فرحات.. «شاعر التخوم» شرب األدب بكوب الصحافة
ــازج «الشعر» و«املوسيقى»
الحديثة والتكنولوجيا التي تسبقنا وال نكاد نلحق بها». وقـــال «أجــيــب وأوجــــز مــع مـالحـظـة مـبـدئـيـة، هــي أن قراءة الـــكـــتـــب كــــانــــت مـــصـــحـــوبـــة بـــــقـــــراءة املجالت األدبـــيـــة والــفــكــريــة، حــني كـــان الــنــقــد قادرًا على اإلحاطة بالنتاج الجديد، ومنبهًا الـى مواطن األهمية فيه، ومـحـذرًا مما يعتقده الناقد مضرًا بالعقل والنفس. كان الناقد آنـذاك رجل معرفة وإرشاد في آن واحد، حالة تشبه ما نتمنى أن يكون عليه الدعاة الذين يكتفون باملدح واللعن فينفض الناس عنهم». وشــــدد عــلــى ضـــــرورة مــشــاهــدة املـــســـرح ذي األصل األدبي مع الكتب، «والفن التشكيلي الذي يعبر بالخط والــلــون وتـطـويـع الكتلة الـصـمـاء، واملوسيقى بمستوييها الكالسيكي والفولكلوري مع ما يمكن أن يصحبها من غناء، وال ننسى السينما التي تجمع على الشاشة فنونًا متنوعة». وأشــــار إلـــى أن الـــقـــراءة هـنـا تـتـعـلـق بـالـكـتـب بــقــدر مــا تتعلق بالرؤية والسماع، ومعهما أحيانًا حركة الجسد التي تنتقل من املتحرك على املسرح إلى املشاهد املتجاوب. ورأى مــن حسن حظه أنــه ولــد فــي بــيــروت ونـشـأ فيها كونها «وفـتـوتـي خليطًا سكانيًا وخليط لـغـات، ال يمنعها بـقـدر ما يؤهلها لتكون العاصمة الثقافية للمشرق العربي، ففيها يتم اعتماد األديب أو الرسام أو املوسيقى أو املمثل أو املغني اآلتي من فلسطني وسورية والعراق، ليس بالضرورة من أقرانه اللبنانيني املكرسني، إنما أيضًا وربما فــي املــقــام األول مــن أقـــرانـــه الــعــرب الذين أقاموا في بيروت واعتبروها عاصمتهم كمثقفني». واسـتـدرك عبده خـال على أبـي الطيب املتنبي مقولة «خير جليس في زمان كتاب» قائال «هـل لي أن أستدرك على أبي الطيب املتنبي مقولته التي ذهبت مـــاء فــي مــجــرى الـعـقـول صـانـعـة أخدودا شق ردحـا طويال.. إالم تنبه عبقرية املتنبي لهذا الخطأ الشنيع؟» وأضاف «أما أنا فقد اكتشفت أن صحبة الكتاب ليست آمنة، فكل كتاب يقودك إلى الجحيم، ما لم تكن جلدا لتعبر مفازة األفكار لـلـوصـول إلــى قناعتك الــخــاصــة. إذ الزمــنــي هــذا الـشـعـور في السنوات املتأخرة من القراءة عندما تنبهت لحقيقة أن نصف املعرفة هي الجحيم وأخذت أنزع نفسي من ذلك الجحيم». واعتبر أن كل كتاب «يهز نخلة يقينك ويسلمك لطريق جديد»، عبدالله عبيان واإلعالمية أميرة العباس مجموعة من القصائد التي طغى عليها الجانب الغزلي، واختتم عبيان بقصيدة لـ«الزول عبدالحكيم السوداني». كما قـدمــت أمــيــرة الـعـبـاس نــصــني، واقـتـطـفـت بعضا من شعر املرحوم طالل الرشيد. وبــال مــنــازع، نـجـح الـفـنـان فيصل الـعـمـري فــي خلق تماه من نوع مختلف، واءم فيه بني الكلمة واللحن، في ليلة لم تخل من عبق اإلبــداع، ومـفـردات أضافت موضحًا أن مقولة أبي الطيب املتنبي صادقة عندما «تجالس كتابا يقدم لك ثقافتك السائدة فيكون خـيـر جـلـيـس، أمـــا إذا انـفـتـحـت على أفكار يبدأ القلق عندما تنتقل من الثقافة إلــى أفـكـار أخــرى ينشأ القلق، من أنــا؟ من هو اآلخر؟ مــــا مــعــنــى الــــعــــدالــــة، الخير، الــجــمــال؟ هـنـا تـهـتـز قناعاتك فكل ثقافة أنتجت أفكارها في كـتـاب ليصل إلـيـك فــي منطقتك الـــــــرخـــــــوة ويــــجــــرفــــك مــــــن مكانك املستقر». وألنـه يقف على اآلراء املحتدة واملتناقضة من خالل كتابة الشخصية الروائية، وجد عبده أن لكل رأي حجته التي تمنحه إيمانه الخاص وهذه الشخصيات هي «نتاج كتب.. كتب عدة منها العميق ومنها السطحي وكل منها كان نتاجا لكتاب ما، لذلك جاءت جملة (كـل فكر هو فخ ملن ضل عن إيمانه الخاص) جاءت تلك الجملة في رواية ترمي بشرر». وشدد على أن الكتاب «يمنحك ثقافة متغيرة وكلما أبحرت في األفكار كلما كنت في مناخ بحري تتعالى موجاته أو تنخفض إال أنك ال تكون في املكان الواحد فـي إبــحــارك»، مضيفًا «وكــل كـتـاب يـــزودك باألسئلة لـكـي يـدفـعـك لـكـتـاب آخـــر، هـنـا يـتـعـدد املـعـلـمـون وكل منهم تسكنه شبكة عنكبوتية مـن األفكار ولــن تستطيع معهم صـبـرا إذا كانت ثقافتك في السائد، ومـا اضطراب مــوســى أمـــام الــرجــل الـصـالـح إال تــمــثــيــل مـــبـــســـط فـــيـــمـــا يحدثه الكتاب من ارتجاج وعدم اتزان (هذا إذا اعتبرنا الرجل الصالح كتابا يكتب مـداده باألفعال غير املألوفة في ثقافة موسى ويمكننا مــنــاقــشــة وضـــعـــيـــة مـــوســــى كثقافة سائدة والرجل الصالح كثقافة متحركة، فالشاذ يغدو قـاعـدة فـي زمــن آخــر وعلم آخر
.») وتساء ل في آخر كلمته «هل صنعني الكتاب أم جعلني راحال ومقيما؟ راحال في أفكار ومقيما في أفكار.. الكتاب حولني إلى رحالة عظيم لم يستطع اكتشاف عامله؛ كون هذا العالم له عشرات الصور وكل صورة لها الحجة في أن تكون هي الحقيقة، وهذا هو الجحيم». بــهــاء عـلـى لـيـلـة ربـيـعـيـة غـيـر مـسـبـوقـة. كـمـا أدار رؤوس الحضور صوب زاويته، التي تجلى منها شعرًا ولحنًا وموسيقى، ضيفًا في أمسية ثقافية خــالــصــة، حـضـرهـا مــتــذوقــو الــفــن الــرفــيــع ومحبو املوسيقى األصيلة. وشهدت الفعالية معرضًا مصاحبًا للفنان التشكيلي صــالــح ســالــم، وأهــــدى فــي نـهـايـة املـنـاسـبـة لوحتني للصحيفة. مــن قــضــاء صــيــدا وفـــي وقـــت بـــدأ الــعــالــم يستيقظ من «عتمة الرعب» في الحرب العاملية الثانية، خرج محمد عــلــي فـــرحـــات األديـــــب الــشــاعــر والــصــحــفــي السياسي املعروف الـذي رافـق اسمه كبريات املطبوعات العربية تحريريا ورأيا. مــزج فـرحـات بـــأدوات الصحافة الحصيفة بـني الشعر والصحافة، حتى استطاع أن يرسم السمه خطًا بالغ التعقيد والـجـمـال، وأضـحـى محمد علي يكتب املقال السياسي بقالب نـثـري مبني على الــصــورة البالغية واملفردة الشاعرية، في مشهد ال يجيده إال فرحات وثلة قليلة في العالم العربي. يحفر في النفس باحثا عن األجوبة، ويجوب فضاء ات الثقافة بـ«ذا الجناحني»، متنقال بني النقائض بحرفية عالية، فالسير في حقل األلغام لعبة الكتابة قديما في العالم الـعـربـي، يـؤبـن رفــاقــه، وينتقد «األنـــا السوداء» ويخاصم جماعات اإلسالم السياسي. يقول عنه زميله الشاعر شوقي بزيع إن فرحات «منذ مجموعته األولى (بابل العصر) شديد االحتفاء باللغة وممتلكا ناصيتها ومفتونا بما تختزنه داخلها من طــاقــات وجــمــالــيــات مــضــمــرة، مــن دون أن يـعـنـي ذلك إشاحة عن املعنى أو وقوعا في فخ البالغة وورطتها». ويضيف في وصف فرحات الشاعر «الشاعر القادم من قـريـة عنقون الجنوبية الــى ضاحية بـيـروت الشرقية منتصف الستينات، والذي امتلك ولعا شديدا بالقراءة واالطالع، عرف كيف يوازن بدقة بني مقتضيات الحرفة األسلوبية ومقتضيات التقصي املعرفي واستنطاق األشــيــاء، نـائـيـا بنفسه عــن الــهــذر واإلطــالــة واإلطناب ومتجها نحو التكثيف واالختزال وكبح جماح اللغة». وال ينفك عن وجه فرحات الريفي الذي كسرته الحروب، ملمح الــحــزن، ولـكـن ملـعـان حـرفـه اسـتـطـاع أن يتخطى أزمــة الـظـرف عند الكاتب، ليفجر طاقاته كتابة شعرا ونثرا، وليمتلك أدوات بالط صاحبة الجاللة، ويحترف التعليق السياسي بمقالة ذاع صيتها عربيا.