Okaz

التغافل.. فن ال يتقنه إال األذكياء

-

قيل إن اإلمــام ابـن حنبل سئل: «أيـن نجد العافية؟» فقال: «تسعة أعشار العافية في التغافل عن الــزالت»، ثم قــال: «بـل هي العافية كلها». التغافل فن من فنون الحياة التي كنت أتمنى أن تعلمه املدارس كمهارة حياتية مفيدة للفرد واألسـرة واملجتمع. فاملتغافل يا أصدقائي إنسان مرتاح ومريح ملن حوله، يرى الخطأ فيحسبه بسرعة كمبيوترية في دماغه ليتوصل لنتيجة أن املعادلة ال تسوى كل مرة وأن من الحكمة ترك هذه الزلة أو تلك تمر مرور الكرام وهو كأنه لم ير شيئًا. ولكن هذا التغافل فن ال يتقنه الكثيرون، فهو فن صعب ومعقد، يحتاج إلــى ضبط النفس وحـسـاب للعواقب، ولــذا فهو ليس بمهارة سهلة بل تحتاج إلى تدريب وتطوير لتصل للشكل املطلوب، فبعض الناس يولدون بمزاج متأن، فيكون التجاهل موافقا لطبيعتهم. أما أصحاب األمزجة النارية أو «املجاكرة» فهم في حاجة ماسة لكورسات مكثفة في فن التجاهل. والتجاهل فن يقوم على حساب دقيق كما قلت فهو في ظاهره يمكن أن يبدو غباء أو غفلة، ولكنه في الحقيقة حكمة وصبر وذكــاء وتخطيط، فليست كل هفوة تحتاج إلى تدخل، وليست كل زلة أيضا يمكن التغاضي عنها، ولذا فإن التغافل كما قلت يتوجب أن يضاف لكورس يسمى مـهـارات الحياة؛ ندرسه لطالبنا فـي املــدارس مثله مثل إعــداد الطعام أو الخياطة أو «الــدي آي واي» وهو يشمل النجارة وتركيب األثاث ودهن الحيطان وغيرها من األعمال التي يحتاجها اإلنسان كمهارات ليكون مستقال وعمليًا. فــاألب واألم املتغافالن عـن الـهـفـوات الصغيرة يكسبان أبناءهما على املدى الطويل أكثر من هؤالء الذين ال يتركون شاردة وال واردة إال ويعاقبون عليها. وهذا ينطبق على العالقات العائلية واإلنسانية كافة. كانت لدي صديقة بريطانية وكانت من العباقرة في الفيزياء الفلكية، وحصلت على بعثة فـي إحــدى الـجـامـعـ­ات املـشـهـور­ة لـتـدرس الــدكــتـ­ـوراه، وألنـهـا كانت أصغر الطالب سنًا والفتاة الوحيدة في ذلك القسم فقد كانت تتعرض لبعض التعليقات إما الجارحة أو الساخرة للنساء أو أحيانا املتحرشة بخفية، وكنت أقول لها كيف تواجهني كل هذا؟ فقالت لي: «بالتغابي، أسمع ما ال يعجبني فأظهر وكأنني لم أفهمه وأنت تعرفني البريطانين­ي ال ينتقدون مباشرة أبدًا بل يغلفون النقد، وحتى التحرشات تكون مبطنة، ولكنني أفهمها طبعا وأعيش الدور وكأنني ال أفقه شيئًا». أذكر أيضًا أستاذًا جامعيًا كان يدرسنا األدب في مرحلة املاجستير، وقد أصدر كتابًا مميزًا، وأثناء املحاضرة أشـار أحـد الطالب إلـى كتابه الجديد، فقال له جيد أنك قرأته، فقال نعم لقد وجدته في قائمة «البست سيلرز» أو أكثر الكتب مبيعًا، فسخر طالب آخر حينما التفت األستاذ ليكتب شيئا على اللوح، وقال بصوت مسموع: «أكثر الكتب مبيعًا في مكتبة الكتب املستعملة أو في الحراج؟» وضحك بعض الطالب الخبثاء. ولكن األستاذ أكمل املحاضرة بال تعليق. وبعد انصراف الطالب ذهبت ألسأله سـؤاال ثم قلت له: مؤسف ما حصل وذلـك غير مقبول وهكذا. فقال لي: ال وال يهمك. أنا تعودت على مشاغبة الطالب. قلت له: أتسمح لي أن أسـأل ألتعلم درسـًا منك، أال تضايقك هذه التعليقات حتى بعد سنوات من خبرة التدريس الجامعي؟ فأنا أتوقع أنني من الصعب أن أتعود على هذا النوع من النقد. فقال لي: «يا عزيزتي إن أردت أن تكوني ناجحة، يجب أن تتعلمي أنه ليس لديك وقت ملثل هذه التفاهات، أنا أركز طاقتي ووقتي ملا يفيدني وليس ملا يضايقني ويحزنني». وفعال ما زلـت أذكـر هـذه الكلمات وأردد بيني وبـني نفسي املثل الـذي رددناه ونحن صغار: طنش، تعش، تنتعش. تمنياتي لكم بيوم منتعش.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia