فسادا بسيول األمطار، فرأيناه كالجمل يخنع على جنبه شاكيا باكيا متأملا، وقد أغرقته السيول واقتلعت جزء ا من قضبانه. هـذه الصورة وغيرها، وهـذا التأخير في تشغيل شبكة القطارات بــني املـــدن، وهـــذا الـتـأخـيـر فــي إرســـاء بـعـض مــشــروعــات القطارات املعلقة داخل املدن، وعدم توفير مركبات عامة (أتوبيسات) ـ كحل مؤقت ـ هـي مـن األمــور التي تزيد مـن أعـبـاء املـواطـن الــذي ال يجد الـبـديـل الفعلي للمركبات الــخــاصــة، فــي ظــل االرتــفــاع التدريجي ألسعار الوقود. وأخـتـم بالحديث عن الخطوط السعودية التي تعـد من أقدم خطوط
ا، فقد أصبحت غير منامِفسة، ال خدمة وال طيرانا، وال حتى للخطوط التي وجدت بعدها. وقد حان اآلن وبعد االنتظار الطويل جـدا وقت اإلســراع بها نحو الـخـصـخـصـة وتــحــريــر الــقــطــاع بــدخــول مـنـافـسـني جــــدد، وحجب اإلعانات التي تعودت عليها خطوطنا السعودية؛ لدفعها من خالل ذلك نحو رفع مستوى الكفاءة اإلنتاجية وخفض التكاليف.
* مستشار اقتصادي ونفطي