Okaz

‪…bł ¡UMO‬ oeU

- ﻣﺤﻤﻮد ﺻﺒﺎغ @mahsabbagh

في شهر مارس الفائت، صرح سلطان بن سليم، رئيس موانئ دبي العاملية، فـي منتدى الدبلوماسي­ة الـعـامـة، أن شركته «تـورطـت في دخـول ميناء جدة ألن حجم األعمال في ميناء جدة ال يتناسب مع حجم اإليرادات». أتى ذلك التصريح اليائس بعد تصريحات أكثر تفاؤال أطلقها قبل أقل من عام تزامنت مع إعالن الشركة املظفر بالتوسع في املحطة الجنوبية للميناء وتقديم «خـطـة إلعـــادة تصميم امليناء الستقبال أكـبـر عــدد مـن السفن العمالقة». إن جدة هي هبة امليناء. وميناؤها كان في عصور ازدهاره بورصة السلع الشرقية، ومستودع بضائعها، ومصرف البحر األحمر وخليج عدن حيﺚ تتمركز رؤوس أمواله الكبرى. وهو نقطة إعادة التصدير األولى بالبحر األحمر، شريان التجارة الدولية؛ على رصيفه كانت تنجل البضائع الشرقية إلى أسـواق مكة والداخل، ومـن فرضته يعاد تصديرها إلـى أســواق ووكــاالت الشام ومصر ومـا وراءهما حتى نقطة البندقية قاعدة تجارة أوروبا. وميناء جدة، مثل إيقاع بحره، يعيﺶ على املد والجذر. لتواريخ ازدهـاره -كما ألزمنة انحطاطه- قواعد ثابتة تتعلق بالتنظيم والتخطيط واستيعاب حركة التاريخ من عدمها. هنا سوف أسـوق ثالثة أحـداث استلها من تواريخ متباعدة لعلها ترشدنا إلى عوامل الصعود والسقوط. يعود أول ازدهــار للتجارة الدولية في ميناء جـدة إلـى عـام ٢٢41م، على عهد برسباي، ملا سمح ملراكب الهند أن تتجاوز ميناء عدن إلى جدة مباشرة، بدال من الوصلة العدنية حيﺚ كان يتحتم على البضائع أن تنتقل إلى جدة إما بريﴼ، أو بالتجزئة عبر سماسرة في جالب وسنابيك ومراوس صغيرة. نظمت العشور، فصار هناك ضريبة على التجار الواردين إلى جدة من الهنود وتجار هرموز، وأخرى صممت حديثﴼ لتجارة إعادة التصدير إلى أسواق مصر والـشـام، وثالثة فرضت على بضائع موانئ اليمن البرية - وقـرئـت مراسيمها تجاه الحجر األسود. وصارت وظائف البندر تعني من السلطان، يترأسها شاد ديوان، أي نائب جدة، مهمته التفتيﺶ وتحصيل املكوس والضرائب على املتاجر القادمة من الهند والـيـمـن، يرافقه الـنـاظـر، واملحتسب، والـصـيـرف­ـي، بـاإلضـافـ­ة إلــى شـهـود القبان وكتاب املراكب واملباشرين. جر ذلك التنظيم على خزينة الدولة اإليــراد املنتظم، وزاد من متحصل البندر، حتى صارت جدة هي بندر التجار األول. وذاع صيت تجار جدة أصحاب رؤوس األموال الكبرى على طول فضاء املحيط الهندي، كبيت الطاهر املكي شاه بندر تجار الحجاز، وبيت الخواجا قاوان زعيم التجار األعاجم الراكزين بالحجاز، والخواجا ابن الزمن وكيل السلطان بميناء جدة، والتجار آل راحات والحوراني وغيرهم. حملوا تجارتهم العريضة، انطالقﴼ من قاعدة جـدة، على امتداد موانئ كنباية وكالكيوط وهرموز وعـدن وأسواق الشام ومصر. حتى أن القاهرة عرفت الخزف الصيني ألول مرة في م1431 عبر ميناء جدة وتجارها. وقد رافق فترة امليناء الذهبية، نواب كانوا نماذج في كفاءة اإلدارة والتشغيل أمـثـال: أبـي الفتح املنوفي وشاهني الجمالي واألمـيـر تنم األشـرفـي والصيرفي كريم الدين السعدي. كان عهد قايتباي ،)149٦-14٦٨( هو ذروة االزدهـار الدولي مليناء جدة. نودي بتقليﺺ املكوس الزائدة على رصيف الفرضة، وعلقت قراراتها على أسطوانات بباب السالم باملسجد الحرام، فتضاعفت املراكب واألغربة املوسمية القادمة من موانئ كنباية ودابول وكالكوت.. وأصبح القماش ال يدس فيه شيء من الدبﺶ، ويعشر كله، وأصبح الفلفل والبهار ال يخلط مع التراب. لـكـن الـسـيـاسـ­ات اﻵنــيــة عـلـى عـهـد قـانـصـوه الــغــوري، مـنـذ عــام ٦941، فــي غالء الجمرك وفرض املكوس املضاعفة، ومنع اإلفرنج من التجارة، ثم في منع جدة من إعـادة تصدير البضاعة الهندية إلى الشام، ناهيك عن املمارسات املزدوجة بالسماح بدخول البضائع الهندية القادمة في عدن لبعض النواخذة أصحاب الحظوة.. كل ذلك كبح من نمو امليناء، وزج ببندر جدة في منحنى الخراب. تزامن ذلـك مع صعود البرتغالين­ي بحريﴼ وتحويلهم مسار التجارة الشرقية من البحر األحمر إلـى رأس الرجاء الصالح- وتعيني نائب لجدة أحـد خواص السلطان هو حسني الكردي، وكـان رجـال أتوقراطيﴼ باطشﴼ، هو أيقونة انهيار امليناء. كان الكردي يأخذ العشور من تجار الهند املثل عشرة أمثال، فامتنع التجار من دخـول بندر جدة وآل أمـره إلى الخراب، وعز وجـود الشاشات واألرز واألنطاع، وأخرب البندر. وتوسع في نهب التجار، فانتقل أعيان تجار جدة إلى عدن؛ أمثال أحمد العيني، الخواجا ابن الخبازة، البطيني املكي، والخواجا ابن راحات. رافــق الــكــردي فـي حقبته املظلمة املحتسب زيــن الـديـن الـنـاظـر، الــذي أوغــل في االحتكار، وضاعف املكوس واملجود ورسوم الزالة- فشاع االختالس، وصار القمح الـذي يرسله السلطان من البحر يباع نصفه من املباشرين املختلسني في جدة قبل أن يصل إلى املستفيدين في مكة واملدينة. كما سرقت صدقات كنباية من أرز ودخن وشاشات من أحواش الفرضة. حتى إن أحد فضالء مكة قال يشكو فساد امليناء آنـذاك، فيما أورده ابن الفهد في تاريخه (نيل املنى): «يا أيها السلطان.. نشكو إليك تاج الدين.. لو قيل لي اختاره لك ناظرﴽ، قلت العمى، وال هذا النظر». ومع موسم 30٥1م لم يصل من الهند سوى مركب أو اثنني من دابول وهرموز، تعذر دفـع عشورهما بـاملـال، فدفع بالقماش لعدم وجــود مشتر.. وصــارت مكة «مشحوتة» وليس فيها شيء يشترى وال يباع وال مأكل وال زاد. هكذا استحالت الريادة إلى كرب. ثم جاء الصعود الثاني مليناء جدة في آخر القرن السابع عشر مع صعود القهوة كسلعة إستراتيجية. في ٨9٦1م نظمت في جدة تجارة تصدير القهوة، وجعل شريفي أحمر على كل فرق من الﱭ يجري إعادة تصديره عبر املراكب املصرية. كما فتح ميناء جدة للسفن األوروبية ألول مرة، فصار يصل كل عام من أربعة إلى ست سفن إنجليزية، غير املراكب الهندية القادمة من سورات وبومباي وكالكوتا. فصعد ميناء جدة إلى ذروة مستأنفة. لكن الذهنية املتعسفة، سوف تعود مع عام 90٧1م مع صدور قرارات منع تصدير القهوة من جدة. جفف ذلك من نقد جدة، ودفع تجار الكوجرات واألوروبين­ي إلى التدفق بغزارة إلى موانئ البحر األحمر البديلة، فازداد نشاطها، مقابل تقويض حيوية جدة. بل كانت تلك السياسة الرعناء سببﴼ في كساد تجارة الﱭ- إذ دفعت األوروبيني للبحﺚ عن بدائلهم في استزراع الﱭ في العالم الجديد. وملا وصلت قهوة االنتيل إلى فرنسا في 03٧1م، كان ذلك رمزية انهيار القهوة العربية. وضعف الرقابة فصل من فصول ضعف النظرة اإلستراتيج­ية. نالحﻆ في سبتمبر 93٨1، في خطاب موجه من الجناب العالي، أي سراي محمد علي باشا، إلى أحمد باشا يكن سر عسكر الحجاز، من محفوظات دار الوثائق القومية املصرية، يطلب منه استيراد حنطة وشراء غالل من ناحية ميناء مسقط، بــدال من املسار التقليدي، أي ميناء القصير بالبحر األحـمـر، بسبب ممارسات «االختالس» التي تفشت في ميناء جدة، وضاعفت من أسعارها األساسية.. «إذا قايسنا مجموع املـصـاريـ­ف، باملصاريف الـالزمـة لها، فـي حالة نقلها مـن جهة مسقط، إلى تلك الجهات، سنجد أن النفقات األخيرة أهون لنا». هكذا- بدال من أن تأتي حواصل القمح من ميناء القصير املرتبط بحقول واليات مصر العليا في قنا وقوص وأسيوط - أي من طريق «العيﺶ» التاريخي، صارت تستدعى من املالحة األبعد. يرتبط جوهر التواريخ السابقة بتركيبة واحدة: تكسد تجارة امليناء كلما تعقدت إجراءات الجمرك أو شردت من قياداته نغمة االبتكار وحساسية استباق الزمن. يفتخر ابن سليم أن ميناء دبي احتفل بمرور مئة عام، هو تاريخ دخول التجارة إلى الخور. وفيما تقف جدة على مشارف مرور خمسمئة عام ميالدي على بدء التجارة الدولية فيها، ال تكاد تجد مبررا موضوعيا لالحتفال- كاف أن تنظر أيـن هي «موانئ دبـي» كعالمة تجارية وسمعة دولية ودمغة إداريــة، وأيـن هو ميناء جدة؟

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia