حتوالت «حماس».. وخطاب بورقيبة التاريخي في فلسطني
فــــي الـــثـــالـــث مــــن مــــــارس 1965 ذهـــــب الرئيس التونسي األسـبـق الحبيب بورقيبة إلــى مدينة أريــحــا الـفـلـسـطـيـنـيـة وألــقــى خــطــابــه التاريخي الشهير الذي دعا فيه الالجئني الفلسطينيني إلى عدم التمسك بالعاطفة واالعتراف بقرار التقسيم الـــعـــائـــد إلـــــى .1947 حــيــث كـــــان الــــقــــرار يعطي اإلسرائيليني % 49 من أرض فلسطني التاريخية، ويعطي الفلسطينيني % 49 أيضا، ويبقي القدس تحت إشراف األمم املتحدة بنسبة % 2 من األرض. ثــــــــارت ثـــــائـــــرة الـــــعـــــرب حينها، واتـــهـــمـــوه بــالــخــيــانــة العظمى، قامت القيامة يومها ضد الزعيم الـــتـــونـــســـي، وراح عبدالناصر والـــــبـــــعـــــث الــــــــســــــــوري والــــنــــظــــام الـــعـــراقـــي يــســتــعــرضــون فـــي كيل التهم والشتائم ملقترحات وأفكار بـورقـيـبـة (االنــبــطــاحــيــة االنهزامية للعدو)، لكن بعد عامني فقط حلت الهزيمة الرهيبة التي نزلت باملزايدين، وتحول قـرار تقسيم 1947 إلى هدف بعيد املنال، وحلم يستدعي نضاال خياليًا لبلوغه. ترد هذه القصة في الذهن، بعد أن تناقلت وسائل اإلعــــالم مــراجــعــات حــركــة حــمــاس الفلسطينية، وتـــحـــوالتـــهـــا اإلســتــراتــيــجــيــة فـــي الــتــعــامــل مع إسرائيل، حيث وصلت أخيرا إلى االقتناع بحدود 76، وحذفت من أهدافها وخططها غاية «تدمير إســـرائـــيـــل»، حــيــث ورد فــي نــص وثــيــقــة املبادئ والـسـيـاسـات العامة لحركة املـقـاومـة اإلسالمية: «أن إقامة دولــة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من يونيو/ حزيران ،1967 هــي صـيـغـة تـوافـقـيـة وطـنـيـة مشتركة». قناعة سبقهم إليها رفاقهم في «النضال»، لكن بــالــنــســبــة لــهــم اســتــغــرق الـــوصـــول لــهــا عشرات الــســنــني، وكــثــيــرا مــن الـــدمـــاء والــضــحــايــا، حتى عادوا إلى املربع األول، اختيارًا أو اضطرارا، هي القناعة ذاتها التي اختارها زمـالؤهـم منذ عام ،1988 وكــان مــن املمكن حينها أن يــؤدي األمر إلى توافق سياسي ويحقق مكاسب ثمينة مبكرة للشعب الفلسطيني، لــو كـانـت الـقـلـوب عـلـى يد رجل واحد. لـم تفت هـذه النقطة على حركة فتح، التي علق متحدثها الرسمي أسامة القواسمي على وثيقة حماس قائال: «إنها وثيقة مطابقه ملوقف منظمة التحرير الفلسطينية في العام .1988 لذلك على حماس االعتذار ملنظمة التحرير الفلسطينية بعد ثالثني عاما من التخوين والتكفير، ومـا تسبب ذلـــك مــن انــقــســام حـــاد فــي الــشــارع الفلسطيني، توجته حماس باالنقالب، ومـا أدى إلـى تشويه بـــشـــع لــــصــــورة الـــشـــعـــب الــفــلــســطــيــنــي ونضاله ولـقـضـيـتـه الـــعـــادلـــة». يــتــســاءل الــقــواســمــي: «إذا كانت حماس قـد احتاجت ثالثني عاما لتخرج علينا بـــذات مـواقـفـنـا، فكم مــن الــوقــت ستحتاج ألن تفهم أن الــوحــدة الوطنية وإنــهــاء االنقسام أفضل للشعب الفلسطيني؟ وما هو املبرر الذي ســتــســوقــه حــمــاس لــلــشــارع الـفـلـسـطـيـنـي اليوم الستمرار االنقالب واالنقسام؟». لكن الوصول املتأخر، والعودة إلى قناعات قديمة كانت يوما ما (خيانة عظمى) ليست أزمة خاصة بحركة حماس وحدها، بل كانت حالة معبرة عن النخب السياسية العربية، وعقال جمعيا سائدا حينها كـان يظن أنـه يملك املقومات واملؤهالت التي تجعله قادرا على مواجهة القوى العظمى، تلك النخب هي التي رجمت الرئيس التونسي، الــحــبــيــب بــورقــيــبــة يــومــهــا بـــأوصـــاف الخيانة واملروق على اإلجماع حني تقدم بمشروع تسوية النزاع العربي - اإلسرائيلي، في 21 أبريل ،1965 عـلـى أســـاس قـــرار تقسيم فلسطني، الــصــادر عن األمــــم املــتــحــدة، فـــي 22 نــوفــمــبــر ،1947 بينما أصبح الحلم النضالي اليوم العودة إلى حدود .1967 كانت كلمات بورقيبة في خطابه التاريخي في أريــحــا ،1965 تعبر عــن نـضـج مـبـكـر، وواقعية سياسية معتدلة، استغرق الـعـرب ردحــا طويال وحــروبــا فاشلة مـدويـة لالقتناع بـهـا، واإليمان بحقيقتها. لـذلـك أصـبـح بـورقـيـبـة مــن مؤسسي الواقعية في السياسة العربية، - كما يقول الكاتب اللبناني حازم صاغية - «فهو الذي خاض معركة شهيرة ضد راديكالية صالح بن يوسف، دفاعًا عن استقالل يحصل تدريجًا ويجنب التونسيني اآلالم الــتــي عــانــاهــا الـــجـــزائـــريـــون، مـــن دون أن يــقــود إلـــى قطيعة مــع املــتــروبــول االستعماري. وعــلــى عــكــس مــعــاصــريــه العرب، كانت سياسة بورقيبة تأخذ في االعــتــبــار تـــوازنـــات الــقــوى والصلة بني الـقـدرات والـشـعـارات املطروحة». كان يؤمن بفشل السياسة التي تقوم عــلــى مــبــدأ (الــكــل أو ال شـــــيء)، يرفع شـعـار (خــذ وطــالــب)، ويــؤمــن بمبدأ مــرحــلــي وفــــق ســيــاســة (ال غالب وال مــغــلــوب) الــتــي تــعــنــي عنده تجاوز إطار الغلبة، واالرتفاع إلى نطاق التساوي بعدم غلبة أحدنا لآلخر.خطاب بورقيبة التاريخي في أريحا حمل مفاهيم سياسية بليغة، ومنطقا حكيما للتعامل مع األزمــات السياسية في الشرق األوســط، ربما لـــو اســتــوعــبــه الـــعـــرب بشكل مبكر لجنبت املنطقة نفسها الكثير من الكوارث والحروب، فـ «الكفاح املركز، يقتضي فهم الــعــدو، ومــعــرفــة إمكانياتنا الحقيقية، وتقدير إمكانيات الـــخـــصـــم، وضــبــطــهــا بأكثر مــــا يــمــكــن مــــن املوضوعية والـتـحـري والـتـثـبـت، حـتـى ال نــرتــمــي فـــي مــغــامــرة أخرى، تصيبنا بنكبة ثانية، وتعود بنا أشواطًا بعيدة إلى الوراء. هــــذا مـــا يــجــب أن نــفــكــر فيه ونــقــرا لــه حــســابــه»، فاإلكثار مــــن الــــكــــالم الـــحـــمـــاســـي، أمر ســهــل، وبــســيــط لــلــغــايــة، كما يــقــول بـورقـيـبـة: «أمــــا مــا هو أصعب وأهم، فهو الصدق في القول، واإلخالص في العمل، ودخــول البيوت من أبوابها. وإذا اتضح أن قـوانـا، ال قبل لها بمحق الـعـدو ورمـيـه في الــبــحــر، فعلينا أال نتجاهل ذلــك، بـل يجب أن ندخله في حـسـابـنـا، وأن نـسـتـخـدم، مــع مواصلتنا الكفاح بـالـسـواعـد اإلسـتـراتـيـجـيـة، وأن نستوحيها في مواقفنا، حتى نتقدم نحو الـهـدف، مرحلة بعد مـرحـلـة، مستعينني فــي ذلــك بالحيلة والجهد. وإذا كـان من حق الشخص الـعـادي، أن يتحمس للهدف النهائي، ويتخذ منه قـمـرًا، يعينه على السير إلــى األمـــام، فــإن على الزعيم املـسـؤول عن املعركة، أن يتثبت من الطريق املوصل إلى الهدف، وأن يدخل في حسابه املنعرجات، التي قد يضطر إلــى اتــبــاعــهــا، الجـتـيـاز الـعـراقـيـل والصعوبات. واملـنـعـرج ال ينتبه إلـيـه، فـي غـالـب األحــيــان، من تسيطر عليهم العواطف، ألن العاطفة تأبى إال أن تسير في خط مستقيم». يقول بورقيبة: «إننا ال يمكن أن نحقق نجاحا على األرض مـا دمـنـا نتمسك بسياسة (الـكـل أو ال شــيء)، التي أوصلتنا، في فلسطني، إلـى هذه الحالة، وأصابتنا بهذه الهزائم، خصوصًا وقد أبينا إال أن نتجاهل وجود اليهود، وإال أن ننكر التطورات واملعطيات الجديدة، وإال أن نستهني بما حققه اليهود، ونبالغ في تقدير قوة العرب وكفاء ة جيوشهم... أما هنا، فقد أبى العرب الحل املنقوص، ورفضوا التقسيم وما جاء به الكتاب األبــيــض. ثــم أصــابــهــم الــنــدم، وأخـــــذوا يــــرددون: ليتنا قبلنا ذلك الحل، إذن لكنا في حالة أفضل من التي نحن عليها».