هل تصحرنا مبا يكفي؟
عــنـــدمـــا تـــؤملـــك روحــــــك تـــعـــرف أن شوكة علقت في بقايا مشهد أو منظر أو حكاية مــرت بـك فوخزتك وأدمـتـك حتى النخاع، وليس كل الشوك يؤلم ولكن أقسى الشوك إيالمًا هو شوك الجحود.. شوك الجحود ال يؤلم فقط بل يعض وينهش ويمزق ويدمي القلب.. كان الفنان (غازي علي) أخــا اللحن والبحر فـي (اسـتـراحـة الجمعة) على األم بي سـي.. نسيت أنه شاخ كان وجهه كـورق شجرة من أشجار الجنة، كنت أجلس مستمعًا في ضيافة التاريخ وأنا أتابعه مذهوال، فغازي بحر يفيض في بحر.. كنت غارقا في الذكريات وهو غارق في العتب.. كان صوته العميق الحنون املتدثر بعبق الـزمـان الصعب يوقظ الحنني إلـي (روبــي قبا)، رأيـت فيه ما توقعت ومـا لم أتــوقــع.. عيون متعبة فـي أقصى راحـتـهـا.. كــان يقاوم مرضًا أعمى ال يحترم قامته ويتحدث كسنديانة تريد أن تــرتــاح قـلـيـال مــن عـصـف ريـــاح الـــزمـــان.. كــان جرح الكالم يسيل من صدره.. يتحدث عن معاناته مع املرض والبشر بحرقة من ال يستطيع استبدالها بغير ذلك.. يئن.. عيناه تنزفان قطرات تعب حزن.. يتكلم بانكسار املسنني.. وبلغة يابسة عن ألم الحياة وخشونة الخبز وصــعــوبــة الــعــيــش.. فــهــو يــعــيــش فـــي ضــيــافــة القلق وهموم الحياة.. كـان الذبول يطفئ بريق عينيه.. فال عـالمـات على الطريق وال مـؤشـرات فـي املــدى ومــا من املدى غير البته.. كنت أشعر باالكتئاب والضيق ورغبة في االنكفاء وأنـا أتابع قمر األمـة يعاتب زمانا مطلع الشمس فيه كمغيبها، زمنًا يتساوى فيه الفسق مع الشفق، زمـنـًا يتشرد فيه الفنانون العظماء فـي أزقة الــــرزق الــتــي تـضـيـق وتــضــيــق حــتــى اخــتــنــق هواهم.. ويهدي مستفز نفسه عربة تكفي قيمتها لعالج ألف مريض ممن ابتلوا بـالـداء الــذي أصــاب الفنان غازي عــلــي.. فــي زمــن الـسـرعـة والـعـبـث والـــال مــبــاالة لــم يعد هناك مكان في الـذاكـرة لفنانني كتبوا على صفحات مجد من تاريخ اإلنسان.. في زمن السرعة وقلة االهتمام لم يعد الكون مليئا باألشجار واألنغام.. قليلون الذين بقيت لديهم هواية الجلوس مع وردة في ساحة الدار والتحديق في الطيور تلقم بعضها بعضًا حبات قمح جـــاءت بـهـا مــن األرض الــواســعــة.. قـلـيـلـون يتذوقون حالوة اللحن ومذاق األكل ونكهة القهوة.. امأل بطنك سريعًا.. اشرب قهوتك سريعًا.. اسمع أغاني التيك أوي سـريـعـًا.. الــهــث.. الـحـيـاة تسير سريعًا وال أحــد يحدد إلــى أيــن؟ فــي عـالـم الـسـرعـة ال طــرف لخيط العمر وال خط الفقر.. هذا يهوي إلى أعلى على تل مال وأولئك يصرخون إلــى أسـفـل يعانون ضيق الـيـد وقـلـة املال.. ليس ثمة من يصغي.. صوت األنني ال يسمع مع أزيز السيارات (البوجاتي) في هذا الكرنفال املجنون الذي نهاراته بال نهارات وليله يمتد في الليل، نسينا (غازي علي) وتر الحرير وقصة الحب والرواية التي تحتضن ضوء القمر.. نسينا (غازي علي) وآخرين ممن أضاءوا حياتنا بعناقيد كرستالية وبللوا سنوات عمرنا بعطر ال يتكرر.. قليل من الـوفـاء يا قــوم، فثمة (غــازي علي) واحــد وبحر أحمر واحــد وتــاريــخ.. هـل تصحرنا بما يكفي ليصبح املطر مالحًا حتى على عشب األرض!