Okaz

املدينة التي ال تضيع فيها ال ميكن أن تعرفها !

-

عـدت إلـى «كنساس سيتي» من نيويورك طبيبا زميا أخبرني أن هناك حفا يقام بالجامعة التي تخرجنا فيها بمناسبة مضي مائة عـام على إنشائها والدعوة وجهت لجميع الخريجن القدامى وعوائلهم.. واقترح أن أخرج مما أنا فيه، ولم يكن يعرف إال القليل مما أنا فيه ولو كان يعرف الكثير الستدعى قـوات الدفاع املدني لزحزحتي من نيويورك بصورة ال إراديــة.. وافقته على الفور وفي اليوم املحدد لاحتفال كنت أقف إلى جانبه.. تغيرت مامح وجهه كما لو أنه رأى شبحًا «جامعة كنساس للطب والعلوم الطبية املساعدة» نصبت الخيام في املساحات الخارجية الخضراء ونشرت الطاوالت والكراسي وخصصت منطقة للشواء وتقديم الطعام والشراب املجاني.. رفع أحد الحضور يده وكان يجلس قبالتنا تقريبًا خلف واحدة من الطاوالت التي رتبت على شكل مربع ضخم تعجبت أنني لم أره كان في أواخر العقد السادس من عمره مثلنا وبدا أنيقا بقميص أبيض وجاكيت كتان أوف وايت شعر ناعم يتخلله شيب يذكرني باملمثل «ريتشارد جير» كان رجا استثنائيًا تخصص في جراحة العظام كنا نطلق عليه أمير الجامعة بسبب أناقته.. عاصفة من الضحك انطلقت خلفنا شبيبة من حديثي التخرج يأخذون صـورة «سيلفي»، تظهر أياديهم مطلقن عامة النصر والفم الذي يسمى فم «البطة» وهي منتشرة عند الشبيبة وتحديق العن ومد اللسان.. لعلماء النفس رأي فـي ظـاهـرة «السيلفي» قـد أتـطـرق إليها فـي مـقـال الحــق حيث ال أحــد يعلم بالتحديد مـن هـو النرجسي الــذي التقط أول صــوره «سيلفي» لنفسه وإن كــان هنالك روايات ترجح أنها ظهرت في عام 1966 عندما التقط رائد الفضاء «باز الدرين» صورة لنفسه خال بعثة تدريبية هناك.. ما علينا.. كنت سعيدًا وأنـا أتأمل خضرة األشجار.. كان هواء الصباح اللطيف يعبر رئتي ويملؤني بهجة.. ها قد بدأ الخريجون القدامى بالوصول.. تساءلت عن ردة فعل من سيصافحني أوال بعد كل هذا الوقت ومن سيكون؟ استطعت تميز صـوت عميد الكلية الــذي كـان يحتل ذلـك املنصب عند تخرجنا.. أخيرًا بعد تلك السنوات ها أنا أمامه وجهًا لوجه.. كنت أعتقد بأنه سيلعب دور املحقق معي.. أين أنت؟ وماذا تعمل حاليًا ؟ كم من األوالد لديك؟ ولله الحمد لم يفعل كل ذلك صافحني بمودة رغم أنه كان دائم التجهم وكان وجهه يوحي للجميع وكأنه على استعداد إلشعال حرب أهلية.. ولم يكن يبتسم حتى للرغيف الساخن.. كانت عيناه منصبتن على مامحي يملؤها طـرب مـا! وهـو يـرى أي دهشة تلك التي أحــاول إخفاءها وكنت فعا قد عزمت على أن يظل وجـهـي كصفحة حافلة بـحـروف لغة انقرضت مـن الصعب فـك أسرارها.. حن شد على يدي أدركت أن نفوذه كله انتهى وتجمع اآلن فقط في تلك اليد.. كنت كلما التقي بأحدهم مرحبًا بي أعارك ذاكرتي.. أنفضها.. أزريها.. أمضي بعيدًا أسترجع وجوه أصـدقـاء تطل وتبتعد تتجمع وتــذوب تـذكـرت بعضهم وفـقـدت بعضهم فـي منعطفات حــادة وطــرق لم تتبن لي نهايتها.. كنت أشعر بارتباك شديد أحيانًا عندما يدعوني أحـدهـم باسمي.. أشعر بارتباك كما لـو أنني فتحت الـبـاب فأمسك جندي يـدي بصمت ووضعني أمام حائط إعـدام!! من بعيد ظهرت الدكتورة «بتريشيا»، ومن ال يتذكرها لم تكن طالبة في الجامعة بربع جمالها.. بل ولم تكن هنالك امرأة في كنساس سيتي بخمس جمالها تناسق مدهش كان يسكن مشيتها.. كان شعرها القصير املائل للحمرة ووجهها النحاسي فتنتن أتحدتا للتعبير عن األنوثة في أقصى تجلياتها.. ذلك كله كان يعطي إحساسًا قويًا بأنها خرجت للتو من يد الخالق إلى مجد األنوثة.. كل ذلك انقشع فجأة.. وقفت شبه مصعوق وأنا أصافحها كانت على كرسي متحرك.. تغيرت تماما.. دهمتها أمـراض الشيخوخة مجتمعة فسلبتها جمالها وحيويتها، لكن مهما تغير اإلنسان من الصعب أن تتغير مامحه، أقول هذا ألنني في الحقيقة فخور بذاكرتي البصرية بعد أن أصبحت ذاكرتي الذهنية صفحة بيضاء.. كان التجمع مناسبة جميلة لتبادل الحكايات والنكات والقفشات واألخبار.. الضحكات تتعالى أحيانًا والتأثير باد على الجميع.. بحر من الذكريات في كل مكان.. حكايات عن الشباب والكهولة.. حكايات صداقات ومغامرات عاطفية وحكايات بؤس وحظ أطل في اللحظة األخيرة.. كأن املستشفى التعليمي ينتصب أمامي.. في هذا املستشفى استقبلت ابني األول «فراس» ذات يوم اتصلوا بي من املستشفى وأخبروني أن زوجتي في حالة وضع.. كنت في املحاضرة وخرجت منها.. حال وصولي أطلقت زوجتي تلك اآله الطويلة وكأنها تفتح بابا آلالمها ليغادر جسمها أجمل طفل.. حملته على ذراعي مضيئا على نحو لم أره من قبل من أي وليد في ذلك املستشفى والذي عملت فيه 5 أعوام لعل ذلك يعود إلي إنه ابني.. كان الطبيب الذي جاء فراس على يديه في الحفلة كونه أحد خريجي الجامعة.. انقضت الحفلة الكل يشد على يد اآلخر.. البعض كان يلوح بيديه عن بعد في حركة أشبه ما تكون برفيف طائر فقد جناحيه.. يقال «إن املدينة التي ال تضيع فيها ال يمكن أن تعرفها»، ولقد عشت في هذا املكان أياما بيضاء وأخرى قابلة لكل شيء.. لكل كام عن الفرح والحزن واليأس واألمل والشقاء والسعادة والخيانة والوفاء والجنب والشجاعة والحب والكراهية والجمال والقبح واملوت والحياة.. وها أنا أعود ألحدق من جديد في نفس املكان وألكتب لكم وبخط كبير جملة قصيرة مكونة من كلمتن ال غير «هنا تعلمت» !

 ??  ?? احتجاجات حاشدة لجماعات إيرانية معارضة للنظام في طهران خارج مجلس العالقات الخارجية، حيث يوجد وزير الخارجية اإليراني جواد ظريف لمناقشة التطورات الحالية في الشرق األوسط. (أ. ف. ب)
احتجاجات حاشدة لجماعات إيرانية معارضة للنظام في طهران خارج مجلس العالقات الخارجية، حيث يوجد وزير الخارجية اإليراني جواد ظريف لمناقشة التطورات الحالية في الشرق األوسط. (أ. ف. ب)

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia