تلقي «بليه» امليكانيكي في ورش العروس
بـــاءت كــل مــحــاوالت إخــراجــه مــن تـحـت السيارة بالفشل، وأصر أن يحكي حكايته، بنظرات خاطفة مـن بـني فــراغــات صــاج الـسـيـارة والكفر األمامي، أثناء إصالح الـ«عكس»، فطريقة عمله غريبة، ال يعتمد فيها على البصر، لدرجة أن بإمكانه أن يؤديه، حتى ولو كان معصوب العينني. لم يتخيل أحمد عبدالرازق الشهير بـ«بليه» أن قصوره في استيعاب قواعد اللغة العربية، سيكون سببا في انـــتـــقـــالـــه إلــــــى عـــــروس الــــــبــــــحــــــر األحــــــــمــــــــر، بــــــــــعــــــــــدمــــــــــا تــــــــــرك املــدرســة قبل 15 عـــــامـــــا، وفضل أن يـــــعـــــيـــــش فــــــــــــــــي شــــــــــــــــارع الــورش بمدينة الزقازيق، باحثا عــــــــــن «صــــــنــــــعــــــة» تـنـفـعـه فـــي حياته، بـــعـــد أن حـــصـــل على صــــفــــر فــــــي مـــــــــــادة اللغة العربية. شـــهـــر كــــامــــل قــــضــــاه فـــــي شـــــــارع الــــــورش بالزقازيق، دون أن يحصل على جنيه واحد، يــســاعــد هــــذا فـــي الــبــحــث عـــن مــفــتــاح 41، ويـــنـــاول ذاك الـــكـــوريـــك لـــرفـــع السيارة، ويشتري مسامير للزبون املستعجل، ويـــــــجـــــــري خـــــلـــــف آخـــــــــر ليخبره بمكان ورشـة إصـالح السيارات األوتــــومــــاتــــيــــك، وحـــــني غاب أحـــد الــعــمــال الــصــغــار في ورشــة امليكانيكا، طلب صـــاحـــبـــهـــا أن يحل مــــــحــــــلــــــه، ومـــــنـــــذ تــــلــــك اللحظة الــــــتــــــصــــــق به اسم «بليه». أخــــــــــــــــيــــــــــــــــرا. خرج «بليه» من تحت السيارة، ليكمل: «قضيت ســنــوات طويلة تحت الــســيــارات، حتى أصبحت أهــم «صنيعي» فــي الــورشــة، ثــم جـــاءت الفرصة للعمل في ورشـة سيارات بجدة».. صمت قليال.. زاغت عيناه بعيدا.. ابتسم، ثم قال: تركت املدرسة، ألنــي بالفعل لــم أكــن أهـــوى الـتـعـلـيـم، ورغـــم أني أكــســب اآلن ضعفي راتـــب زمــالئــي املتعلمني، إال أنهم في النهاية «أفندية». سبعة أعــــوام، قـضـاهـا «بـلـيـه» فــي جـــدة، أثقلت خبرته، في إصـالح جميع أنواع الــســيــارات، وجــعــلــت آماله عريضة، إذ ينتوي فتح ورشــــــتــــــه الخاصة حـــني عـــودتـــه إلى الزقازيق، ليكتب عـلـيـهـا بالخط الـــــــــــعـــــــــــريـــــــــــض «ورشــة عروس البحر األحمر.. لــــــصــــــاحــــــبــــــهــــــا بليه». فيما تظل أجمل ساعاته، تلك الـــتـــي يــقــضــيــهــا أمام بــحــر جــــدة، يـــوم الجمعة مــــــن كــــــل أســـــــبـــــــوع، ليصطاد السمك، يلقي صـنـارتـه، ينتظر ساعات، يـحـلـق خــاللــهــا بــذاكــرتــه إلـــى مــديــنــتــه، متذكرا أيــام طفولته، التي لم يستمتع بها، يستحضر نــصــائــح أمـــه وأبــيــه الــتــي لــم يــعــرهــا اهتماما، يستفيق فـجـأة على حـركـة الـصـنـارة، يسحبها بسرعة، يكتشف أنها لم تلتقط شيئا.. يعيدها مـرة ثانية، غير أنها في كل مـرة تخرج خالية. يؤمن «بليه» أن األمـانـة مفتاح النجاح في أي مهنة، فاملعروف عنه أنه «ميكانيكي شاطر» ال يطلب قطعة غيار جديدة إال لو كانت القطعة القديمة قـد استهلكت تماما، فهو يضع نفسه مــكــان صــاحــب الــســيــارة، ويـعـلـم تـمـامـا أن قطع غــيــار الـــســـيـــارات غــالــيــة الــثــمــن. مـنـهـيـا حديثه بـقـولـه: «الــنــاس هنا طـيـبـون، وبـصـراحـة أنــا ال أستغل طيبتهم، فاملعروف عني أنـي واحـد من الصنيعية القليلني الذين عندهم ضمير».