موارنة إيران: أهل ذمة حزب الله
فاجأتنا الـرابـطـة املـارونـيـة فـي لبنان ببيان أســـود، أشـــادت فيه بخطاب حسن نصرالله أمـني عـام امليليشيا املسماة «حــزب الـلـه»، وحيت «شـهـداء» ميليشياه، وأضافت: «العملية العسكرية الجارية في جـرود عرسال تشكل الخطوة األبرز في حماية الحدود الشرقية للبنان ومنع اإلرهـاب من مواصلة التسلل إلى األراضـي اللبنانية، حيث ارتكبت في السنوات املاضية جرائم بشعة بحق املدنيني في أكثر من منطقة، باإلضافة إلى الجرائم التي ارتكبت بحق الجيش اللبناني». صدر البيان بتاريخ ٨2 يوليو ٧102، وأعد هذا التاريخ مأتما لثالث فرق؛ أولهم منظرو القومية اللبنانية واملـارونـيـة السياسية على غــرار يوسف الـسـودا وشــارل مالك وفــؤاد افــرام البستاني، وثـانـيـهـم املـنـظـرون املسيحيون للقومية الـعـربـيـة مـثـل نجيب عــــازوري وجـــورج أنطونيوس، وثالثهم أربــاب التناغم اللبناني - العربي كالبطريرك مــار نصرالله بطرس صفير والنائب الراحل سمير فرنجية، فبعض جمهورهم لم يصمد في لبنانيته أو عروبته، إنما تأيرن، ومنهم من ابتدع طائفة مستحدثة أو مذهبا جديدا داخل املسيحية، فما نعرفه عن الطوائف املسيحية الرئيسة أنها البروتستانتية واألرثوذكسية والكاثوليكية، واملارونية من تفرعات األخيرة، لكننا لم نسمع يوما عن مسيحية جعفرية أو مارونية اثنتي عشرية. والحديث عن الرابطة وصفير يشدنا للحديث عن موقف بكركي، البطريركية املارونية التي تعد الرابطة من مشتقاتها، صفير هو بطريرك لبنان الدائم قبل أن يكون بطريرك املوارنة السابق، لم يتحدث عن الحزب اإللهي أبدا إال بنص «ما يسمى بحزب الله»، وفي ليلة االنتخابات النيابية عام 200٩ صرح محذرا من مشروع إيراني يهدد كيان لبنان وعروبته، ودعا الناخبني إلى اتخاذ املواقف الجريئة التي تحفظ الهوية اللبنانية، ليبقى لبنان وطن الحرية والسيادة واالستقالل. سيد الصرح املاروني اليوم، البطريرك بشارة الراعي، له مواقف متموجة، فباغتنا في بدء واليته بزيارتني متناقضتني، األولــى لسوريا األســد والثانية لفلسطني املحتلة، وقـد واجــه معارضي الزيارتني بصالبة نادرة، ثم شاهدناه في فرنسا يعلن تأييدا مبطنا لبشار األسد، ومؤخرا صرح في مقابلة تلفزيونية قاصدا حزب الله: «أنا مواطن لبناني، وشريكي مواطن أيضا، أنا أعزل وهو مسلح، وهذا شيء غير طبيعي»، وليته يصمد، أو أن الرابطة عبرت عن تغير مزاجه. انتقال صولجان بكركي من صفير إلى الراعي غير الكنيسة املارونية، ونترك للتاريخ الحكم على هذا التغيير. وجد بيان الرابطة غضبة مارونية على مستوى األفــراد أبرزتها وسائل التواصل االجتماعي، لكن األحــزاب املارونية الكبيرة تعامل أغلبها مع البيان - علنا على األقـل - كأنه لم يكن، لذلك فالصورة العامة تكشف تغير مزاج مسيحي نحو إيران ونظريتها «تحالف األقليات»، أي تكالب املكونات العربية غير السنية على السنة، فكل شهداء السنة ومهجريهم ال قيمة لهم وال وزن، وكل اإلرهابيني سنة وال غير. عانى املوارنة واملسيحيون قبل غيرهم من الفكر الذي عبر عنه بيان الرابطة العرجاء، فمن ينسى أن حزب «حراس األرز» ظن الجيش اإلسرائيلي جيش خالص للمسيحيني، والجبهة اللبنانية ظنت - في لحظة معينة خالل الحرب األهلية - أن حافظ األسد هو حامي املسيحيني وحقوقهم، وال نستثني مسلمني من هذه الحماقات، وأعني أولئك الذين اعتقدوا في ياسر عرفات ثم البعثي حافظ األسـد رافعة للسنة وللشيعة ولـلـدروز، وبيان الرابطة في صلب هـذا السياق، فهي ترى في ميليشيا حزب الله اإلرهابية حامية للمسيحيني وصديقة للجيش، مع أنها امليليشيا التي قتلت باسل فليحان وجبران تويني وبيار الجميل وجورج حاوي وسمير قصير وانطوان غانم والنقيب الطيار سامر حنا والعميد فرانسوا الحاج، وكل هؤالء مسيحيون. لن أتحدث عن شهداء املسلمني في ثورة األرز، رفيق الحريري ووليد عيدو ومحمد شطح ووسام عيد ووسام الحسن وهاشم السلمان، فمن ال يرى في سبعة ماليني الجئ سوري حول العالم إال الجئي طائفته، ومـن ال يـرى من 500 ألـف قتيل ســوري إال قتلى طائفته، كيف نحدثه بمنطق اإلنسانية وبلغة البشر؟، فأغلب هؤالء الالجئني والشهداء سنة، وحزب الله الذي تحييه الرابطة املارونية شريك رئيس في هذه الجرائم بجوار داعش وبشار وبوتني والقاعدة وإيران، وال أرى في تحية الرابطة إال مباركة لجرائم الحزب من لبنان وسوريا والعراق إلى اليمن ودول الخليج. بيان الرابطة املارونية بدا وكأنه صادر عن كتلة الوفاء للمقاومة، وال عجب في ذلك، وقنوات «مسيحية» مثل LBC وMTV تتعامل مع معركة جرود عرسال كتعامل قناة املنار التابعة لحزب الله، وهناك األسوأ، فتغطية صراع اإلرهاب مع اإلرهاب في جرود عرسال بدت موحدة في أغلب محطات لبنان، وكأن غرفة العمليات الدعائية التي ترأسها جميل السيد زمن الوصاية السورية قد عادت إلى الحياة والعمل، لكن ملصلحة إيران هذه املرة. لتنشيط الذاكرة، في ذروة املارونية السياسية كان الرئيس املاروني فؤاد شهاب ٤6٩1) -1٩5٨( زعيما للمسلمني أكثر من كونه زعيما مسيحيا، وفي مؤتمر لوزان ٣٨٩1 - ٤٨٩1 وقف سليمان فرنجية «الجد» وقال: «لن أتنازل عن شبر من عروبتي كما لن أتنازل عن شبر من مسيحيتي»، فرد عليه بيار الجميل «الجد»: «ملاذا كلما تحدث أحد عن عروبة لبنان نظرتم إلي؟ لبنان عربي». وحني أعـود إلى مذكرات صونيا فرنجية أجدها وثقت إحـدى وصايا امللك عبدالعزيز ألبنائه «لبنان هو نافذتنا املفتوحة باتجاه الغرب بفضل مسيحييه، دعونا ال نغلق هذه النافذة حتى ال نختنق. يجب أن يكون رئيس لبنان مسيحيا». وتروي فرنجية أنه في كل مناسبة عربية أو دولية كان امللك فيصل يحرص على االحتفاء بالرئيس اللبناني املاروني، «للتأكيد على تحضر العرب واحترامهم للتنوع» وفق كلمات امللك. في ذروة الحرب األهلية هاجم الكاتب السعودي الدكتور عبدالله مناع رئيس حزب الكتائب بيار الجميل، فاستدعاه وزير الدفاع األمير سلطان بن عبدالعزيز الذي أعرب عن غضبه واستيائه من املقاالت «كيف تهاجم رجال يدافع عن بلده؟»، وللرئيس املصري محمد أنور السادات تصريح شهير رد فيه على هجمات الصحافة املصرية التي نالت من القيادات املسيحية اللبنانية، «كميل شمعون وبيار الجميل وسليمان فرنجية عرب أقحاح»، فأرسل العميد ريمون إده (رئيس حزب الكتلة الوطنية) رسالة إلى السادات: «هل يجب أن أقتل املسلمني حتى تعترف بعروبتي؟!»، ومن يعرف التاريخ الناصع واملشرف إلده، لن يتعجب من انشقاق رئيس الرابطة املارونية الراهن انــطــوان قـلـيـمـوس عــن حـــزب الـعـمـيـد وخـلـيـفـتـه كــارلــوس إده، وسوء حظ الرابطة قد يعكس سوء حظ بعض شعبها: من بيار حلو وميشال إده إلى قليموس. أتأمل املزاج املسيحي هذه األيام، ومسيرة املارونية السياسية متذكرا مقولة الرئيس التاريخي بشير الجميل الــذي يعرف جــمــهــوره أكــثــر مــنــا وال مـــزايـــدة عـلـيـه «نــحــن مــالئــكــة هـــذا الشرق وشـيـاطـيـنـه»، وبشير هـو الـرئـيـس الــذي بـاركـت اململكة انتخابه - بعد اجتماعه بـوزيـر الخارجية األمـيـر سعود الفيصل - ورفضت االنتخاب سوريا وإيران، وقتله حافظ األسد. بشير مناضل مـن سلسلة عـريـضـة، أرادت خــروج املسيحية من مـفـهـوم «أهـــل الــذمــة» الــتــي اخـتـصـروهـا فــي دفــع الـجـزيـة مقابل الحماية، وفــي هــذه السلسلة هناك مـن فضل الـخـروج إلــى دولة مسيحية، وهناك من ارتضى الدولة املدنية الوطنية الجامعة، لكن يحسب لهم أنهم أرادوا الدولة بغض النظر عن شكلها وهويتها، ويأسف اليوم األب جورح مسوح على ميل طوعي وجماعي عند املسيحيني، في انقالب على الحداثة والـتـاريـخ، ألن يكونوا أهل ذمة حزب الله، فهم في حماية ميليشيا مقابل جزية تغطية السالح غير الشرعي واملشروع اإليراني ووالية الفقيه. بشير ومسوح، مع الفوارق الزمنية والوظيفية والفكرية بينهما، لم ينتبها إلى أن املسلمني، والسنة خصوصا، أول من قفزوا فوق مفهوم الذمية، ففي عصر النهضة العربية كان املسيحي األرمني أديـب إسحاق تلميذا للشيخ جمال الدين األفغاني، وكـان شعار حزب الوفد وثورة ٩1٩1 هو عناق الهالل والصليب، كما تعانق الحقا رياض الصلح وبشارة الخوري من أجل استقالل لبنان، واستمرت هذه الصيرورة، وحقق فهمي هويدي كتابه «مواطنون ال ذميون»، وتمسك رفيق الحريري بعنوان املناصفة. كتب األمير طالل بن عبدالعزيز في صحيفة النهار بتاريخ ٩2 يناير 2001 عن املسيحيني بأنهم «شكلوا حلقة وصل واتصال، وعمقا ثقافيا أصيال في العروبة ومتقدما في الحداثة، وبقاؤهم ترسيخ للتنوع الثقافي وللدولة العصرية وللتعددية وللديموقراطية، وهجرتهم ضربة عميقة توجه إلى صميم مستقبلنا». نــذكــر إخــوانــنــا املـــوارنـــة بـــأن «األقـــلـــيـــات»، ونــســتــخــدم هـــذا املـصـطـلـح مـــجـــازا، لــم يتعرضوا لالضطهاد فترة الحكم اإلسالمي العربي ثم الليبرالي، إنما كان اضطهادهم في عهدين؛ عهد إسالمي عجمي كالترك واملماليك، وكإيران اليوم. ثم عهد أقلوي، كما فعل الفاطميون بمصر، وكما فعل العلويون في لبنان زمـن حافظ األســد وبـشـار. والعهدان يستغالن األقليات قبل التنكيل بهم. ال يمكن إغفال دور التيار الوطني الحر في تشويه املوارنة وتدمير لبنان وتفجير العالقات اإلسالمية - املسيحية، فمنذ وقع هذا التيار، وهو صاحب أغلبية النواب املسيحيني، وثيقة التفاهم سنة 2006 مع حزب الله، وهو يغطي جرائم الحزب في الداخل والخارج، ووصل به األمر إلى االحتفال باغتيال بعض رموز ٤1 آذار أو تمنيه، وعمموا تهمة اإلرهاب على جمهور أهل السنة، وشنعوا على السنة بأنهم يغتصبون الحقوق املسيحية، ويمنعون وصول الرئيس القوي «ميشال عون» لرئاسة الجمهورية، وفي سبيل ذلك عطلوا الدولة - بال خجل - لسنوات، واتهموا تيار املستقبل بالدعشنة وبرعاية التطرف، مع أن املستقبل ضرب تنظيم فتح اإلسالم في النهر البارد وحليفهم نصرالله رفض الضربة قائال «النهر البارد خط أحمر»، أما حليفهم األكبر بشار األسد فقد أخرج مؤسس تنظيم «فتح اإلسالم» من السجن بالعفو سنة 2005 كما أخرج قائد جبهة النصرة أبا مالك التالي بعفو آخر سنة .2011 وكنا نظن أن التسوية الرئاسية أعــادت الحقوق املسيحية، ومكنت الرئيس الـقـوي، وأنهت العنصرية العونية ضد السنة، لكن الداء استفحل، فانكب رئيس التيار جبران باسيل مؤكدا على إرهابية الالجئني السوريني جميعا، وممهدا للمعركة اإلرهابية في جرود عرسال بني إرهـاب النصرة وإرهــاب حزب الله، وهـدف املعركة االستعراضية تبييض صفحة حزب الله اإلجرامية وحصر اإلرهـاب في السنة، وشد عصب «األقليات» حول الحزب اإللهي، وتغطية انسحابه الذليل من الجنوب السوري، وانكشف املستور بتصريحات قائد النصرة أبي مالك التلي، الـذي عقد صفقة مع الحزب ملزمة للدولة اللبنانية، فلم تجتمع من أجل الصفقة حكومة ولم يوقع عليها رئيس قوي، بل املرشد األعلى للجمهورية اللبنانية حسن نصرالله، ولـعـل هــذا يكشف للبنانيني أن القضية ليست صــراعــا بني اململكة وإيــــران داخـــل لـبـنـان، إنـمـا صـــراع وجـــودي يخوضه اللبنانيون ضد إيران. التيار الوطني الحر وبـيـان الـرابـطـة يمثالن تـورمـا لنظرية تــحــالــف األقـــلـــيـــات، وهــــــذه الـــحـــالـــة الـــفـــكـــريـــة، بـــاســـم حقوق املسيحيني، وباسم كيد تاريخي ضد اإلسالم، وباسم املطامع الشخصية الضيقة، أهدت لبنان إلى إيران، ومكنت نصرالله مــن تحقيق حلمه الـقـديـم املــوثــق واملــســجــل: «ال نـريـد لبنان جمهورية إسـالمـيـة فـقـط، بـل جــزء ال يتجزأ مـن دولــة والية الفقيه»، ولـم تخجل صحيفة األخبار الناطقة باسم الحزب بـتـهـديـد الــخــصــوم صــراحــة بـالـقـتـل مـثـبـتـة إرهـــــاب الحزب وجرائمه السابقة والالحقة. حني انتهى الحزب اإللهي من تفاهماته مع النصرة، وافق على تولي الجيش مواجهة داعش، وأسجل هنا تخوفي من مؤامرتني؛ األولى توتير متعمد داخل عرسال ومخيماتها لتهجير العراسلة والالجئني و«تنقية» الحدود الشرقية طائفيا، والثانية إحراج الجيش أمام داعش فتجتمع «األقليات» والدولة على استدعاء الحزب ملواجهة داعش ألول مرة في التاريخ، فتتكرس الذمية الطوعية الجماعية من بوابة عرسال والحدود الشرقية، وهذه الذمية أرضيتها خصبة بتراجع الدور الوطني للمسيحيني وللدروز. وفــق مصدر دبلوماسي، ذهــب السفير الكويتي إلــى وزيــر الخارجية جـبـران باسيل مقدما مذكرة احتجاج بخصوص خلية حزب الله اإلرهابية في الكويت، واتفقا - بعد تفهم السفير - على تسريب املـذكـرة لرفع الـحـرج عـن الـوزيـر أمــام الـحـزب اإللـهـي، ولــو كنت مكان السفير لنصحت الـوزيـر بصالة ميخائيل نعيمة «نجني اللهم من صديق يدعي أنـه يحبني فوق محبته لنفسه». قارنوا بني هذا املوقف وبني موقف الوزير في الجامعة العربية من اعتداء إيران على البعثة السعودية الدبلوماسية. أهال بحقوق املسيحيني الذين تملص بعضهم من شعار «لبنان أوال». وليت املوارنة يقارنون بني عهد رفيق الحريري الذي اتهموه باغتصاب حقوقهم وبني عهد املرشد حسن نصرالله، علهم يرددون قول الشاعر: يــــــــــــــــــا لــــــــــــيــــــــــــت جــــــــــــــــــــــــور بــــــــــــنــــــــــــي مــــــــــــــــــــــــــــــــــــروان دام لــــــنــــــا ولــــــــــــــيــــــــــــــت عـــــــــــــــــــــــدل بـــــــــــنـــــــــــي الـــــــــــــعـــــــــــــبـــــــــــــاس فـــــــــــــــــي الـــــــــــنـــــــــــار
ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﺗﻜﺸﻒ ﺗﻐﻴﺮ ﺍﻟﻤﺰﺍﺝ ﺍﻟﻤﺴﻴﺤﻲ ﻧﺤﻮ ﺇﻳﺮﺍﻥ ﻭﻧﻈﺮﻳﺘﻬﺎ »ﺗﺤﺎﻟﻒ ﺍﻷﻗﻠﻴﺎﺕ«، ﺃﻱ ﺗﻜﺎﻟﺐ ﺍﻟﻤﻜﻮﻧﺎﺕ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﺴﻨﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺴﻨﺔ