Okaz

الليبرالي ولي الدين يكن ورجال الدين واالستعمار والسيكل!

- * باحث وكاتب سعودي

دعاني الدكتور الخلوق عبدالله عبدالعزيز اليحيى إلى منزله بعد أن أتمت مجلة (املجلة) نشر دراستي عن الدكتور عبدالله النفيسي، وكان موضوع الحديث في تلك الدعوة هذه الدراسة ناقشني في بعض محتوياتها، وكان قد وضع خطوطًا بالقلم األحـمـر تحت بعض الفقرات وبعض السطور فيها، وكــان من ضمن الفقرات، فقرة تتحدث عن ما أحدثه املودودي في عقيدة أهـــل الـسـنـة والــجــمـ­ـاعــة الـــذي كـــان سـبـبـًا مــبــاشــ­رًا فــي خصومة اإلسالم الرسمي واإلسالم التقليدي في الهند معه. فسألني في ما يتعلق بهذه الفقرة إن كنت اعتمدت من بني ما اعتمدت على كتاب ذكر لي اسمه. أجبته بالنفي وأخبرته أني أجهل الكتاب الذي ذكر لي اسمه. وطلبت إليه أن يعطيني فكرة عنه. قال: إنه من ضمن الكتب التي تعبر عن وجهة نظر خصوم املودودي فيه، وتمثل الــرأي الديني التقليدي، ومــد يــده إلــى أحــد أرفف مكتبته، وكنا جالسني فيها، وقـدمـه لـي ألتصفحه. تصفحته وكان حجمه صغيرًا جدًا، فاستسمحته أن يعيرني إياه ألقرأه، فوافق مشكورًا. هـذه الكتاب -أو بـاألحـرى- الكتيب اسمه (الشقيقان: املودودي والخميني). علق الـدكـتـور عبدالله على تلك الـفـقـرة الخاصة بــاملــود­ودي بحديث تفصيلي عـن االخـتـالف­ـات واملـنـازع­ـات بني الــتــيــ­ارات واملـــــد­ارس اإلســالمـ­ـيــة فــي الـبـاكـسـ­تـان والــهــنـ­ـد، وكان على درايــة بهذه التيارات املــدارس وعايشها عن قـرب وعرفها عن كثب، ألنه عمل في امللحقية الدينية السعودية بباكستان، وأكمل دراسته العليا في جامعة البنجاب في ثمانينات القرن املاضي. ومــمــا تـطـرقـنـا إلــيــه فــي حـديـثـنـا، الـتـنـافـ­س بــني التيارات الدينية في السعودية، وكـان هو مطلعًا على جوانب من تــاريــخ هــذه الــتــيــ­ارات غير املـكـتـوب، فسألته عما يعرفه عن املنازعات بني السلفيني واإلخــوان املسلمني في أيام خلت، قبل ظهور املنازعات إلى العلن في وقت متأخر من تاريخ تجاور وتعايش وتحالف طويل. أجـــاب عــن ســؤالــي هــذا بـسـرد مـعـلـومـا­ت كــان قــد وقف عــلــيــه­ــا مـــبـــاش­ـــرة. اســتــوقـ­ـفــنــي مــنــهــا قـــــول ذكــــــره في ســرده، كـان يقوله (اإلخــوان املسلمني) للسلفيني -بــعــض األحــــيـ­ـــان- عــنــد الـــحـــا­جـــة، وهو: أنـتـم تـحـاربـون الـقـبـور ونـحـن نحارب القصور! استوقفني ألنه ال يعبر عن واقع حالهم، وال يمثل مخيلتهم السياسية. فمخيلتهم السياسية هـي مخيلة ملكية سلطانية وليست مخيلة ثورية جمهورية. أنموذجها الرفيع عندهم، سالطني آل عثمان. وفـي بلد نشأتهم مصر كانوا مؤيدين للقصر والنظام امللكي. وصراعهم في إبان ذلك العصر كان مع أحزاب وليس مع القصر أو املــلــك فـــــاروق. وفـــي الــســعــ­وديــة كــانــوا حلفاء للدولة ومساندين لها ومتعاونني معها إلى حد التطوع بالقيام بوظيفة العسس وتحبير الوشاية بأصحاب األفكار القومية واليسارية واألفكار التحررية عامة أيام الحرب العربية الباردة. قــلــت: يــا دكــتــور عـبـدالـلـ­ه أحــســب أن هذا الـــقـــو­ل عـــبـــار­ة قــالــهــ­ا ولــــي الـــديـــ­ن يكن، وهــي ليست لهم. وربـمـا التقطوها من كتاب محمد محمد حسني: (االتجاهات الــوطــنـ­ـيــة فــي األدب املــعــاص­ــر) الذي أفــرد صفحات عــدة فـي كتابه هذا، استعرض فيها مواقف ولي الدين يكن السياسية والفكرية الثورية املتحررة. ثم تشعب الحديث إلى مواضيع أخرى تعرضت لها دراستي عن النفيسي. مضت سـنـون على تلك الجلسة النافعة مـع الـدكـتـور عبدالله الـيـحـيـى، وكــنــت عــازمــًا عـلـى أنــه فــي يــوم مــا، سـأكـتـب عــن تلك العبارة املنحولة وعن صاحبها الحقيقي، ولي الدين يكن. مــع انـضـمـامـ­ي إلــى كــتــاب (عــكــاظ) األســبــو­عــيــني، رأيـــت أن هذا اليوم قد جاء. وكان أسهل الطرق للوصول إلى العبارة املنحولة كتاب محمد محمد حسني. تصفحت الصفحات التي ورد فيها اسم ولي الدين يكن، كما هو مبني في فهرس األعالم، فلم أعثر على العبارة. وكنت على يقني من أنني قد قرأتها في كتابه. لم أيأس ورحت أفتش عنها في كتب ولي الدين يكن: (املعلوم واملجهول) و(التجاريب) و(الصحائف السود) و(عفو الخاطر)، ولم أجدها في أي منها، فصرفت النظر عن الكتابة عن تلك العبارة وعن ولي الدين يكن. عـــن لــي قــبــل أن أخـــط هـــذه الــســطــ­ور، أن أعاود الــبــحــ­ث عـنـهـا فـــي كــتــاب مـحـمـد مـحـمـد حسني وكتب ولي الدين يكن مرة أخـرى. وما بني تنقل في تصفح سريع بني كتاب محمد محمد حسني وكتب ولي الدين يكن، تنبهت إلى أن محمد محمد حسني في الـصـفـحـا­ت الـخـمـس عـشـرة الـتـي حــدد فــي فـهـرس أعـــالم كتابه ورود اسم ولي الدين يكن، خلت الصحفة األولى منها من ورود اسمه، وهي ص .23 خمنت أنه قد حدث تصحيف طباعي في اإلحالة إلى رقم الصفحة مع رقم آخر، وهذا الرقم على األغلب (صـفـحـات الـكـتـاب مرقمة بــاألرقــ­ام الـعـربـيـ­ة) سيكون رقــم .33 ذهبت إلى ص33، فوجدت بغيتي أخيرًا. وحني طالعت الفقرة املـنـشـود­ة فـوجـئـت بــأن مـسـعـاي قــد خـــاب. فلقد عـرفـت أنــي في الحديث القديم الــذي دار بيني وبـني العزيز الدكتور عبدالله اليحيي، ارتكبت أربعة أغـالط. أولها، أني حفظت ما قاله ولي الــديــن يـكـن بــصــورة خـاطـئـة. وكــنــت أعـتـقـد أن مــا قــالــه هــو من نثره بينما هو من شعره. ثانيها، أن ما علق في ذاكرتي كان مستوحى مــن جملة وردت ضـمـن شــرح محمد محمد حسني ألبيات في قصيدة ولي الدين يكن، وليس مما قاله ولي الدين يكن نصًا. ثالثها، اختلط األمر علي، فذكرت للدكتور عبدالله أن ولي الدين يكن قال ما قاله، في حكاية من ضمن حكايات رواها عن نفسه في مقال جاهر به أنـه ال يصوم رمضان. واملناسبة. كـمـا سـيـتـضـح فــي مــا بـعـد - كــانــت مـنـاسـبـة سـيـاسـيـة وليست مناسبة دينية. رابعها، أن نص ما قاله ولي الدين يكن شعرًا في سنة ،1909 هو مختلف كليًا عن معنى العبارة التي أعلمني أن اإلخـوان املسلمني كانوا يقولون بها أمام السلفيني في ساعات املالحاة واملناكفة، للزراية بهم، والفخر بأنفسهم. ولتتمة الـكـالم عـن التنافس واملـفـاخـ­رة بـني الـتـيـارا­ت الدينية تجاذبت من أجل هذا الغرض، قبل أن أكتب هذه السطور، أطراف الحديث مع الصديق الباحث ناصر الحزيمي في الهاتف عما يعرفه مما ورد في هـذا الباب غير املــدون أو املكتوب، بعد أن اسمعته تلك العبارة التي نقلها لي الدكتور عبدالله اليحيى. فـوافـانـي بـاإلجـابـ­ة الـتـالـيـ­ة: مــن األقـــوال الـتـي سمعتها وكانت تــتــردد فــي فـتـرة معينة بــني الــتــيــ­ارات الدينية القول: إنه إذا قامت الدولة اإلسالمية، فسيكون السلفيون هم علماء الشريعة، وسيكون (اإلخوان املـــســـ­لـــمـــون) هــــم الـــــقــ­ـــادة الـــســـي­ـــاســـيـ­ــني، وسيكون التبليغيون هم عامة الشعب! وأظــن أن اإلخـــوان املسلمني هــم مطلقو هــذا القول، ألن السلفيني كانوا يعترضون عليه، ويقولون: إذا ما قامت الدولة اإلسالمية، سنكون فيها علماء الـشـريـعـ­ة والــقــاد­ة الـسـيـاسـ­يـني. أمــا التبليغيون فكانوا مستسلمني لهذه القسمة الخيالية، وراضني أن يكونوا هم عامة الشعب. ونـظـرًا إلــى أن التبليغيني كـانـوا جماعة مساملة، كان (اإلخوان املسلمني) ال يقولون فيهم شيئًا، وكانوا يستفيدون منهم بأخذ أفــراد منهم وضمهم إلـى اإلخــوان املسلمني. ويأتي التحريريون فيستعلون على اإلخــوان املسلمني وعلى السلفيني معًا، إذ كانوا يخاطبون اإلخوان املسلمني بالقول: أنتم يا جماعة اإلخـــوان ال تفقهون فـي السياسة وال السياسة الـشـرعـيـ­ة، ألنكم تحرصون على الـدخـول إلــى البرملان وتــؤيــدو­ن الديموقراط­ية، علمًا أنكم تعلمون أن البرملان جهاز تشريعي، والتشريع يجب أن يكون من الله ال من أراء البشر في البرملان. أما أنتم أيها السلفيون، فال تفقهون في السياسة شيئًا، ويغلب عليكم اإلرجاء!

نـــعـــود إلـــــى مــــا كــنــا بـــصـــدد تــصــحــي­ــحــه. ولـــنـــب­ـــدأ بتصحيح املناسبة. املناسبة كانت خلع السلطان عبدالحميد الثاني في سنة ،1909 فلقد نظم أحمد شوقي قصيدة عطوفة وحانية عليه، عنوانها عبرة الدهور فلقد يقول في مطلعها: سل"يلدزا"ذاتالقصور** هلجاءهانبأ­البدور

لو تستطيع إجابة ** ليتك بالدمع الغزير أخنى عليها ما أنا ** خ على الخورنق والسدير

ودها الجزيرة بعد ** إســـــماع­يل وامللك الكبير ذهب الجميع فال القصو ** رترى وال أهل القصور وكتب ولي الدين يكن قصيدة مناقضة لها بالعنوان نفسه ومن نفس البحر والقافية، يقول في مطلعها: هاجتك خالية القصور ** وشجتك أفلة البدور

وذكرت سكان الحمى ** ونسيت سكان القبور وبكيت بالدمع الغز ** يـر لباعث الدمع الغزير

ولواهب املال الكثيــر ** وناهب املال الكثير شـرح محمد محمد حسني أبيات ولـي يكن التي يـرد بها على أحمد شوقي، بما يلي: إنـك تذكر (الخطاب لشوقي) آالم سكان القصور ولكنك تنسى آالم سكان القبور، وتذكر ما وهب، ولكنك تنسى ما نهب. وتبكي عليه اليوم، وتنسى أنه أبكى باألمس كثيرًا من األبرياء. وكما ترون، فعبارة "تذكر آالم سكان القصور ولكنك تنسى آالم سكان القبور" هي مختلفة في مبناها وفي معناها عن عبارة "أنتم تحاربون القبور ونحن نحارب القصور". قاتل الله العجلة والتسرع وسوء الحفظ، وحمانا الله من الخلط والتخليط في الذاكرة، ومن داء استفحال النسيان.

 ??  ??
 ??  ?? ولي الدين يكن
ولي الدين يكن
 ??  ?? علي العميم*
علي العميم*

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia