بتأصيل املعرفة ثقافة تعميق االختالف
عندما أرجع للوراء في فترة بداية بروز العمق الفكري لفكرة تطبيق وتنزيل الفكر للواقع بعد الحادثتني الشهيرتني اللتني تأسستا وخرجتا مـن عمق فكرة املعرفة الدينية وعالقتها بـتـأصـيـل ثــقــافــة االخــتــالفــات بـجـمـيـع تـمـظـهـراتـهـا املعرفية والــفــلــســفــيــة، وتــيــنــك الــواقــعــتــان هــمــا دخــــول جــمــاعــة دينية أصـولـيـة لـلـحـرم عــام م1979 (وتــعــرف فــي أوســـاط التيارات الــديــنــيــة بــأنــهــا جــمــاعــة تـنـتـسـب لـلـحـديـث وتــعــلــن تمسكها بــنــصــوص الـــقـــرآن ونـــصـــوص الــســنــة الــصــحــيــحــة، وهـــي في حقيقتها جماعة خرجت من العمق للفكر السلفي الظاهري الــذي يتسم بالجمود على النصوص وينبذ الفقه والفقهاء وكل كتب الفقه، إذ إن الفكر السلفي الظاهري هذا يحمل في طياته تـأصـيـالت لكثير مـن الـتـيـارات الفكرية الـتـي تنتسب للفكر اإلســالمــي الـتـي تـبـدأ مــن فكر الـجـهـاد املسلح وتكفير الحكام والتمايز بني دور الكفر واإلسالم، وحتى ينتهي الفكر السلفي الظاهري بفكر معتدل، فجميع هذه التيارات السلفية التي تتبع الظاهر يجمعها فكر التمسك بالدليل والنص ونبذ التقليد وهذا شكل عائقًا حقيقيًا في تأصيل ثقافة االختالف وحجم العمق التاريخي الــذي أصله علماء كل فن من فنون علوم اآللة من فقه وأصول ونحو وحديث ومنطق وفلسفة)، والحادثة األخــرى هي حادثة اغتيال الرئيس األسبق لدولة مصر أنور السادات، فكلتا الحادثتني كانت تجمل في أعماق مــن ارتـكـبـهـا نـبـذ ومــحــاربــة ثـقـافـة االخـــتـــالف، وجــعــل الحق ظــاهــرًا لهما فــي رؤيتهما املعرفية وهــذه الــرؤيــة تحمل في طياتها الخطر الحقيقي لفكر اإلرهاب والتطرف الذي يعاني منه املجتمع فـي كـل أنـحـاء املـعـمـورة. وقــد صاحبت سنوات الثمانينات بـروز الفكر الديني الصحوي املتسم بالتأصيل لفكر العودة للجذور والتمسك بالنصوص وتجديد معارف املجتمع وكــأن تلك الـرجـعـة منفصمة عـن الـتـاريـخ املتعاقب لفكرة املاضوية املتمسكة بفكرة الخالفة واألسى عليها، وكانت تلك الرجعة في الثمانينات بالفعل منفصمة ومنفصلة عن االمتداد التاريخي، فتلك الحركة الفكرية التي صاحبت بروز الــصــراع الـفـكـري بــني فـكـر الــعــودة املـاضـويـة والـجـمـود وبني الفكر التحديثي منذ بداية القرن العشرين، حيث كان الصراع قائمًا بني ذينك املنهجني في التفكير والنقد واستعمال العقل إلبـــراز ورؤيـــة األشــيــاء بـالـقـوة وبـالـفـعـل كـمـا يــقــول املناطقة واملتكلمون عند النظر لتأصيل املسائل واالختالفات، وكان املنهجان في بداية القرن العشرين يحمالن مشروعني كبيرين لـهـمـا امـــتـــداد حـقـيـقـي ملـــا نــحــن فــيــه مـــن خــلــط عـمـيـق للفكر وتـالعـب باملفاهيم، فمنهج مـاضـوي يؤسس لفكر جماعات الــفــكــر املــتــشــدد بـجـمـيـع تــفــرعــاتــه وتـشـعـبـاتـهـا ســـــواء كانت تلك التفرعات والتشعبات جهادية أم كانت سلفية أم كانت ســروريــة أم كـانـت تحريرية فهي تـؤسـس لفكرة رجــوع حكم الخالفة للمجتمعات اإلسالمية، واملنهج اآلخر يؤسس لفكر الدولة الحديثة واملدنية ويحمل هذا الفكر في طياته جميع األســس املعرفية والخلفيات الفلسفية التي أسست لنهوض وقـيـام أعـمـدة وجـــذور الــدولــة املـدنـيـة الـحـديـثـة، فقد تقطعت األزمنة بني هذين املنهجني بيد أنهما ال يــزاالن هما املحرك الحقيقي لجميع التيارات الفكرية املتنازعة واملتصارعة في بحر األفــكــار، وتركيزنا فـي هــذا املـقـال على ثقافة االختالف التي جعلها فكر الصحوة منذ بدء نشأته خطرًا على النشء ورسخ في ذهنية املريدين من أبناء الصحوة أن قوال وفهمًا وطريقًا وتفسيرًا واحــدًا هـو املعتمد واملقبول كـي تكون في ركب الصحوة، ومن خرج عن ذلك املنهج واختار قوال غير قول الصحوة أو أراد أن يؤسس ملنهجية جديدة لفهم النصوص وأن الــشــريــعــة تـتـسـع لـكـثـيـر مــن الــفــهــوم، وأن تــلــك الشريعة بمقاصدها وأصـولـهـا جـــاءت لتحقيق مـصـالـح الــنــاس ولم تــأت كي تجعل الشكالنية الظاهرية هي الحقيقة للشريعة، لـذا فقد تــوارت حقائق وأصــول ومـبـادئ الشريعة خلف تلك الشكالنية الظاهرية بجمود فكر الصحوة وإحاطة رموزها ملـفـاهـيـم الــصــحــوة بـالـشـكـالنـيـة الــظــاهــريــة الــتــي تــم إبرازها فـي عـدة سلوكيات فـي الجنسني البشريني، وتلك الشكالنية الظاهرية تم تتويجها بشكل امللبس واملظهر الخارجي لذينك الجنسني البشريني، وقد ظلت املجتمعات على تلك الشكالنية مدة من الزمن تنزع وتتأسس وراء فكرة الخالفة املتوهمة في األذهان والتمسك رجوع صدى التاريخ مما جعل الجماعات املتطرفة تخرج من تلك الشكالنية الظاهرية متمسكة بأصول الصحوة الدينية بيد أنها غيرت في النهج والطريقة، لكن تلك الـجـمـاعـات املتطرفة أخـــذت فـكـرة االخــتــالف فــي الفهوم والـــــرؤى والــتــفــســيــرات إلـــى مـــدى أبــعــد وضـيـقـت مــن مساحة الــنــصــوص وأخــرجــت فــهــوم أصــحــاب الـشـكـالنـيـة الظاهرية مـــن دائـــــرة الــســاحــة الــصــحــويــة املــتــديــنــة وتمسكت
ََ بالظاهرية (كل ما أجمع عليه، أو اختلف فيه، ُُ فهما
ِِّّ ُُّّ ســـواء فــي هــذا الــبــاب، فــال يــحــل ٍٍ ألحـــدخــالف الحق أصال، سواء أجمع عليه، أو اختلف فيه) فالحق هو مـا رأتــه الـجـمـاعـات املتطرفة ومــا عــداه فهو باطل، إال أن الصحوة في تمسكها بالشكالنية الظاهرية أدركـــت أن اإلشـكـالـيـة الحقيقية لديها تتأسس في حقيقية مرجعيتها فــي كيفية فـهـم الــنــص ورؤية الشريعة فاستعملت ثقافة االختالف في خالفها مع الجماعات املتطرفة وأبرزت قاعدة (ال ينكر املختلف فيه وإنما ينكر املجمع عليه) مع الفكر املتطرف كي تستدل بأن هناك فهومًا للنصوص والشريعة غير التي استعملته الجماعات املتطرفة وتقف عند هذا الــحــدود وتبقى متصلبة تـجـاه املجتمعات واملفكرين واملــثــقــفــني وســيــاســات الـــــدول االقــتــصــاديــة والثقافية وتــنــبــذ ثــقــافــة االخـــتـــالف، بــل إنــهــا تـسـتـعـمـل مصطلح الزندقة والتزندق كما استعمله أصحاب االتجاه الواحد ضــد املختلفني فــي الـفـتـوى وتنوعها وهــي بـهـذا تتفق الصحوة مـع الجماعات املتطرفة فـي النهج والطريقة كـمـا روى «روى أبــو الـعـبـاس بــن ســريــج، عــن إسماعيل القاضي، قـال: دخلت على املعتضد، وعلى رأسـه أحداث روم مــالح، فنظرت إليهم، فرآني ا ملعتضد أتأملهم، فلما أردت االنصراف، أشـــــــار إلـــــــي، ثـــــم قـــــــال: أيها الــقــاضــي! والــلــه مــا حللت سراويلي على حـرام قط. ودخــلــت مـــرة، فـدفـع إلي كتابا، فنظرت فيه، فإذا قــد جمع لــه فيه الــرخــص مــن زلل العلماء، فقلت، مصنف هــذا زنــديــق. فـقـال: ألــم تصح هــذه األحــاديــث؟ قـلـت: بـلـى، ولـكـن مــن أبـــاح املسكر لم يبح املتعة، ومن أباح املتعة لم يبح الغناء، وما من عالم إال وله زلة، ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه. فأمر بالكتاب فأحرق».